بتاريخ 23/11/2018، أصدرت محكمة جنايات بيروت[1] حكما بمعاقبة شخص لقيامه بسرقة شخص مثليّ ومحاولة سرقة شخص آخر بتهديد السلاح، بعد استدراجهما بواسطة برنامجGrander  الذي “يخوّل مثليي الجنس التعارف على بعضهم البعض” (الاقتباس مأخوذ من الحكم).

واللافت أن الهيئات القضائية التي نظرت في الملف على اختلافها (النيابة العامة وقضاة التحقيق والحكم)، أتمّت المحاكمة في القضية المذكورة، من دون أن تثير أي منها إمكانية ملاحقة أيّ من المثلييْن المدعّيين فيها. ومن هذه الزاوية، أظهرت هذه القضية تبايناً إزاء الممارسات السابقة، والتي غالبا ما كانت تحوّل المثليين الذين يلجؤون لحماية القانون إزاء الاعتداءات ضدهم، إلى أشخاص مدعى عليهم بمخالفته. ويُذكّر أن السند القانوني الذي ما زال المثليون يتعرضون من وقت إلى آخر وبشكل انتقائي لملاحقات على أساسه هي المادة 534 من قانون العقوبات التي تعاقب المجامعة خلافا للطبيعة بسنة حبس؛ وهي مادة كانت محاكم عدة رفضت تطبيقها على المثليين، على أساس أن العلاقات المثلية لا تعدّ “مخالفة للطبيعة”، أو أيضا حسب بعضها لأنها حق طبيعي ومشروع  للأشخاص لا تقبل ممارسته أي تجريم.

وعليه، بإمكاننا القول بأن هذه القضية شكلت، رغم بعض الملابسات الواردة فيها والتي نبينها أدناه، تعبيرا جديدا على التحولات القضائية الإيجابية في اتجاه الأشخاص المثليين، من شأنه أن يعزز ضمان حمايتهم.

وبالعودة إلى تفاصيلها، نتبين من الحكم أنّ الشخص المحكوم عليه بالسرقة (وعمره 21 سنة) كان نجح من خلال برنامج Grander في استدراج شخصين مثليين، في وقتين مختلفين، إلى سطح المبنى الذي يقطن فيه. في لقائه الأول، شهر المحكوم عليه مسدسا حربيا استعاره من أحد معارفه، في وجه الشخص المستدرَج واستولى بفعل ذلك على جهازه الخليوي. في لقائه الثاني، هدّد المحكوم عليه ومعه شخص قاصر رافقه وحوكم معه، الشخص المستدرَج بشفرة كاتر، لإعطائه ما بحوزته من أموال. وإذ رفض هذا الأخير الإذعان للطلب، ضربه المحكوم عليه بالشفرة فتسبب له بجرح حادّ قاطع امتدّ على أجزاء من جسده، قبل أن يلوذ بالفرار.

ويظهر تاليا أن القضية وصلت إلى القضاء من خلال طريقين:

  • الأول، حين أبلغ المعتدى عليه الأول عن سرقة هاتفه الخليوي رفعا للمسؤولية،
  • والثاني، حين أبلغت المستشفى التي لجأ إليها المعتدى عليه الثاني لمعالجة جراحه، القوى الأمنية كما يفترض بها أن تفعل في حالات مشابهة.

وفيما بدأت الاجراءات القضائية بخصوص الملفين كلا على حدة، تم ضمهما لاحقا من قبل محكمة جنايات بيروت.

وعلى الرغم من كون واقعة سلب الخليوي ثابتة، فإن المحكوم عليه أوضح خلال استجوابه أمام المحكمة، أن نيّته لم تتجه قط إلى السلب أو القتل، إنما فقط إلى ردع المدعيين عن ارتكاب اللواط. وقد ادّعى أن تصرفه على هذا النحو يأتي كردّة فعل على تعرضه للتحرش من ناطور عندما كان في الثامنة من عمره. وإذ أصرّت محامية المحكوم عليه على عرضه على طبيب اختصاصي بعلم النفس، بيّن هذا الأخير أن المتهم غير مدرك لجميع الأمور ولا يقدر عواقب أفعاله نتيجة عوامل عدة منها المخدرات وإهمال والده وأيضا (وهنا الأمر اللافت) “حاجاته إلى الانتقام من الشخص (المقصود الناطور المزعوم) الذي استغله في طفولته”. وبالاستناد إلى هذا التقرير، اختارت محامية هذا الأخير واقعة التحرش به لتكوّن جوهر دفاعها، في محاولة منها لتحويل موكلها من معتدٍ على مثليين إلى ضحية لأفعالهم: ولهذه الغاية، أدلت في مرافعتها أن موكلها حاول الانتحار من جراء ذلك، بعدما أثارت إحدى المحطات مسألة التحرش بالأطفال. كما صرحت في الاتجاه نفسه أن موكلها أصبح بفعل ذلك عصبيا ولا يتحمل أي كلمة ولا يحب أن يرى صورا مشابهة لما حصل في طفولته وبالتحديد لشخص في حضن آخر وأن تعرضه للمدعيين في هذه القضية ليس إلا انتقاما من الشاذين جنسيا. ورغم أن فعلي التحرش ومحاولة الانتحار، أثارهما المحكوم عليه من دون أن ينهض في المحاكمة أي دليل حسي على حصول أي منهما فعليا، اختارت المحكمة أن تخصص مساحة هامة لهما في متن حكمها، تمهيدا لمنح المتهم “أوسع الأسباب التخفيفية”. وعليه، انتهت المحكمة إلى معاقبة هذا الأخير بجرمي السرقة بقوة السلاح وحيازته بسنة ونصف حبس.

وعلى أساس ما تقدم، أمكننا إبداء الملاحظات الآتية:

أولا، الإقرار بالمثلية ليس جرما…

كما سبق بيانه، تظهر القضية اتجاها قضائيا جديدا لحصر ملاحقة المثليين. بالطبع، لا نقصد من ذلك أن القضاة الذين شاركوا في الملاحقة أو المحاكمة، يسلّمون بالضرورة على غرار ما فعله قضاة عدة كما سبقت الإشارة إليه، بعدم جواز تجريم المثلية. لكن ما يظهر بوضوح من هذا الحكم أن الهيئات القضائية اتفقت ضمنا على أن الإقرار بالمثلية أو الميل المثلي لا يعدّ جرما، طالما أن قانون العقوبة يعاقب فعلا جنسيا (مجامعة محددة في المكان والزمان) وليس هوية أو ميلا. ونستشف هذا الأمر من إعراض النيابة العامة عن الادعاء ضد المدعيين الشخصيين رغم اعترافهما بأنهما مثليان ورغم ثبوت سعيهما إلى لقاء شركاء على برنامج grander.

كما يستشف من قيام كل من الهيئات القضائية (قاضي التحقيق، الهيئة الاتهامية، محكمة الجنايات) بدورها من دون التوسع في التحقيق في مسألة “المثلية” أو إحالة الملف للنيابة العامة لاتخاذ موقف في هذا الشأن. وفيما قد يبدو هذا التوجه منطقيا، فإنه يقطع مع ممارسات سابقة تمّ رصدها، ذهبت في اتجاه ملاحقة مثليين وإدانتهم فقط على خلفية اعترافهم بأنهم كذلك، من دون التثبت من مشاركتهم في مجامعة حصلت مع أشخاص معينين في زمان ومكان محددين. كما أنه يقطع مع ممارسات سابقة ذهبت فيها عدد من النيابات العامة إلى توسيع التحقيقات بشأن حصول مجامعات مثلية، وصولا إلى استجواب أشخاص ملاحقين بالمثلية عن أسماء أشخاص سبق لهم أن أقاموا علاقات معهم تمهيدا لاستدعائهم وملاحقتهم إلى جانبهم[2].

ثانيا، تخفيف المخاطر أبدى من معاقبة المثلية

فيما تؤول هذه القضية إلى تغليب حماية المثليين إزاء المخاطر التي قد تتهدد أشخاصهم أو أموالهم، على وجوب احترام الآداب العامة في الشؤون الخاصة، فإنها تشكل في الوقت نفسه دليلا واقعيا على المخاطر التي تتأتى عن الاستمرار في تجريم المثلية. فماذا لو كان المدعي أقام علاقة فعلية مع المحكوم عليه الذي ذهب للقائه، قبل أن يعمد هذا الأخير إلى تهديده وسلبه؟ هل كانت النيابة العامة تدعي عليهما معا في هذه الحالة بارتكاب مجامعة خلافا للطبيعة، ليحاكم المعتدي مع ضحيته، جنبا إلى جنب؟ وألا يؤدي ذلك في حال حصوله، إلى ثني المثليين عن الاستحماء بالقانون خشية أن يصبحوا في خلاف معه، وتاليا إلى تجريدهم من حماية القانون، واستباحة أشخاصهم وأموالهم؟

قد يكون من الأصحّ على ضوء هذه الأسئلة، أن نقيّم أهمية هذه القضية بشيء من الحذر، بحيث نعتبرها بمثابة محفّز على اعتماد سياسة التخفيف من المخاطر والأضرار harm reduction، التي تبرر الامتناع عن تجريم فعل معين في حال كان من شأن ذلك أن يتسبب بمخاطر أو أضرار اجتماعية أكثر أهمية من المصالح التي يرمي التجريم إلى حمايتها، أكثر مما هي دليل أو حتى مؤشر على اعتمادها فعليا. فهي تحفّز، بما تكشفه من أحداث واقعية، المشرع على إلغاء المادة 534 بالنظر إلى المخاطر الجانبية المسكوت عنها والتي تتمثل في تعريض فئة واسعة من المواطنين للخطر. وهي تحفز في الآن نفسه القضاة على مواصلة اجتهادهم باستبعاد تطبيق هذه المادة على المثليين. كما أنّها، وبما لا يقلّ أهمية مما تقدم، تحفّز النيابات العامة (وبالأخص النيابة العامة التمييزية المخولة توجيه التعليمات العامة والخاصة بشأن تطبيق المواد الجزائية) على اعتماد التوجّه الذي نستشفه منها بشكل منتظم، وتاليا الامتناع عن إجراء أي تقصٍّ بشأن ثبوت أفعال جرمية في إطار الحياة الخاصة أو حتى ملاحقتها لعدم الملاءمة، كلما كان من شأن ذلك أن يؤدي إلى أضرار اجتماعية تتجاوز المنفعة المرجوة من تجريمها (على فرض وجود هذه المنفعة).

فبذلك وفقط بذلك، يطمئن الأشخاص المثليون إلى حماية القانون والقضاء لهم، ويستشعر كل من تسوله نفسه استغلال الرأي المسبق القانوني والاجتماعي إزاء المثلية لاستباحة أشخاصهم أو أموالهم، أن أفعاله لن تبقى من دون معاقبة.

***

ختاما، ومع تسجيل أهمية هذه القضية من الزوايا التي بيناها أعلاه، يبقى نقده واجبا على خلفية أنه استعاد بشكل فاقع يصعب فهمه، صورة نمطية عن المثلية، مفادها المزج بين المثلية والبيدوفيليا وهو المزج والذي يصور المثليين على أنهم بالضرورة معتدون محتملون على القصّر. وهذا ما نستشفه من الأهمية التي أعطاها الحكم، لرواية المتهم التبريرية لجهة أنه تعرض لاعتداء من قبل “الناطور” وهو طفل في الثامنة من عمره، على نحو دفعه إلى الانتقام من المثليين، علما أن هذه الرواية بقيت مجردة عن أي دليل سوى كلام المتهم نفسه. وقد كان أحرى بالمحكمة أن تبرّر تخفيف العقوبة بالوضع المالي والاجتماعي للمتهم بشكل عام أو بتعاطيه المخدرات، من أن تستند إلى صورة نمطية تناقض في عمقها الاتجاه الإيجابي الذي أخذه منحى هذه القضية وفق ما سبق بيانه. ربما اتجهت المحكمة لاستعادة هذه الصورة النمطية من دون إدراك آثارها السلبية، أو ربما فعلت ذلك قصدا تحسبا لأي اتهام لها بالإفراط بالتسامح مع المثليين أو حمايتهم. لكن المؤكد أنها لا تحتاج إلى أي مبرر من هذا القبيل. فشرف المحكمة، أي محكمة، يتمثل في نجاحها بضمان الحماية للجميع. وهذا ما فعلته بشكل لافت استحقّ التنويه.

 

 

 


[1]  تكونت الغرفة من القضاة طارق بيطار رئيسا والمستشارتين ميراي ملاك وفاطمة ماجد.

[2] نزار صاغية، أقواس القزح أمام أقواس المحاكم، جمعية حلم، 2009.