برنامج “عاطل عن الحرية” يتضامن مع المرأة عبر استضافة قاتلها


2018-11-28    |   

برنامج “عاطل عن الحرية” يتضامن مع المرأة عبر استضافة قاتلها

شكلت قضية منال عاصي التي قتلت بطريقة وحشية على يد زوجها محمد النحيلي عام 2014 منعطفاً أساسياً في قضايا النساء ضحايا العنف الأسري. فقد كرّس الحكم الصادر عن محكمة التمييز في 2 تشرين الثاني 2017 نظام المساواة بين الرجل والمرأة على صعيد الحماية القانونية، منهيا امكانية التذرع بجرائم الغضب بعدما كان المشرع ألغى امكانية التذرع بجرائم الشرف. وقد انتهت المحكمة إلى معاقبة النحيلي ب ـ18 سنة سجن بتهمة القتل المتعمد.

وشكلت هذه القضية أيضاً نقطة تحوّل هامة في الخطاب العام بعد صدور قرار محكمة جنايات بيروت في 14 تموز 2016 الذي كان برر الجريمة معتبراً أنها حصلت تحت وطأة الغضب، فقضت بسجن النحيلي بعقوبة خمس سنوات سجنية (فعليا ثلاث سنوات وتسعة أشهر).

فمع الإعلان حينها عن الحكم، اجتمعت الجمعيات المدنية للمطالبة بتمييز الحكم. وواكبها عدد من المحطات التلفزيونية والصحف لتبيان أهمية الطعن في الحكم. كما خصصت “المفكرة” عددا خاصا حول القضية تحت عنوان “عودة البطل” للدلالة على عودة الذكورية ومنطق الإستقواء على النساء في هذه الحالة. وانضم إلى المعترضين عدد من الأحزاب السياسية التي رفضت العودة إلى تطبيق جريمة الشرف. هذا الائتلاف الأول من نوعه بين هذه القوى أدّى في نهاية المطاف إلى دفع النائب العام التمييزي القاضي سمير حمود إلى تمييز الحكم وتكريس التغيير على صعيد مقاربة النيابات العامة لقضايا العنف ضد النساء.

الباحثة جويل بطرس تابعت الحلقة من برنامج “عاطل عن الحرية” خصصت للنحيلي، وذهبت في اتجاه معاكس تماما لما تحقق اجتماعيا على صعيد حماية المرأة من العنف (المحرر)

بمناسبة “اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة” وتزامناً مع حملة الـ16 يوم المرافقة لهذا الحدث، قررت قناة mtv التضامن مع المرأة من خلال استضافة السيد محمد النحيلي، المحكوم عليه بتعنيف وتعذيب وقتل زوجته منال عاصي. وكانت المحطة أطّلت علينا منذ أيام بإعلان ترويجي لبرنامجها “عاطل عن الحرية” الذي يقدمه سمير يوسف لتزف لنا خبر حلول النحيلي، “أشهر سجين بلبنان”، كما وصفه الإعلان “ضيفاً” على البرنامج. “الكلّ حكي عنه بالصحافة والأخبار ونزّل الجمعيات عالشارع…”. يخيّل للمشاهدين بعد هذه المقدمة أن “الضيف” حاز على إهتمام الإعلام والرأي العام كونه فنانا عالميا أو شخصية مرموقة. نكتشف بعدها أن النحيلي حُكم عليه بالسجن “بعد مشكل مع زوجته منال عاصي أدى إلى وفاتها”. يظهر الإعلان أن النحيلي لم يتعمد قتل زوجته وأن ما حصل كان نتيجة “مشكل”. يفوته أن النحيلي استمر في تعذيب زوجته لساعات قبل أن تفارق الحياة. كان يكفي معدّ البرنامج الاطلاع على الحكم النهائي للقضية أو على أي تقرير إخباري رافق صدوره للحصول على تفاصيل الجريمة.

ثم تأتي لحظة الإعلان عن السبق، الذي لأجله يستبيح إعلاميون عدة بأخلاقيات المهنة. فـ”لأول مرة يخرج محمد النحيلي عن صمته ويكشف تفاصيل هذا النهار”. نضيع هنا. أليس النحيلي محكوماً ومسجوناً في سجن روميه؟ هل يحق له الظهور على الشاشة للدفاع عن نفسه؟ ثم من فوّض مقدم البرنامج بلعب دور محامي الدفاع عن القاتل؟ ومن سمح له باستضافة القاتل كي يخرج “عن صمته” لتبرير فعلته وربما لتشجيع آخرين بحذو حذوه؟

حصلنا على الإجابات في الحلقة التي عرضت مساء أمس الثلاثاء 27 تشرين الثاني على الـmtv. فعلى الرغم من الانتقادات الكبيرة التي رافقت بث الإعلان وإرسال جمعية “كفى عنف واستغلال” رسالة رسمية إلى إدارة المحطة تطالبها فيها بعدم إباحة فضائها لقاتل زوجته، إلا أن هذه الأخيرة لم تستجب وأبقت على الجدولة المعتادة لبرامجها.

الجريمة على لسان قاتل منال عاصي

يسبق بداية الحلقة تنويه لإحتواء ردة فعل المشاهدين. “لا تتبنى محطة mtv ولا أسرة عاطل عن الحرية ما يرد على لسان قاتل منال عاصي. وتؤكدان أن ما من حجة مهما كانت تبرر جريمة القتل”.

على وقع هذه الكلمات، تبدأ الحلقة. النحيلي يجلس قبالة يوسف ويبكي. يعطيه هذا الأخير صوره مع منال. يعرضها أمام الكاميرا ويستمر بالبكاء. يريد يوسف منذ اللحظة الأولى إظهار الوجه الحنون للنحيلي الزوج المشتاق لزوجته والنادم على فعلته. ننتقل من بعدها إلى فقرة “إعادة تمثيل الأحداث” التي يتولاها ممثلون محترفون، رودريغ سليمان (النحيلي) وكريستين شويري (منال). تتلقى شويري (منال) رسالة على هاتفها. تبتسم عندما تقرأها. في هذا الوقت، سليمان (النحيلي) يعمل على إفراغ حمولة ماء من صهريجه. رُسِم إطار الحلقة: المرأة “الزانية” تراسل عشيقها في المنزل فيما زوجها الكادح يعمل لتأمين حاجات المنزل.

يخرج بعدها يوسف للمرة الأولى على المشاهدين. يكشف أنه حاول طوال أربع سنوات أخذ مقابلة من النحيلي وهذا الأخير يرفض. لكن “وبعد صدور حكم التمييز، اقتنع بضرورة الخروج عن صمته”. يوحي لنا يوسف بأن حكم محكمة التمييز كان مجحفاً بحق النحيلي، لذا قرر هذا الأخير البوح بما لديه أمام كاميرا “عاطل عن الحرية”. وهذا الإيحاء يتعارض بالمبدأ مع تبرؤ الحلقة مما قد يدلي به النحيلي.

يبدأ النحيلي بسرد تفاصيل هذا “النهار الأسوأ” في حياته. “إجاني missed call. اتصلت مجدداً. إنت محمد النحيلي؟ إنت زوجها لمنال عاصي؟ مش مهم مين معك؟ المهم ضب مرتك عن زوجي. ضبّ مرتك أحسن ما ينخرب بيتي. أنا ما تخايلت إنه منال تقول مرحبا لحدا غير زوجها. تخايل الثقة اللي عندي ياها فيها. ما صدقت هالشي. قلت أكيد مش مزبوط”.

تظهر شويري (منال) وهي تحضر الفاصوليا في طنجرة الضغط “الشهيرة”. تستمر بتلقي الرسائل من “عشيقها” وتبتسم. فيما هو يهرع غاضباً فاقداً صوابه نحو المنزل. يدخل النحيلي إلى المنزل فترتبك منال وتحاول إخفاء التلفون. “رفضت تعطيني التلفون، مرتين وتلاتة. أخدته بالقوة. بفتح التلفون وبشوف صورة اللي كان عشيق زوجتي. أي إنسان محلي بيوقع بالنقطة اللي أنا وصلتلها وبيعرف إنه زوجته بعلاقة مع إنسان تاني والأسوأ بعلاقة جنسية معه…لما ضربتها أول مرة، منال هربت مني. اعترفت إنه بتحبه. مرتي عم تقللي إنه هيي بتحب إنسان غيري أنا. صعبة الإنسان ينجرح وصعبة الرجال اللي عنده بنات وبناته صبايا يحس بالغدر، بعد 18 سنة من حياته هوي وزوجته…غباش بعيوني، إنهيار أعصاب، كل هيدا ما صدقته والأدلة بين إيديي… ليه عملتي فينا هيك؟ شو مقصر أنا تجاهك لتعملي فينا هيك؟”

يتضح هنا هدف الحلقة. محمد يحب منال وهي تحب غيره. هي خائنة وهو قتلها في لحظة غضب وبالتالي فإن جريمته مبررة. يكمل النحيلي في السرد. لا يذكر أنه كان قد تزوج مرة أخرى قبل حوالي أربع سنوات. يترك يوسف هذه المعلومة إلى نهاية الحلقة، منعا لإحراج الضيف أو إضعاف حجته على ما يبدو. منال ومعها عائلتها تتحملان فقط مسؤولية مصيرها، ما تبقى مبرر طالما أن القاتل رجل “قبضاي، متديّن” يحب زوجته وبناته وقد كرّس حياته لأجلهن.

يعترف النحيلي بأنه ضربها “كفين. شو بدي كذب عليك؟” لا يسأله يوسف عما ثبته حكم محكمة التمييز الذي أكد أن منال كانت قد تعرّضت للضرب بشراسة وعنف وضروب من التعذيب في مختلف أنحاء جسدها من الرأس حتى أصابع اليدين والقدمين. كما أشار الحكم إلى أن النحيلي قد امتنع قصداً عن تقديم المساعدة لها، واستمر في ضربها ضرباً مبرحاً بعنف موجهاً لها الـ”بوكسات” على وجهها وممعناً في ركلها برجله في أنحاء مختلفة من جسمها وخاصة في “دعس” رأسها بقدمه بقوة…متعاملاً معها بشراسة متناهية غير آبه بما قد يسببه هذا العنف والاعتداء الجسدي الفاضح غير المألوف تجاه انسان…ما أدى إلى نزيف داخلي في الدماغ دخلت أثرها في حالة “كوما” وعدم استقرار في التنفس وهبوط حاد في الضغط. يتصل بعدها بأمها ويطلب منها المجيء إلى المنزل. تصل برفقة شقيق منال وشقيقتيها. “قلتلن طلعوا. هيدا التلفون، هيدا دليل على إنه منال على علاقة مع… عملوا حالن ما بيعرفوا”. تبدأ هنا حفلة جلد أهل منال. يصوّرهم البرنامج على أنهم عديمو المسؤولية، رجعيون، همهم الأساسي التستر على إبنتهم حتى إن تطلب ذلك إبقاؤها مضرجة بدمائها في المنزل. حتى أنه يظهر شقيقها في أحد المشاهد وهو يهمّ لمغادرة المنزل لإيصال “طلبية ماء” على الرغم من أن شقيقته كانت تحتضر في الداخل. لماذا لم يسأل يوسف والدة منال أو حتى محمد لماذا خاف أهلها من نقلها إلى المستشفى فور وصولهم إلى المنزل؟ لماذا لم يسألهم لماذا ينادونه “قبضاي الحي”، وفق ما جاء على لسان محاميه في الحلقة؟ لماذا لم يكن هنالك أي شخص آخر لعرض رواية الضحية وأهلها؟ سنجيب على هذه الأسئلة في سياق هذا المقال.

يتابع النحيلي برواية نسخته من القصة. “أنا ما معقول عيش مع وحدة وهيي ما بتسوى. بس قلتلها إنه بدي طلق وأخذ الأولاد، منال تغيّرت. ساعتها قلت لأمها تاخدها على المستشفى”. تخرج والدتها لتبحث عن سيارة أجرة. يحملها النحيلي ويأخذها إلى المستشفى. يظهر في المشهد التمثيلي كرجل حنون قلق على مصير زوجته. “قعدت أنا وياها ورا وإمها قدام ورحنا على مستشفى المقاصد. وصلنا على المستشفى وفوتها على الطوارئ وضليت قاعد معها”. يسأل الطبيب عن سبب الكدمات في جسد منال. تجيب والدتها بأنها وقعت عن السلم. تعود الكاميرا إلى النحيلي. “ليش تاني يوم بالذات بطل في سيبة وصرت أنا يلي ضاربها وصار في قصة الطنجرة؟ أنا ما حكيت، إمها يلي حكيت”. يوحي لنا بأنه لم يكن السبب وراء الكدمات العديدة على جسد منال والتي وثقها تقرير الطبيب الشرعي لاحقاً. لا يكتفي النحيلي بالتشكيك بما فعله بزوجته. يقول: “الحمدلله كانت منيحة. بوستها وفليت. خيها يلي قللي فل من المستشفى. وفليت”. قبلها؟ أيعقل أن يكون قد قبلها بعدما أبرحها ضرباً؟ لا يسأله يوسف.

هنا ننتقل لمحمد الرومنسي، العاشق الولهان الذي استفاق على كابوس خيانة زوجته له. يخبر المشاهدين أنه بعدما غادر المستشفى، ذهب إلى مدينة صوفر. لماذا؟ يجيبنا محمد وترافقه موسيقى حزينة تجسد اللحظة. “نمت بطريق العشاق. نمت بالطريق اللي تعرفت فيها على زوجتي منال. على هيدي الطريق، يلي حبيت فيها منال، يلي كنت أعشق فيها منال. حبيتها حب كتير كبير وعشت معها أحلى أيام حياتي. بنتي تالا أحلى هدية بحياتي أنا ومنال. أبو تالا، كل الناس بتعرفني بهيدا الإسم، وبعده إسمي أبو تالا بالسجن”. ثم يكتشف محمد أن منال توفيت ويصرخ بصوت عال، كأنه لم يتوقع ذلك. “أول شي انصدمت. حسيت إنه حياتي وقفت هون. فكرت بتالا وسارة. ما فكرت بإبني الوحيد. فكرت شو رح يصير فيهن. فقررت إنه التجي للعدالة”. يتألق النحيلي بلعب دور الضحية ويساعده البرنامج بذلك. يوفر له الموسيقى التصويرية والمشاهد المناسبة ويركز على دموعه. يريد وبأي ثمن أن يخرج من المشاهد من الحلقة مقتنعاً بأن النحيلي ليس معنفاً وأن ما فعله كان سببه “لحظة تخلي”. لحظة يمكن أن تحصل لأي منّا.

ماذا بعد الجريمة؟

ينتهي النحيلي من سرد فصول الجريمة. يتذكر يوسف بأنه كان قد تزوج مرة ثانية فيسأله عن الموضوع. “مرق 16 سنة بين زواجي الأول وزواجي التاني. انا تزوجت زواج تاني لأن كان في تقصير منها ناحيتي. أنا قلتلها إنه بدي إتزوج. قالتلي عمول يلي بدك ياه”. يحمّل منال حتى مسؤولية زواجه الثاني. يمكنه أن يفعل ما يشاء. فهي ليست هنا لتدافع عن نفسها وحتى لو، فالمساحة اليوم له ليبيّض صورته ويظهر كأنه الضحية الفعلية لهذه الجريمة. يبكي النحيلي أمام الكاميرا. “أكيد ندمان وما كان بدي يصير هالشي. وبتمنى يرجع فيي التاريخ ولا أنا ولا منال نغلط”. يتلو فعل الندامة. “السجن مدرسة حقيقية. اذا صار معي شي، تعلمت إنه صوتي ما بقى علّيه. سلم أمري لربي وللدولة اللبنانية”. ويختم بلوم منال مجدداً على مصيرها، “متل ما أنا عليي حق، الطرف التاني عليه حق”. بالطبع، هو يضع هنا “الذنوب” على نفس المستوى.

إلى جانب النحيلي، استضاف البرنامج طبيبة نفسية كان هدفها تبرير ما قام به النحيلي. آزرها بذلك محامي النحيلي الذي شدد هو أيضاً على الخيانة من خلال التطرق إلى محاكمة عشيق منال وزوجته. كما استعان البرنامج بطبيب شرعي لإثبات “منطقياً” أن منال تعثرت وأوقعت طنجرة الضغط على نفسها. وحدها الأميرة حياة إرسلان، رئيسة “تفعيل دور المرأة في القرار الوطني” دافعت عن منال وعن النساء المعنفات في لبنان. ولكي يعطي البرنامج حق الدفاع لمنال، قابل يوسف والدة منال التي اعتبرت أنها أخذت حقها في الحكم الصادر عن محكمة التمييز.

في الختام، تظهر كريستين شويري في الأبيض. تتكلم بإسم منال حيث ما هي. “ما بقى بدي جمعيات ولا أهلي يحكوا عني”. لكن لا بأس إن كان سمير يوسف يريد النطق بإسم منال. تتابع: “يمكن لو قعدنا حكينا ما كنا وصلنا لهالمأساة”. تحمّل “الوعظة” الأخيرة الطرفين مسؤولية ما حصل. يجري البرنامج بعدها مقابلتين مع شويري (منال) وسليمان (النحيلي) لشرح موقفهما من القضية.

الكلمة الأخيرة لمقدم البرنامج الذي يؤكد على أن النحيلي أحب منال لكن “هل عرف كيف يحبها؟ والسؤال الأهم هل منال حبته متل ما هوي حبها؟ للأسف عند محمد سيطرت الذكورية على الوعي والتواصل، ومنال عاشت ع كلمة طولي بالك وخليكي ساترة حالك. محمد النحيلي ما تقبّل الخيانة واليوم ندمان بس شو نفع الندم ومنال صارت تحت التراب؟” النهاية إذاً كما البداية. إنها جريمة شرف، غير متعمدة، ناتجة عن سورة غضب رجل يعشق زوجته حتى الجنون فيما هي تحب غيره. يلومه يوسف لأنه لم يعلم كيف يتواصل مع زوجته ويلوم أهلها لأنهم دفعوها للبقاء معه. وعليه، سها يوسف عن كمّ من الوقائع التي من شأنها أن تنسف تماما هذا التشخيص الرومنسي لحقيقة العلاقة بينهما. وهذا ما بات من الضروري النظر فيه.

ماذا عن الوقائع التي تغاضى عنها البرنامج؟

يختم يوسف البرنامج بالتأكيد على أن ما سمعه المشاهدون “وقائع ثابتة بحسب الحكم الصادر عن القضاء اللبناني”. لا يطلع المشاهدين على أنه تجنب ذكر الكثير من هذه الملابسات خلال حلقته.

فمحكمة التمييز رفضت إعتبار الجريمة “جريمة شرف” وأن ما قام به النحيلي سببه “سورة الغضب”، بالنظر إلى طول أمد الجريمة. لكن كان للبرنامج رأي مخالف. إذ جهد مقدمه على مدى ساعة لتصوير أن ما قام به النحيلي جاء نتيجة الغضب الشديد لأنه لم يستطع تمالك أعصابه بعدما علم أن منال تخونه مع رجل آخر، وهو ما خلصت إليه محكمة جنايات بيروت في حكمها الصادر عام 2016. كما أن محكمة التمييز رفضت إفادة الزوج من أعذار مماثلة على أساس أن قانون العقوبات تم تعديله لإلغاء جرائم الشرف ولا يجور استبدال عذر الشرف بعذر الغضب.

كما أفرد البرنامج مساحة مهمة للزوج ليؤكد أنه لم يضرب منال بطنجرة الضغط وأنها هي التي أوقعتها، مباشرة عليها. يستعين بتقرير الطبيب الشرعي وبرأي طبيب آخر بالستوديو، “الأرجح أنها تفركشت ووقعت عليها الطنجرة لأن في حروق على ميلة وحدة من جسمها”. ثم يعطي الكلام لمحمد. “الطنجرة فولاد أو حديد. تصوّر لو أنا بدي آكلها مش منال، من ضربة وحدة بقتل…تصوّر إنه أنا ضربتها بالطنجرة. كانت ماتت ع كعبها. بس أنا ما بدي إقتلها لمنال. لو بدي اقتلها كنت أخدت سكين وقتلتها”.

من جهة أخرى، صوّر البرنامج حفلة العنف التي استمرت لساعات كأنها حصلت لدقائق معدودة. “متل أي إنسان، أخدت أول كف وتاني كف” كما قال النحيلي ليوسف وانتهى الأمر. لكن ماذا عن الجرح الذي خلفه النحيلي فوق الشفة العليا لمنال والذي كان طوله 7 سنتيمترات؟ جاء في حكم محكمة الجنايات حينها أن النحيلي قام بلكم عاصي، وجرحها ومصّ دمها، وبصقه في وجه أمها. فات يوسف هذا “التفصيل” الصغير. فهو لم يأتِ على ذكره ولا حتى على إعادة تمثيله. كما فاته أيضاً أن النحيلي ترك عاصي غارقة في دمائها لساعتين وفي حالة إغماء قبل الاتصال بأهلها، وهو ما جاء أيضاً في الحكم. بالإضافة إلى ذلك، اعترفت عائلتها أن النحيلي اعتدى عليهم أيضاً عندما وصلوا إلى المنزل. فقد ضرب شقيق الضحية وحاول خنق شقيقتها حين حاولت وقف تعديه على زوجته.

وأخيراً نسي يوسف أن النحيلي خرج حوالي ساعتين من المنزل لزيارة والدته واحتساء القهوة مع صديق له. ففي الحلقة، يظهر النحيلي في منزل أمه فجأة. يسأل المشاهدون: لماذا لم يأخذها أهلها إلى المستشفى في هذه الأثناء؟ الحقيقة أن النحيلي أقفل الباب عليهم وتركهم لتموت أمامهم ببطء. هذه المعلومة غير مهمة أيضاً.

كما لم يلفت يوسف إلى أن الدفاع المدني وصل إلى أمام منزل الضحية لكن عناصره لم تدخل “بعدما علموا من الأشخاص الذين كانوا أمام المنزل أن الزوج يضرب زوجته وأنه حسب التعليمات لا يمكن التدخل في هذه الحالات”، حسب ما ورد في القرار الاتهامي. كما أنه تغاضى عن ذكر أن رئيس فصيلة طريق الجديدة نفسه لم يتدخل بل اكتفى بالإتصال بصديق طالباً منه التوجه إلى منزل المجرم لتهدئته.

كما لم يذكر مقدم البرنامج أن النحيلي منع الأهل من طلب سيارة إسعاف لذا اضطروا إلى نقل منال في سيارة الأجرة. فالتركيز في الحلقة على تصوير الأهل كأنهم الشيطان الأكبر.

وفات مقدم البرنامج أيضاً أن النحيلي كان يعنف زوجته قبل هذا “النهار الأسوأ”. وأن إبنتيه اعترفتا بذلك أمام المحكمة. فوفق شهادتهما، كان يضربها ولأسباب تافهة، وأمامهما أحياناً كثيرة، وأن الآثار كانت تبقى على جسد والدتهما لمدة طويلة. هذه المعلومات تغاضى عنها يوسف، فهي لا تخدم السياق الذي أراد رسمه للحلقة. النحيلي ضرب منال مرة واحدة وكفّين فقط، وكان ذلك بسبب غضبه الشديد لأنها زانية. انتهى الأمر.

وأخيراً، لم يطلع يوسف المشاهدين على سوابق النحيلي التي ذكرها حكم التمييز. إذ كانت قد صدر بحق النحيلي خلاصة حكم عن المحكمة العسكرية بجرم إطلاق نار من سلاح حربي وأسلحة عام 2012 ومذكرة توقيف عن قاضي التحقيق العسكري بجرم إرهاب عام 2013. ما يعني أن ل ـ”قبضاي الحي” سوابق في اللجوء إلى العنف خارج المنزل أيضاً.

في الخلاصة، وقع الإعلام مرة أخرى ضحية سعيه للسبق. فتح الهواء لمجرم لتبرير جريمته بأبشع الطرق، عبر تحميل زوجته مسؤولية مقتلها لأنها خانته. حوّل قضية سيدة ضحية عنف أسري إلى قضية خيانة بطلها عاشق فقد السيطرة على أعصابه للحظات فوقعت المصيبة. واختار إعطاءه هذه المساحة في وقت نطالب فيه جميعاً بالعدالة للنساء المعنفات وبإرساء تصور للعائلة يقوم على المساواة والاحترام المتبادل. قد يبرر القيّمون على البرنامج حلقتهم هذه بأنهم أرادوا إعطاء حق الدفاع للطرف الآخر. لكن هذا الطرف أدين وفي القضاء حيث أعطيت له المساحة الكافية للدفاع عن نفسه. وقد يبرر القيّمون على البرنامج حلقتهم هذه بضرورة إظهار الجانب الإنساني لكل شخص وفهم دوافعه وحوافزه، مهما ارتكبت يداه. ولكن، هل يكون ذلك مبررا في حال حصوله في ظل تبني رواية “المذنب” على حساب رواية المحكمة، وعمليا تبني كل ما يبيض صفحة “المذنب” ويخفف من مسؤوليته، بمعزل عن آثاره المدمرة على ذكرى الضحية أو ذويها؟ هل يكون ذلك مبررا من خلال مونولوغ للفاعل يستعيد فيه قيم الذكورية والعنف ضد المرأة، القيم التي تبرر القتل بداعي الشرف أو الغضب، من دون أي مواجهة حقيقية، فلا تترك محلا لمعاناة الضحية أو أي ضحية لنفس القيم التي ما برحت تقتل؟

ثم هل فكر يوسف بالنتائج التي قد تستتبع هذه الحلقة، خاصة أنه جهد لإستعطاف المشاهدين وإيجاد تبريرات للجريمة؟ هل فكر بالنموذج الذي سيعطيه النحيلي لكل من يساوره شك بشأن طاعة زوجته أو ولاءها له؟ هل فكر بما قد يستتبعها من انتعاش لقيم تقليدية موروثة تبرر العنف ضد المرأة بنشوزها وتصرفاتها المشكوك فيها؟ هل فكر بأن من شأن هذه الحلقة أن تفتح بابا آخر للمطالبة بالعفو عن قاتلي النساء بما يقوض جميع الجهود الاجتماعية للقضاء على هذا العنف؟ بكلمة، هل فكر للحظة بضحايا العنف الأسري، نساء وأطفالا، بفعل سواد صورة الزوج البطل الذي هو بإمكانه طبعا أن يرتكب كل الذنوب، أن يكون معنفا ومزواجا، طالما أنه هو “رب العائلة”؟

يلحظ ان هذه الحلقة تأتي بعد حوالي شهر على صدور حكم براءة في حق زوج رولا يعقوب المتهم بقتلها، وهو حكم آخر انبنى على مجموعة من المسلمات لتغييب آثار “العنف” الذي كانت تنضح به جثة رولا. ويلحظ أن المدعي العام التمييزي سمير حمود سارع إلى تمييز حكم رولا يعقوب، بما يعكس التحول الهام الحاصل في مقاربة النيابات العامة للعنف ضد النساء نتيجة حراك اجتماعي قد يكون من أجمل انجازات المجتمع اللبناني، وهي مقاربة جاء البرنامج لينقضها أو يحبطها، انتصارا مجددا لصورة “البطل”.

فما هو الأهم بالنسبة إلى وسائل الإعلام؟ نسبة المشاهدة وفكرة السكوب أم مصير النساء المعنفات من قبل أزواجهن؟ والأهم ما هي الأخلاقيات التي يقتضي أن يتحلى بها الإعلام تجاه الضحية وذويها؟ في هذه الحالة، فكرة السكوب هي الرابحة ولا اعتبار فوق اعتبار نسبة المشاهدة. بقي أن نذكر أنه سبق ليوسف أيضاً أن فتح الهواء لقاتل نسرين روحانا، زوجها جان ديب.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، حريات عامة والوصول الى المعلومات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني