تأليف الحكومة في لبنان: معضلة النظام التوافقي لا الدستوري


2018-12-17    |   

تأليف الحكومة في لبنان: معضلة النظام التوافقي لا الدستوري

قاصرة هي تلك المقاربة التي تظن أن الحلول للأزمات المتعددة والدائمة التي تضرب النظام السياسي اللبناني تكمن في ثغرات دستورية أو غموض ما يكتنف النصوص القانونية المرعية. فالدساتير مجموعة من الأحكام العامة التي تتكيف مع الواقع إذ قد يكون الغموض أحيانا من الأمور الايجابية التي تسمح للممارسة السياسية أن تتطور بشكل يمنح النص مرونة تسهل عمل المؤسسات بشكل منتظم وفعال. لذلك لا يجب الاعتقاد أن مجرد تحديد القواعد الدستورية بدقة متناهية ومفصلة هو وحده كفيل بمنحها فعالية مستقلة تفرض ذاتها على السلطة.

صحيح أن الدساتير لا تستطيع أن تحيط الواقع السياسي من مختلف جوانبه وأن تخضعه كليا لمنطقها القانوني المجرد لكن الأكيد أنه يمكنها أن تتوقع اللحظات الكبرى التي تتمفصل حولها الحياة السياسية في دولة ما، وأن تحاول قدر الامكان استباق الأزمات عبر فرض اجراءات تمكن المؤسسات الدستورية من تفادي التعطيل المتعمد لمرافق الدولة.

وقد شاعت مقولة الثغرات المتعددة التي توجد في الدستور الأمر الذي يجعل البعض يطالب بتعديل هذا الأخير من أجل سد تلك الثغرات عبر اقتراح آليات تسهل عملية تشكيل الحكومة. والحقيقة أن هذا التصور يجانب الصواب ليس لناحية حاجة الدستور إلى تعديل لكن لجهة اعتباره أن هذا النقص في النص الدستوري هو مجرد مجموعة من الثغرات. فالثغرة هي إبهام غير مقصود يعتري مادة ما من مواد الدستور لم يتنبه لها المشرع عند سنها. فالإبهام بهذا المعنى لا قيمة سياسية له، وهو واقعا ظاهرة يتم اكتشافها لاحقا خلال الممارسة، ولا يظهر الوعي بها إلا في مناسبة طارئة من غير المتوقع أن يتم التنبه إليها قبل حدوثها.

جراء ما تقدم، لا يمكن اعتبار الإبهام متعدد الأوجه في الدستور اللبناني مجرد ثغرات بل هو في حقيقة الأمر قرار سياسي مقصود ومتعمد تفرضه الاعتبارات الطائفية التي يمكن وصفها بأنها الناظم الخفي لمختلف أحكامه. وما يشكل تجليا ساطع العيان لهذا الوضع هو غياب مهلة دستورية من أجل تشكيل الحكومة وترك الأمر رهن تقدير رئيس الحكومة المكلف. فعند اجتماع النواب في مدينة الطائف السعودية سنة 1989 من أجل الاتفاق على تعديل الدستور في خضم الحرب الأهلية التي كانت تعصف بلبنان، اقترح بعض النواب وضع مهلة شهر على رئيس الحكومة المكلف من أجل تشكيل الحكومة وإلا جاز لرئيس الجمهورية سحب التكليف واجراء استشارات نيابية جديدة من أجل تسمية رئيس جديد للحكومة. لكن الرئيس صائب سلام اعترض معتبرا أن هكذا اقتراح يمس صلاحيات رئيس مجلس الوزراء ويمنح رئيس الجمهورية قدرة أكبر على التحكم بعملية تشكيل الحكومة. ولا يمكن فهم هذا الاعتراض إلا انطلاقا من المنطق الطائفي الذي يجعل من رئيس مجلس الوزراء ممثلا للطائفة السنية في النظام اللبناني. فالإبهام هنا هو قرار متعمد يهدف إلى الإبقاء على التوازن الطائفي ولو أدى ذلك إلى تعطيل السلطة التنفيذية التي ينحصر دورها خلال استقالة الحكومة بتصريف الأعمال.

وهنا تحضرنا مساهمة المفكر الألماني الشهير والخطير كارل شميت الذي رفض النظرة التقليدية إلى الدستور كمجرد قاعدة أساسية (norme fondamentale) تسمو شكليا على سائر النصوص القانونية كونها تحتل رأس الهرم القانوني في دولة ما. لذلك ميز شميت بين الدستور والقوانين الدستورية. فبينما تعتبر النظرية التقليدية الكلسنية أن هذا التفريق غير جائز كون الدستور لا يختلف شكليا عن القوانين الدستورية يرى شميت أن الدستور هو في ماهيته القرار السياسي الأساسي الذي يحدد وجود الدولة وبالتالي لا يجوز اختزاله كمجرد نص قانوني يحتوي على آليات معينة تحكم عمل السلطات والتي تدخل ضمن القوانين الدستورية. فالدستور هو عبارة عن إرادة سياسية حول جوهر الدولة والنظام بينما القوانين الدستورية هي عبارة عن أحكام تفصيلية ذات أهمية ثانوية تستند في وجودها على الدستور. يقول شميت في هذا المجال:

“La constitution est valide grâce à la volonté politique existante de celui qui la donne. Toute espèce de normation juridique, même la réglementation légiconstitutionnelle, présuppose l’existence d’une telle volonté. En revanche les lois constitutionnelles n’ont de validité que sur le fondement de la constitution et présupposent une constitution’ (Carl Schmitt, Théorie de la constitution, PUF, 2008, p. 153).

فدستور لبنان الواقعي أصبح التوافق بين زعماء الأحزاب الطائفية. التوافقية هي القرار السياسي الذي يتحكم بكل مفاصل الدولة ويفرض نفسه كمصدر مطلق لمشروعية أي عمل كان. وبالتالي اذا كان عدم وجود مهلة لتأليف الحكومة هو ثغرة من وجهة نظر القانون الدستوري التقليدي لكنه وفقا لفهم شميت أمر طبيعي لأنه يستند إلى دستور لبنان الحقيقي، أي التوافق الطائفي الذي لا يعترف بحل الخلافات عبر المؤسسات الرسمية، لكنه يرد كل شيء إلى الإرادة المشتركة للزعماء والتي باتت تتخذ اسم “الميثاقية”.

وهذا أيضا يساعدنا على فهم ردة الفعل عقب البيان الذي صدر عن رئاسة الجمهورية في السابع من الشهر الجاري والذي قال:”إن فخامة الرئيس يعتبر أن حق تسمية دولة الرئيس المكلف تشكيل الحكومة منحه الدستور إلى النواب من خلال الاستشارات النيابية الملزمة (المادة 53- الفقرة 2). وبالتالي فإذا ما استمر تعثر تشكيل هذه الحكومة، فمن الطبيعي أن يضع فخامة الرئيس هذا الأمر في عهدة مجلس النواب ليبنى على الشيء مقتضاه”. فهذا البيان يهدف إلى إدخال منطق المؤسسات مجددا عبر الاحتكام إلى آلية غير ملحوظة في الدستور صراحة بغية إيجاد مخرج دستوري لأزمة التأليف ما أدى إلى إعلان مجموعة كبيرة من رؤساء الحكومات السابقين إضافة إلى مفتي الجمهورية رفضهم لمثل هكذا حل كونه يعتبر مسا ميثاقيا بصلاحيات رئيس مجلس الوزراء المكلف أي خرقا للتوافقية.

وهكذا يبرز الوجه السافر للنظام اللبناني إذ الميثاق ليس هو الدستور الحالي بل (التوافق بين الزعماء) هو الدستور بينما الدستور المكتوب هو مجموعة من القوانين الدستورية الهامشية. فعندما يعلن زعماء الطوائف أن هذا التصرف أو ذاك مخالف للدستور، فهم في حقيقة الأمر يقصدون مخالفا للميثاق أي القرار السياسي الذي يعتبر أن كل عمل يحتاج إلى إجماعهم.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، دستور وانتخابات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني