تجليات العدالة الانتقالية في تونس: أو نافذة للكشف عن مأزق المفاهيم الجميلة


2013-09-20    |   

تجليات العدالة الانتقالية في تونس: أو نافذة للكشف عن مأزق المفاهيم الجميلة

بعدما أودعت الحكومة التونسية موفى سنة 2012 مشروع قانون العدالة الانتقالية الذي أنجزته بمشاركة قوى اجتماعية عدة بالمجلس الوطني التأسيسي، كان ينتظر أن يكون النظر فيه احدى أولويات السلطة التشريعية حسبما ألمح اليه توافق الطيف السياسي على أهمية القانون ومحوريته. الا أن بطء الاعمال التشريعية للمجلس التأسيسي وسقوط اعضائه في صراعات دائمة غير جدول الاولويات وأبقى المشروع حبيس رفوف المجلس نصف سنة كاملة لم تقطعها الا جلسات نقاش له متقطعة باللجان التشريعية.

وفي مقابل ذلك، سعت الأطراف السياسية التي تمثل الاغلبية الحاكمة الى تسويق مشروع قانون آخر يتصل بمحاكمة الماضي هو قانون تحصين الثورة أي مشروع القانون الذي يجيز العزل السياسي لمن كانوا جزءا من منظومة الحكم خلال الحقبة السابقة للثورة. وأبرزت الأغلبية بأن هذا القانون يعد مدخلا لازما لإرساء العدالة الانتقالية، وذكرت ان هذا القانون بما يوفره من تنقية للساحة السياسية من رموز النظام السابق يعد اولوية تسبق أي حديث عن العدالة الانتقالية. وفي ذات الحين سعت الطبقة السياسية الى التطبيع فعليا مع رجال الاعمال الذين حامت الشبهة حول استغلالهم للمال العام ولسلطة الدولة ومؤسساتها لتحقيق اثراء غير مشروع وكانت حجة الهرولة نحوهم حاجة البلاد لجهودهم لمجابهة التحديات الاقتصادية.

تحول الحديث عن العدالة الانتقالية خلال سنة 2013 من مجال التراتيب القانونية وشعارات الثورة الى موضوع لصراع سياسي عنوانه الخفي اعادة صياغة التحالفات السياسية للمرحلة القادمة فحاولت الاحزاب الحاكمة استعمال شعار المحاسبة لتمرير قانون يسمح بعزل خصوم سياسيين تمكنوا في غفلة منها من احتلال جزء هام من المشهد السياسي رغم انهم جزء من منظومة النظام السابق. فيما سعت المعارضة التي كشفت لها انتخابات 23 اكتوبر 2011 عن ضعف قدرتها على الوصول للناخبين بسبب تشرذمها الى صياغة تحالفات انتخابية مع القوى الصاعدة لغاية الاستفادة من اشعاع قيادتها فرفضت قانون العزل السياسي وانخرطت في تحالفات معلنة مع من كانت تعدهم اعداء الثورة وبقايا نظام الديكتاتورية.

عجز المجلس التأسيسي عن استيعاب حدة الصراع وعن احتواء التناقضات الطارئة فأهمل الحديث عن قانون العدالة الانتقالية وتحولت الساحة التي تقع قبالته طيلة صيف 2013 الى عنوان لصراع سياسي مفتوح. وكان في خفايا ما رفع من شعارات سياسية وتوضح سريعا ان المسكوت عنه في صراع الشارع السياسي هو قانون تحصين الثورة والمتابعات القضائية لرجال الأعمال المتهمين بالفساد.

وقبل ان يعلن عن نهاية الازمة السياسية، كانت رسائل التهدئة المتبادلة بين السلطة ومناوئيها صريحة في تناولها للخلاف العميق وتسلطت مضامينها على ما كان يعد مشروعا للعدالة الانتقالية. فقد بادرت السلطة الحاكمة الى الكشف عن قبولها باشتراطات المصالحة اذ أعلن أكثر من طرف من الحكومة ومن حزب الاغلبية الحاكمة أي حزب النهضة عن التراجع عن اقتراح قانون تحصين الثورة بما يؤدي الى الحؤول دون أي استبعاد لسياسيي الحقبة الاستبدادية. كما أعلنت الحكومة من خلال الوزير المكلف بالملف السياسي بتاريخ غرة اوت 2013 أن جلسة التنسيقيّة المنبثقة عن المجلس الأعلى للتصدّي للفساد تسير نحو فضّ ملف رجال الاعمال الذين تتم متابعتهم قضائيا بتهمة الفساد وحسمه بشكل نهائي ضمن قانون خاص ينتظر أن ينحصر بالجرائم الاقتصادية من دون جرائم الاستبداد وغيرها من الجرائم وأن يمكّن المجموعة الوطنية من استرجاع حقها من هذه الأموال التي نهبت أو تمّت الاستفادة منها دون وجه شرعي. واتضح إذا مع بداية انفراج الأزمة السياسية التي عاشت على وقعها تونس أن ثمة توجها نحو تحقيق المصالحة مع سياسيي النظام السابق ورجال أعماله دون محاسبة على أساس أنهم جزء أساسي من المكون السياسي للبلاد، وسط توجه الجميع لطلب ود كبار سياسيي الحقبة الاستبدادية في إطار سعي معلن للتحالف معهم في مستقبل المحطات السياسية والانتخابية.

وفي مقابل تحريك ملفات من كان لهم دور في الفعل السياسي بفعل تجمعهم السياسي او بفضل نفوذهم المالي ترك أمر من اتهموا بالضلوع في سوء استغلال السلطة العامة سواء باقتراف انتهاكات لحقوق الانسان أو في تسهيل استفادة دوائر الفساد المالي من المال العام للقضاء العادي ليتولى معاقبتهم بمعزل عن آليات العدالة الانتقالية بعدما توافق السياسيون في تصوراتهم للخروج من الازمة على عدم عرض أي قانون على المجلس التشريعي مستقبلا للتفرغ لصياغة الدستور واعداد القانون الانتخابي.

وقد يبدو من المفارقات أن الصفقة السياسية التي بدأت تتضح معالمها والتي كان الاعتبار الأساسي فيها لحديث المصالح والتحالفات قد آلت الى نتيجة مماثلة لما كان لمشروع قانون العدالة الانتقالية أن يحققه فيما لو تم اقراره.
فمشروع قانون العدالة الانتقالية الذي استغرق الحوار بشأنه سنتين كاملتين وادعت القوى المدنية التي ساهمت في اعداده انه يشكل تجربة رائدة للعدالة

الانتقالية النموذجية، يشمل صنفين من الجرائم التي اقترفت باستعمال وسائل السلطة حصرا:
-الصنف الاول يتصل بانتهاكات حقوق الانسان، وهو يشمل جرائم التعذيب والممارسات المهينة للذات البشرية والاغتصاب والقتل والاختفاء القسري وكل شكل من اشكال العنف الجسدي، ويعني بالدرجة الأولى موظفي الدولة المكلفين بانفاذ القانون والذين تعمدوا في مواجهة تحركات اجتماعية أو في اطار ادارة الصراعات السياسية للسلطة مع خصومها من معارضيها أو بمناسبة مباشرتهم للأبحاث العدلية تسليط ضغط مادي ونفسي على الضحايا أدى الى المس بكرامتهم البشرية أو الى الاضرار بهم بدنيا ونفسيا أو انتهى الى هلاكهم تحت تأثير التعذيب أو القتل المتعمد،
-فيما يتصل الصنف الثاني بجرائم الفساد المالي والاداري وهو يشمل عمليات نهب الثروة العامة واستغلال النفوذ لتحقيق مصلحة شخصية أو لفائدة الغير والرشوة والارتشاء من قبل سامي موظفي الدولة، وهو يعني بالدرجة الأولى "رجال المال والأعمال" الذين استغلوا وجودهم بدوائر القرار السياسي أو استفادوا من قربهم وصلاتهم بدوائر سلطة القرار لينهبوا المال العام.
فبخصوص انتهاكات حقوق الإنسان، نص القانون على تخصيص دوائر قضائية بمحاكم الحق العام يكون دورها محاسبة المتهمين وعقابهم كما أكد ذات المشروع على أن جرائم التعذيب لا تسقط بمرور الزمن خلافا لما نصت عليه القوانين السابقة. وتاليا، ليس من شأن المصالحة بين الضحية والمتهم، على فرض حصولها، أن تنهي التتبع الجزائي وإنما يعتد بها في تقدير العقاب (الفصل 16).والعكس تماما تقرر فيما يتصل بقضايا الفساد المالي حيث ذكر الفصل 47 بأن لجنة التحكيم والمصالحة تنظر في مطالب الصلح في ملفات الفساد المالي، على أن تؤدي المصالحة فور حصولها الى انتفاء المحاسبة والى انقراض الدعوى العمومية.

وتاليا، اتجه من صاغوا المشروع إلى محاسبة انتهاكات حقوق الإنسان الحاصلة قبل الثورة كافة، فحرموا بمفعول رجعي المتهمين بها من الاستفادة من أحكام مرور الزمن، فيما كان التطرق لجرائم الفساد المالي محتشما، فاكتفوا بذكرها في باب المصالحة دون تخصيصها بإجراءات بحث خاصة أو صياغة تعريف دقيق لها. وصمت المشروع عن محاسبة كبار السياسيين عن افسادهم للساحة السياسية ورعايتهم للاستبداد بعد ان التفت عن تصور مؤاخذات تستحق الكشف عن الحقيقة والمحاسبة غير ما كان مجرما جزائيا في إطار القوانين النافذة من الافعال وكان في ذلك اقرار منه بالتغاضي عن أي محاسبة سياسية.

وتاليا، انسجم مفهوم العدالة الانتقالية كما صاغه الخبراء في هذا المجال مع توجهات السياسيين في صراعاتهم وصفقاتهم. فكان التوافق على ترك أمر أعوان السلطة وموظفيها الذين اتهموا بجرائم السلطة لمجال العقاب والمحاكمة بعيدا عن شعارات المصالحة من جهة أولى، فيما كانت الدعوة صريحة نحو سرعة المصالحة مع رجال الأعمال على نحو ينجيهم من العقاب لقاء تعويضات قد يلزمون لاحقا بدفعها وتمثل جزءا بسيطا من ثرواتهم التي سيتنعمون بها من جهة ثانية، فيما بقي قانون الصمت عن الفساد السياسي سائدا في حق بارونات سياسة ما قبل الثورة على نحو يجعلهم مجددا جزءا من المشهد السياسي من جهة ثالثة. وعليه، تكون سلطة المال قد حمت أصحابها من العقاب، وحمت العصبية السياسية السياسيين من أي ادانة ولو كانت أدبية فيما علق الآخرون جميعا في شرك المحاسبة والعقاب وكان ذلك في إطار مشروع قانوني وفي سياق ممارسة سياسية قامت على أنقاضه واستوعبت مجاله. وبموازاة كل ذلك، شهد الخطاب السياسي التونسي تحولا في الشعارات، بحيث استعيض عن الشعار البراق الذي بشر به "المحاسبة قبل المصالحة" بحديث المصلحة الوطنية وحماية المصلحة العامة حقنا لدماء التونسيين وضمانا لاستمرار السلم الاجتماعي.

وبعيدا عن تغير الشعار بحكم تغير الأولويات، فان تقييم التوجه العام يوجب الاقرار بداية بانه، قد يكون البحث عن مصالحة عالم المال في الإطار المذكور أمرا مبررا نزولا عند احتياجات التنمية، خصوصا أن العدالة الانتقالية هي في عمقها استجابة لحاجة أكيدة للمصالحة تضمن تجاوز الماضي في اتجاه بناء المستقبل كما أن المصالحة السياسية قد تبدو بدورها أمرا مؤكدا لمنع انحدار الازمة السياسية نحو الافق المسدود. وقد يكون الحرص على محاسبة منتهكي حقوق الانسان بدوره وفيا لمبادئ العدالة الانتقالية على اعتبار أن هذه العدالة تهدف الى كشف انتهاكات الماضي بغاية القطع مع الظلم وانهاء فكرة الافلات من العقاب توصلا لمنع عودة منظومة الاستبداد. الا أن التمييز في التعاطي بين من حمته سلطة ماله ومن حمته براغماتية التحالفات السياسية وقدرته على تحريك انصاره من جهة وبين من انتهك حقوق الانسان أحيانا لصالح رجال الأعمال وأحيانا أخرى بأوامر مباشرة من السياسيين من جهة اخرى يطرح أكثر من سؤال حول عدالة معايير هذه العدالة سواء سميت عدالة انتقالية او توافقات سياسية.

كانت العدالة الانتقالية صرعة ما بعد الثورة وعمر الحديث عنها منتديات النخب وقاعات النزل لزمن طويل وكانت محصلتها مشروع قانون اعتبر موازين قوى الاطراف التي ادعى سعيه لمحاسبتها وانتهى السياسيون الى اقصاء فكرة القانون ليصنعوا عدالة انتقائية حسب المقاس عاودت ذات افكار الخبراء وتبنت تناقضاتها. وبين حديث العدالة الهجينة ان فكرة العدالة الانتقالية التي تسوق لها الخبرة الدولية في كل محطة من محطات الانتقال الديموقراطي قد لا تكون في واقع الامر غير صفقات مصالحة عنوانها الأبرز التضحية بمبادئ العدالة ويتم تسويقها في إطار شعارات تضمن القبول بها وقد تكون انتكاسة مشروع العدالة الانتقالية بتونس نافذة فتحت للكشف عن مأزق المفاهيم الجميلة.

في تعريف العدالة الانتقالية كما ورد في مشروع القانون الأساسي المتعلق بضبط أسس العدالة الانتقالية ومجال اختصاصها 
 
الفصل الأولالعدالة الانتقالية على معنى هذا القانون هي مسار متكامل من الآليات والوسائل المعتمدة لفهم ومعالجة ماضي انتهاكات حقوق الإنسان بكشف حقيقتها ومحاسبة المسؤولين عنها وجبر ضرر الضحايا وردّ الاعتبار لهم بما يحقق المصالحة الوطنية ويحفظ الذاكرة الجماعية ويوثقها ويرسي ضمانات عدم التكرار والانتقال من حالة الاستبداد إلى نظام ديمقراطي يساهم في تكريس منظومة حقوق الانسان.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، عدالة انتقالية



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني