تطور لافت في محاكمة حيازة المخدرات في المغرب: “الأصل في الإنسان البراءة”


2018-12-11    |   

تطور لافت في محاكمة حيازة المخدرات في المغرب: “الأصل في الإنسان البراءة”

في أبريل 2018 الماضي، أصدر القاضي عبد الرزاق الجباري رئيس غرفة التلبس بالمحكمة الابتدائية بالقنيطرة حكما يعتبر من بين الأحكام المبدئية قضى ببراءة متهم من جنحة حيازة المخدرات والإتجار فيها، بعد إثبات عكس ما جاء في محضر الشرطة[1]. واللافت أن القاضي الجباري بنى حكمه على قرينة البراءة.

تفاصيل القضية

تعود فصول القضية الى 20 آذار 2018 حينما أوقفت شرطة القنيطرة مجموعة من الأشخاص المشتبه في تعاطيهم لاستهلاك المخدرات وترويجها في أحد المقاهي، ومن بينهم المتهم الذي تم الاستماع اليه تمهيديا، في محضر قانوني رفض توقيعه، واعترف فيه بضبطه متلبسا بحيازة قطع من المخدرات كان يعدها للبيع بالمقهى.

وبناء على إحالة الملف على النيابة العامة، أنكر المتهم حيازته للمخدرات وإتجاره فيها، منازعا في كل تصريحاته التمهيدية المعروضة عليه، وقررت النيابة العامة متابعته في حالة اعتقال.

وبناء على إدراج القضية بجلسة 22 آذار 2018، أحضر إليها المتهم في حالة اعتقال، وجدد إنكاره للإتجار في المخدرات، مؤكدا، أنه رفض التوقيع على محضر استماعه تمهيديا، لأنه لم يستمع إليه بالمرة من طرف الشرطة، ولم يدل بما جاء فيه من تصريحات، مردفا، أن صاحب المقهى “حميد”، كان شاهدا على عملية توقيفه.

بناء على هذا المعطى، وتحريا للحقيقة، أمرت المحكمة باستدعاء الشاهد “حميد”، والذي صرح بعد أدائه اليمين القانونية أن المتهم كان بالمقهى، وساعة دخول الشرطة إليها كان جالسا، وبعد أن فتشوه، لم يجدوا بحوزته أي مخدرات. وبعد ذلك، قدم لديه -أي للشاهد- أحد عناصر الشرطة، ورافقه إلى سبورة لوائح “اللوطو”، فوجد بها قطعا من المخدرات. مؤكدا، أنه لم يعثر عليها في حوزة المتهم، وأن المسافة بين السبورة المذكورة والمكان الذي كان يجلس به المتهم حوالي 10 أمتار، ممثلا لذلك بالمسافة الفاصلة بين منصة الحكم وبين مؤخرة القاعة، مفيدا، أن لديه شريطا مصورا يوثق ذلك. بناء على اطلاع المحكمة، فورا، على شريط الفيديو المذكور بواسطة هاتف الشاهد، وتبين لها صحة ما جاء في تصريحاته أمرت باستدعاء ضباط الشرطة محرري المحضر.

خلال جلسة 05 نيسان 2018، استمعت المحكمة لضباط الشرطة كشهود في هذه القضية، حيث أكد الأول أنهم توصلوا بمعلومات بواسطة مخبر مفادها أن المتهم يتاجر في مخدر الشيرا بالمقهى، وأنهم تتبعوه عدة مرات دون أن يتمكنوا من ضبطه متلبسا. وأضاف أنهم دخلوا هذه المرة إلى المقهى، وقاموا بتفتيش مجموعة من الأشخاص، وأن كل عنصر منهم وقف على شخص، ثم قاموا بتفتيش المتهم وعثروا بجيبه على عشر قطع من المخدر. مسترسلا، أنهم، وبعد ذلك، قاموا بتسليم المتهم للضابط محرر المحضر، وأخبروه بأنهم ضبطوه وهو متحوز على كمية من مخدر الشيرا. أكد الشاهد الثاني والثالث نفس تصريحات الشاهد الأول موضحا بأن مفتش الشرطة ا ج هو من عثر على المخدر المحجوز بجيب المتهم، وهو من أخبرهم بذلك.

وبعدما عرضت المحكمة شريط الفيديو المدلى به الذي يوثق لمداهمة المقهى، ويظهر فيه أن الشهود الثلاثة، وباعتبارهم رجال شرطة، قاموا بتفتيش المتهم ورفقائه تفتيشا دقيقا، عن طريق فتح معاطفهم الرياضية، وإدخال أيديهم بكل جيوبها، الداخلية والخارجية، وكذا جيوب سراويلهم، ولم يعثروا بحوزتهم -بمن فيهم المتهم- على أي مخدر، لدرجة أن بدأوا في تفتيش أرضية الطاولات، إلى أن طالبوا المعنيين بالأمر بالجلوس، حينها ذهب مفتش الشرطة ا ج (الشاهد الأول) في اتجاه الكاميرا، وغاب بعض الثواني، ثم عاد وكأنه يدخل شيئا إلى جيبه بيده اليمنى، وهو يستل الأصفاد بيده اليسرى، واتجه نحو المتهم، وقام بتصفيده.

وبناء على تعرف الشهود على أنفسهم في الشريط المشار إليه، وعدم منازعة أي منهم في صحته، أعطيت الكلمة إلى الشاهد أ ج، لتقديم مستنتجاته حوله، فنفى أن يكون قد عثر على المخدرات بسبورة أوراق “اللوطو”، مؤكدا، أن جيب “جاكيط” المتهم كانت ممتلئة بالمخدرات، رغم أنه لم يدخل يده في جيبه، وأنه شعر بوجودها عن طريق الجس، وأنهم ذهبوا به، لحظتها، إلى سيارة المصلحة، حيث أخرجوا المخدرات من جيبه. مردفا، أنه لا يمكنه إخراج المخدرات من جيبه بالمقهى.

وبناء على الاسترسال في استنطاق المتهم، تشبث بإنكاره المشار إليه، موضحا، أنه رفض التوقيع بالمحضر لأنه لم يستمع إليه بالمرة. وتناول الكلمة السيد وكيل الملك، الذي التمس من خلالها الحكم بإدانة المتهم وفق مواد المتابعة، والحكم عليه بعقوبة ملائمة لخطورة الأفعال، بناء على محضر الضابطة القضائية، وشهادة الشهود (ضباط الشرطة) المستمع إليهم، الذين أكدوا أنهم أوقفوه وعثروا بجيبه على 10 قطع من مخدر الشيرا.

قرار المحكمة: البراءة على المقعد

بعد اختتام المناقشات، قرر القاضي عبد الرزاق الجباري حجز القضية للتأمل والنطق بالحكم على المقعد، وقضى ببراءة المتهم من المنسوب اليه اعتمادا على الحيثيات التالية:

“لئن تضمن محضر الحجز والإيقاف، وبعده محضر استماع المتهم، كون هذا الأخير ضبط وهو متحوز على كمية من مخدر الشيرا، لما كان بصدد بيع المخدرات؛ فإن هذين المحضرين يوثق بمضمونهما: “ما لم يثبت ما يخالفهما بكل وسائل الإثبات، بما في ذلك شهادة الشهود الذي يوكل أمر تقدير شهادتهم إلى السلطة التقديرية للمحكمة”[2].

وحيث جاءت شهادة الشاهد حميد (صاحب المقهى)، واضحة ولا لبس فيها، بل ومتطرقة لأدق تفاصيل القضية ومتماسكة في كل جوانبها، إذ أفاد: “أن المتهم كان بالمقهى، وساعة دخول الشرطة إليها كان جالسا، وبعد أن فتشوه، لم يجدوا بحوزته أي مخدرات.. كما أن ضابط الشرطة رافقه إلى سبورة لوائح “اللوطو”، فوجد بها قطعا من المخدرات، وأن المسافة بين السبورة المذكورة والمكان الذي كان يجلس به المتهم حوالي 10 أمتار، ممثلا لذلك بالمسافة الفاصلة بين منصة الحكم وبين مؤخرة القاعة”.

وحيث إن مما يؤكد صدق وصحة هذه الشهادة، هو ما تضمنه شريط الفيديو المدلى به من طرف الشاهد ذاته، والذي يُوَثِّق مضمونها بتفاصيل أكثر دقة دونما أي منازعة في صحة مضمونه من قبل الشهود، إذ: “يظهر فيه أن الشهود، وباعتبارهم رجال شرطة، قاموا بمداهمة المقهى، وفتشوا المتهم ورفقاءه تفتيشا دقيقا، عن طريق فتح معاطفهم الرياضية، وإدخال أيديهم بكل جيوبها، الداخلية والخارجية، وكذا جيوب سراويلهم، ولم يعثروا بحوزتهم -بمن فيهم المتهم- على أي مخدر، لدرجة أن بدأوا في تفتيش أرضية الطاولات، إلى أن طالبوهم بالجلوس، حينها ذهب مفتش الشرطة أ ج في اتجاه الكاميرا، وغاب بعض الثواني، ثم عاد وكأنه يدخل شيئا إلى جيبه بيده اليمنى، وهو يستل الأصفاد بيده اليسرى، واتجه نحو المتهم، وقام بتصفيده”.

وحيث إن مما يعضد وسيلتي الإثبات هاته، هو ما شاب تصريحات ضباط الشرطة المستمع إليهم كشهود في هذه القضية من تناقضات، إذ صرحوا قبيل مشاهدتهم للشريط المذكور: “أنهم، ولما دخلوا إلى المقهى، قاموا بتفتيش المتهم، وعثروا بجيبه على عشر قطع من مخدر الشيرا”، قبل أن يتراجع أولهم المسمى أ ج عن تلك التصريحات جملة وتفصيلا، مفيدا: “أن جيب “جاكيط” المتهم كانت ممتلئة بالمخدرات، رغم أنه لم يدخل يده في جيبه، وأنه شعر بوجودها عن طريق الجس، وأنهم لحظتها ذهبوا به إلى سيارة المصلحة، حيث أخرجوا المخدرات من جيبه، وأنه لا يمكنه إخراج المخدرات من جيبه بالمقهى”.

وحيث إن مما يزيد من تعميق حدة هذا التناقض، هو ما وثَّقه الشريط أعلاه، إذ أظهر أن الشاهد المذكور، رفقة الشاهدين الآخرَيْن، قام: “بتفتيش المتهم عن طريق فتح معطفه الرياضي، وأدخل يده بكل جيوبه، الداخلية والخارجية، وكذا جيوب سرواله، ولم يعثر بحوزته على أي مخدر”، خلافا لما صرحوا به جميعا أمام المحكمة، سواء قبل مشاهدتهم لشريط الفيديو، أو بعده فيما يخص تصريحات أولهم، الذي أفاد عن غير حق: “أنه لم يُدخل يده في جيب المتهم، وأنه شعر بوجود المخدرات عن طريق الجس، وأنهم أخرجوا المخدرات من جيبه بسيارة المصلحة”.

وحيث إنه، ثبت للمحكمة، بصفة قطعية يقينية، بعد إعمالها لقواعد “الاستدلال المباشر” المبني على مفهوم التقابل بالتضاد بين مجمل القضايا التي تنطوي عليها تلك المعطيات، كما هو مقرر في محله من “علم المنطق”، عكس ما تضمنه المحضران أعلاه، واقتنعت، تبعا لذلك، اقتناعا وجدانيا صميما بعدم ثبوت جنحة حيازة المخدرات والإتجار فيها واستهلاكها في حق المتهم؛ مما يتعين معه القول بعدم مؤاخذته من أجلها، والتصريح ببراءته، عملا بالمبدأ المنصوص عليه في الفصل 119 من الدستور، والمادة الأولى من قانون المسطرة الجنائية، والقاضي بأن: “الأصل في الإنسان البراءة”.

ملاحظات حول القضية

يستتتبع القرار المذكور أعلاه مجموعة من الملاحظات، أبرزها الآتية:

  • أنه يقدّم حالة تطبيقية في سياق معالجة مشكلة مزمنة قوامها رفض المحاكم فتح باب إثبات عكس ما ورد بمحاضر الشرطة. وكان سبق لمنظمات حقوقية وطنية ودولية أن أثارث هذه الاشكالية، تحت عنوان “وقع هنا فحسب المحاكمات الجائرة بناء على الاعترافات التي دونتها الشرطة“. وقد أشارت المنظمة إلى أن حجية محاضر الشرطة التي تحررها في الجنح بالمغرب تعد مطلقة، حتى لو رفض المتهم التوقيع عليها، مما يعد انتهاكا لضمانات المحاكمة العادلة. وكان محامون أثاروا في الكثير من قضايا الجنح اشكالية تقييد سلطة القضاة في تقدير وسائل الاثبات المعروضة عليهم في حالة وجود اعتراف مسبق للمتهم مدون في محضر الشرطة. حيث ينص الفصل 290 من قانون المسطرة الجنائية على أن محاضر الشرطة في الجنح يوثق بمضمونها ما لم يثبت العكس؛ أي بمفهوم المخالفة أنه لا يوثق بمضمون هذه المحاضر إذا ثبت ما يخالفها. ولكن الاتجاه القضائي السائد حاليا يرفض فتح باب إثبات عكس ما ورد بهذه المحاضر، وهو ما يجعلنا في مواجهة أزمة نفي يصطدم بها كل من يفكر في نفي صحة ما جاء في هذه المحاضر[3].
  • أنه على عكس المعهود، عملت المحكمة على البحث عن وسائل لإثبات عكس ما دوّن في محضر الشرطة من اعتراف للمتهم، وقد عللت قرارها غير المعهود بحرصها على ضمان الحق في المحاكمة العادلة المقررة بمقتضى الفصل 120 من الدستور، ودورها في البحث عن الحقيقة الذي لا يحده أي قيد قانوني، فضلا عن إمكانية استدعائها لكل من ترى في إفادته مساعدة للوصول إليها والاستماع إليه كشاهد وفق القواعد المقررة للاستماع إلى الشهود، تطبيقا للمادة 325 من قانون المسطرة الجنائية. ويؤمل من هذه الزاوية أن يشكل قرار المحكمة الابتدائية في القنيطرة منعطفا لتغيير طريقة تعامل القضاء مع اشكالية رفض التوقيع في محاضر الشرطة المتضمنة لاعترافات متهمين في انتظار تدخل تشريعي يقوي من ضمانات المتهمين خلال مرحلة البحت التمهيدي ويسمح بحضور الدفاع، واستعمال كاميرات لتسجيل اعترافات الموقوفين أمام الشرطة.

أنه من البين أن السند الرئيسي للمحكمة لنقض مضمون محضر الشرطة هو الفيديو المصور، الأمر الذي يدعونا مجددا للتفكير حول خطورة الدورية الصادرة عن المدير العام للأمن الوطني بالمغرب، عبد اللطيف الحموشي، لحثّ عناصر الشرطة على تحرير محاضر وتوقيف كل شخص يحاول أو يقوم بتصوير عناصر الأمن أثناء أداء عملهم من دون إذن، مع نزع هاتف المصور الذي يخرق القانون. فلو لم يتسن للأشخاص المتواجدين تصوير الحادثة، لما تمكنت المحكمة من مناقشة صحة المحضر إطلاقا.

 


[1]– حكم المحكمة الابتدائية بالقنيطرة صادر، بتاريخ 05 أبريل 2018، في الملف 413/2103/18.

[2]– قرار محكمة النقض  صادر بغرفتين، تحت عدد 5822، بتاريخ 08-03-2006.

[3]– يوسف وهابي: القضاة يتنازلون عن صلاحياتهم لفائدة البوليس، مقالة منشورة بجريدة الصباح بتاريخ 02/12/2010.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، استقلال القضاء ، محاكمة عادلة وتعذيب ، المغرب



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني