لا للعيش المشترك


2013-08-06    |   

لا للعيش المشترك

العيش المشترك كلمة طنانة رنانة صدعت رؤوس اللبنانيين لسنين طويلة. فمنذ البيان الوزاري لحكومة الاستقلال، يتم التكلم عن ميثاق العيش المشترك ومحاسنه وكيف أصبح لبنان هذا النموذج الفريد لحوار الحضارات ومساحة للتلاقي بين مختلف الديانات والمذاهب. ولا شك أن لهذا الشعار بعض الايجابيات التي لا ينكرها إلا مكابر لا سيما في وقتنا الراهن حيث بلغ التحريض الطائفي أوجه في العالم العربي، وعدنا إلى حقبة "الملل والنحل" حيث "كل حزب بما لديهم فرحون".
لكن فكرة العيش المشترك أشبعت مديحا وهي لا تحتاج إلى من يدافع عنها، فقد كفتنا "ايديولوجيا الميثاق" المسيطرة على النظام السياسي اللبناني مؤونة هذا الجهد ويتوجب علينا فضح ما يستره هذا المبدأ من تخرصات مسكوت عنها وما يستتبعه من تداعيات خطيرة على المواطنة في لبنان.
فالعيش المشترك مقولة مبهمة تنطلق من فرضية يتم التسليم بها دون تشكيك جدي مفادها أن الفرد في لبنان لا وجود له خارج طائفته. فكل شخص في لبنان هو طائفي بماهيته أي أن البعد الديني يدخل في تعريفه بحيث لا يمكن لنا أن نفصل بين المواطن والطائفة. الدين ليس إذا مجرد مركب اجتماعي يختاره الانسان بشكل حر ومستقل بل هو في الحقيقة مركب انطولوجي وجودي لا قوام للمرء من دونه.
جراء ما تقدم يتبين لنا أن ميثاق العيش المشترك هو في حقيقة الأمر كلمة جميلة تخفي واقعا مريرا. فالميثاق المذكور الذي ينظر اليه كضمانة لحرية المعتقد يؤدي في نهاية المطاف إلى استبدال الحرية الحقيقية بسراب يدفع بالانسان أن يظن بأن تلك الحرية المنقوصة التي يتمتع بها هي الغاية والمنتهى. والواقع يشي خلاف ذلك كون هذا الميثاق هو سجن يحرم الفرد من ادراك أن طبيعته الانسانية تسمو من الناحية الانطولوجية على انتمائه الديني وهي في الوقت عينه سابقة له. انها "خدعة الميثاق" التي بذريعة التوحيد بين اللبنانيين تمنعهم من الالتقاء على انسانيتهم والالتفاف حول مواطنيتهم: مفاهيم بسيطة لا بل باتت من البديهيات التي تفوق بكثير من حيث الأهمية بعض الشعارات الروحية الفارغة حول وطن الرسالة الذي يرفض منح شرائح واسعة من المجتمع باسم الميثاق حقوقها الطبيعية. والصراعات التي يخوضها المجتمع المدني في الآونة الاخيرة حول قانون الانتخابات وحماية المرأة من العنف لهي خير دليل على هذه القدرة العجيبة التي تسمح لايديولوجيا الميثاق من اسدال خمار النسيان على عيون المواطنين ما يمنعهم من رؤية حقوقهم المهدورة.
والأدهى من ذلك أن العيش المشترك مقولة اقصائية بخلاف ما يردده الجميع تستبطن شحنة خطيرة من العنف. فالمادة 24 من الدستور اللبناني التي تتكلم عن كيفية توزيع المقاعد في مجلس النواب تجعلنا نستنتج أن العيش المشترك هو إما بين المسيحيين والمسلمين وإما بين الطوائف المختلفة. وبغض النظر عن مسألة تحديد أفرقاء هذا الميثاق يصبح جليا لنا أن العيش هو مشترك فقط بين الذين يسلمون بفرضية الهوية الدينية التوحيدية للانسان، وهو تبعا لذلك لا يقر بأي هوية أخرى. انه عيش مشترك في رفض الاخر، الاخر الهندوسي أو البوذي أو حتى اليهودي، الاخر الملحد أو الذي لا يأبه للمسألة الدينية برمتها. انه عيش ضد المسيحيين والمسلمين انفسهم لأنه يمنعهم من اعتناق دين أخر كون ذلك يهدد الوحدة الوطنية، ويمنع أيضا مواطن من طائفة ما من الزواج من مواطنة من طائفة أخرى لأن في ذلك مس بشرف عائلة تلك الأخيرة ما يفضح العقد الذكورية الكامنة في الميثاق.
ومقولة العيش المشترك تقوم على ثنائية الوحدة/الفتنة وهي عندما يتم تجريدها من زخرف الخطابات والشعارات الانشائية تكشف عن طبيعتها كوسيلة للابتزاز السياسي. فكل حزب من الذين يمثلون طائفة ما يهدد بالفتنة والحرب والاهلية عندما تتعرض مصالحه السياسية للخطر، وهكذا يتم عرقلة كل محاولة اصلاحية بحجة متطلبات ميثاق العيش المشترك التي تنص الفقرة "ي" من مقدمة الدستور على عدم شرعية كل سلطة تخالفه. فتعديل الدستور غير مسموح لأنه يؤدي إلى الفتنة، واقرار قانون مدني للأحول الشخصية مرفوض لانه يهدد "الصيغة اللبنانية" وبالتاكيد يقلص من صلاحيات المحاكم الدينية المختلفة. الوحدة الوطنية نتيجة لطبيعة "العيش المشترك" ليست إذا قناعة تؤدي إلى احلال السلام في البلاد وادخال السكينة في قلوب المواطنين بل هي تهديد مستمر بالفتنة والعنف الطائفي، هذا فضلا عن ترويج النفاق الذي بات يتحكم بخصال الأفراد حيث يتكلمون في السر عكس ما يظهرونه للعلن.
ولا تقف تداعيات عيشنا المشترك في لبنان عند هذا الحد بل هي تبلغ أوجها مع تغيير طبيعة الانسان. فالمعطى الانطولوجي الذي سبق وأن تكلمنا عنه يأخذ مع "ايديولوجيا الميثاق" أبعادا جديدة. فالانسان ليس الحيوان العاقل الذي كلمنا عنه أرسطو بل هو حيوان ديني استبدل عقله بمعتقد ما. فغاية المرء ليست في العقل الذي يجمع بين البشر على اختلاف مشاربهم بل في الدين الذي يفرقهم ويشتتهم إلى مذاهب وشيع عديدة. وهكذا نكون قد انتقلنا في لبنان من ال"Homo Sapiens" أي الانسان العاقل والحكيم إلى ال "Homo religiosus" أي الانسان الديني.
ومن "فضائل" عيشنا المشترك في لبنان فض الشراكة بين المواطنين والغاء مفهوم المواطنة واستبدالها بالانتماء الطائفي. فالمرء لا يجرؤ على التدخل بشؤون الطوائف الاخرى ولا يحق له أن ينتقدها مهما ارتكبت المؤسسات الدينية من أخطاء أو حتى مخالفات قانونية. وبالتالي يكون الميثاق قد قضى على المناعة الاخلاقية للانسان وأرسى نهجا تسلطيا وطريقة فريدة بقمع الحريات هي بلا شك أخطرها لأن تجعل الفرد يقبل بالتخلي عن حقوقه وتوهمه أن السجن الذي يعيش فيه هو الحرية عينها.
لكل هذه الأسباب وغيرها التي لا يمكن تعدادها الآن، لا بد لنا أن نعلن صراحة "لا للعيش المشترك" ونعم للمواطنة المدنية التي وحدها تسمح للانسان أن يتمتع بالحرية المنشودة. حتى الايمان الديني يصبح أكثر نقاوة في الدولة العلمانية لأنه ينبع من خيار حقيقي وليس نتيجة عادات اجتماعية ومصالح سياسية.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، دستور وانتخابات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني