المحاماة تُدافع عن نفسها: ملاحظات على هامش جلسة محاكمة عبد العزيز الصيد


2024-03-29    |   

المحاماة تُدافع عن نفسها: ملاحظات على هامش جلسة محاكمة عبد العزيز الصيد
صورة نشرتها المحامية دليلة مبارك على صفحتها في فايسبوك، في 27 مارس 2024 على هامش جلسة محاكمة عبد العزيز الصيد

ضاقت قاعة الجلسة بالمحكمة الابتدائية بتونس، الأربعاء 27 مارس 2024، بعشرات المحامين الذين توافدوا لنيابة زميلهم منسّق هيئة الدفاع في قضيةالتآمر على أمن الدولة عبد العزيز الصيد الذي أُحيل أمام المجلس الجناحي من أجل جريمتيْ نسبة أمور غير حقيقية لموظّف عمومي والإساءة للغير عبر الشبكات العمومية للاتصالات، على خلفية إعلامه الرأي العام، في ندوة صحفية لهيئة الدفاع في شهر ماي 2023، بتقديم شكاية جزائيّة ضدّ الوزيرة وغيرها بعد معاينة تدليس في ورقتيْن هما منطلق الأبحاث في القضية.

تعدّ هذه المحاكمة بذلك نموذجًا للمحاكمات المُثارة ضد المحامين النائبين في القضايا السياسيّة على خلفيّة ممارستهم لأعمالهم، خصوصًا أنها تستهدف محاميًا طالما عُرف في أوساط المحامين بمهنيّته، وهو العضو السابق بالهيئة الوطنية للمحامين. وقد التأمت هذه الجلسة، التي تقدّم فيها المحامي إلى موضع المتهّم، في سياق مخاض تشهده المحاماة بعد أسبوع من إصدار هيئة المحامين لبيانالعودة إلى الجادّة الذي تضمّن تنديدًا بـ”تردّي واقع الحريات” وتأكيدًا حاسمًا على دور المحاماة في “الدفاع عن الحق والعدل والحرية وعلوية القانون”. لم تكنْ جلسة محاكمة الصيد بذلك إلا مناسبة لتنزيل بيان الهيئة ومحرارًا لتحشيد المحامين وتجنّدهم للدفاع عن رسالة المهنة وضماناتها.

كما لم تكن، بالنهاية، جلسة لمحاكمة المحامي بقدر ما حوّلتها مرافعات زملائه إلى جلسة لمحاكمة السلطة السياسية وأدواتها القضائية وكشف خلفيّات استهدافها للمحامين، كحقيقة تهافت القضايا المثارة وإخلالاتها الشكلية وخواء مضمونها.

خروقات إجرائية متعدّدة

ركّزت جلّ المرافعات في بدايتها على الخروقات الإجرائية في القضية وخاصة عدم احترام مقتضيات الفصل 46 من مرسوم المحاماة. وهي تتمثّل أساسًا فيما يلي:

  • تمّت الإحالة من مساعد للوكيل العام لدى محكمة الاستئناف بتونس والحال أن الفصل 46 من مرسوم المهنة ينصّ صراحة أنّه “يُحال المحامي وجوبًا من طرف الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف على قاضي التحقيق” وهو ما يعني تحديد جهة محدّدة حصريًا للإحالة.
  • عدم تحديد قرار الإحالة للأفعال موضوع التتبع ولا طبيعة الجرائم المنسوبة.
  • عدم سماع المحامي من الوكالة العامة في إطار أعمال البحث قبل إصدار قرار بالإحالة.
  • عدم ذكر اسم مساعد الوكيل العام في قرار الإحالة والحال كان يستوجب ذلك للقيام بالرقابة في صورة تحقق أسباب التجريح.
  • تمّت الإحالة من الوكيل العامّ لدى محكمة الاستئناف إلى وكيل الجمهورية في ابتدائية تونس الذي تولّى تعيين مكتب التحقيق. والحال أن مقتضيات الفصل 46 سابق الذكر تقتضي أن يتم تعهيد قاضي التحقيق مباشرة من الوكيل العام خاصة وأن الفصل لم ينصّ على أي دور لوكيل الجمهورية في هذا الجانب، وذلك في إطار النظام الإجرائي الخاصّ بتتبّع المحامين.
  • ورد أن القرار في إجراء البحث ممضى من طرف وكيل الجمهورية بابتدائية تونس بتاريخ 12 ماي 2023. والحال أنه في ذلك التاريخ، كانت هذه الخطة شاغرة (لم تعيّن وزيرة العدل وكيلا للجمهورية بابتدائية بتونس بمقتضى مذكرة عمل إلا في تاريخ لاحق وهو التعيين الذي ثبّته الأمر الرئاسي المتعلق بالحركة القضائية الصادر بتاريخ 29/08/2023).

وزيرة العدل من مشتكى بها إلى شاكية

انطلقت القضية بمكتوب وجّهته وزيرة العدل ليلى جفّال إلى الوكالة العامّة بمحكمة الاستئناف بتونس إثر تصريح عبد العزيز الصيد بوصفه منسّق هيئة الدفاع في قضية “التآمر”، في ندوة صحفية بتاريخ 8 ماي 2023 في دار المحامي، حول تقديم شكاية جزائيّة باسم الهيئة ونيابة عن الموقوفين السياسيين، بعد معاينة تدليس ورقتيْن في ملف القضية.

تحوّلت جفّال بذلك من موقع المشتكى بها إلى الشاكية. وفي حين لا تزال الشكاية ضدّها، وهي السابقة في الزمن، مهملة في أدراج النيابة العمومية، أنتج مكتوبها اللاحق إحالة المحامي على التحقيق ثم على المجلس الجناحي، على نحو يؤكد تباين سرعة القضاء، بما يخرق مبدأ المساواة أمام القانون.

الامتناع عن البتّ في الشكاية المرفوعة ضدّ الوزيرة يعزّز حقيقة تحصينها لنفسها من أيّ تتبع جزائي. ففي هذا الجانب، لازالت أيضًا 37 شكاية مقدّمة من قضاة معفيين ضدّها لعدم تنفيذها قرارات المحكمة الإدارية بدورها في أدراج النيابة، رغم مضي ما يزيد عن عام منذ إيداعها لدى النيابة.

ملاحقة من أجل ممارسة أعمال الدفاع

كان عبد العزيز الصيد قد أعلن، في الندوة الصحفية المذكورة، أُسُس الشكاية المقدّمة، وذلك في سياق تفكيك الخروقات المسجّلة في قضية “التآمر” للرأي العام. ولا ريب أن التشكّي هو من صميم أعمال المحامي باعتباره مطالبًا بالبحث عن الإخلالات التي يكتشفها أثناء مباشرته لمهامه. كما أن الإعلام بأسانيد التشكي في قضية تهمّ الرأي العامّ يندرج أقلّه ضمن مجال نشر المعلومة، وأيضًا دور المحامي في كشف الانتهاكات في القضايا السياسية. وكان هذا التشكّي قد أحرج السلطة على وجه الخصوص، وهو ما تأكّد لاحقًا بإصدارها قرار منع التداول الإعلامي في القضية، بعد تبيّن صلابة سردية فريق الدفاع حول الخلفية السياسية للقضية وخروقاتها الإجرائية وخواء مضامينها.

وفي هذا السياق، يعدّ التتبع المثار ضدّ الصيد خرقًا مباشرًا ومتجددًا من الوزارة عبر آلتها القضائية، للفصل 47 من مرسوم المحاماة الذي ينصّ أنه “لا تترتب عن الأعمال والمرافعات والتقارير المنجزة من المحامي أثناء مباشرته لمهنته أو بمناسبتها أية دعوى ضده”. وكان على النيابة العمومية الإذن بإجراء الأبحاث اللازمة في شكاية التدليس بدل تتبع المحامي مقدّم الشكاية، على نحو يجعل ملاحقة المحامي بمثابة قيام على من لا يجب القيام ضده بحكم الحصانة الموضوعية لأعماله، وأيضا قيام سابق لزمانه، بالنظر إلى ضرورة البت بصفة أوليّة في شكاية التدليس.

وقد تمسّك منسّق هيئة الدفاع خلال جلسة محاكمته بأقواله، باعتبار أنّ تصريحه توجّه برمي الورقتيْن المعنيتيْن بالتدليس من دون نسبة التدليس مباشرة لشخص الوزيرة وأن التشكي توجّه ضدها بحكم صفتها، داعيا خلال الجلسة إلى إعادة سماع التصريح للتيّقن من ذلك. وتتمثّل الورقتان المعنيتان في مكتوب مدير الشرطة العدلية إلى وزيرة العدل وكشف في الأوراق المحالة من الوزيرة إلى وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بتونس وهما منطلق الأبحاث في قضية “التآمر”. وتتمثل مواطن التدليس في التشطيب على مستوى عدد التضمين بالمكتوبين، والاختلاف والتضارب في تواريخهما، والتشطيب على مستوى تاريخ تعليمات النيابة العمومية، وأيضًا عدم تضمّن الإضافة التي وردت بخطّ اليد بأعلى مكتوب “كشف المحال” على هوية وصِفَة من قام بها، فضلا عن أنّها غير مؤرخة وغير ممضاة. هذه الإضافة نصّها أن “الإرهاب مختصّ”، ذلك أن النيابة العمومية عهّدت في البداية فرقة الأبحاث في القضايا الإجرامية قبيل سحب الملف منها وإحالته للوحدة الوطنية للبحث في جرائم الإرهاب.

وتغيير صبغة ملف “التآمر” من الحقّ العام إلى الصبغة الإرهابية لم تكن غايته إلا إعمال الإجراءات الاستثنائية الواردة في قانون مكافحة الإرهاب وهي الاحتفاظ بذي الشبهة لمدة 5 أيام يتم تمديدها لمرتين، ومنع المحامي من الاتصال بذي الشبهة لمدة 48 ساعة وإمكانية سماع شهود محجوبي الهوية. وهي الإجراءات الثلاثة التي تمّ تطبيقها جميعًا، على نحو يعزّز التقدير بأنّ الغاية من فرض الطابع الإرهابي ليس مردّه أي عنصر مضموني، بقدر الاستفادة من هذه الإجراءات في سياق تكوين ملفّ القضية ضدّ المعارضين بمبادرة وإذن وإشراف من السلطة السياسيّة.

في قرار ختم البحث المقتضب اقتضابًا مخِلاّ، وإن أقرّ قاضي التحقيق بنفسه أنّ المسألة تعلّقت برميِ أعمالٍ للتدليس من دون نسبة التدليس للوزيرة نفسها، فإنه اعتبر أنّ أعمال التدليس بقيت مجرّدة. وواصل بأن مجرّد التشكي لا يثبت صحة الادّعاءات باعتبار أنّ الجزم بوجود تدليس من عدمه لا يكون إلاّ بمقتضى حكم قضائي باتّ. هذا التسلسل يتعارض مع المنطق القانوني، باعتباره يسحب مجال التجريم إلى موضوع التشكي وهو معاينة أعمال تدليس، وعلى نحو يعزّز القول بأن البتّ في موضوع التدليس يعدّ مسألة أوليّة. والمفارقة هنا هي في الإشارة إلى لزوم صدور حكم قضائي بات للتصريح بوجود تدليس والحال أن النيابة العمومية لا زالت ترفض حتى الساعة الإذن بإجراء الأبحاث بخصوص شكاية التدليس نفسها.

المحاكمة بوصفها استهدافًا للمحاماة

على النحو الذي يبيّنه تهافت القضية المثارة، حرصت مرافعات زملاء عبد العزيز الصيد، التي دامت أربع ساعات ونيف، على تبيان إطارها ضمن مسلسل الملاحقات القضائية ضد المحامين إما لممارستهم لأعمالهم أو لممارستهم للحريات العامة وبالخصوص حريّة التعبير. وقد أكد عميد المحامين حاتم المزيو، الذي افتتح المرافعات، أن المستهدف ليس الصيد بشخصه بقدر المحاماة وحق الدفاع واصفًا القضية بأنها “مهزلة” ومشددًا على لزوم القضاء المستقل والمحاماة المستقلّة لتحقيق شروط المحاكمة العادلة.

رئيس الفرع الجهوي للمحامين بتونس العروسي زقير أكد بدوره على أنّ المحاكمة تأتي في سياق تضييقات على المحامين في أعمالهم، مشيرًا إلى أنّ أغلب الملاحقات ضدّهم تجري على خلفية مهنية. وأكد على دور المحاماة في حماية الحقوق باعتبارها “صوت كل المظلومين”. فيما حرص العميد السابق للمحامين شوقي الطبيب، بالخصوص، على استعراض أسماء المحامين الذين تمّت ملاحقتهم زمن الاستبداد كالعميد الشاذلي الخلادي ومحمد بللونة وجمال الدين بيدة وراضية النصراوي وفوزي بن مراد، مؤطرًا المحاكمة في سياق استهداف ممنهج للمحاماة الحقوقية.

إذ لا تقتصر الملاحقات على منسق هيئة الدفاع. بل يواجه أعضاء آخرين فيها تتبعات مرتبطة بتصريحات إعلامية، بلغ مجملها أربع قضايا أُثيرت ضدّ كلّ من إسلام حمزة ودليلة بن مبارك مصدّق. وكانت هيئة الدفاع قد اعتبرت أنّ غاية هذه الملاحقات هي ترهيب أعضائها والتنكيل بهم بهدف منعهم من أداء واجبهم في الدفاع عن المعارضين السياسيين على أحسن وجه.

محاكمة زمن قضاء تحت الترهيب

خلال مرافعات المحامين، سرعان ما انتشر في قاعة الجلسة خبر إعفاء وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بتونس زهير بن عبد الله وتعيين آخر مكانه. فأكّد استمرار وزيرة العدل في إصدار مذكرات عمل بالتعيين والإعفاء، سطوة السلطة السياسية على القضاء بوضع الموالين في الخطط المتقدّمة، خصوصًا بعد سابق تمويتالمجلس المؤقت للقضاء الذي تمّ إفقاده نصابه القانوني في الحركة القضائية الأخيرة.

الإعفاء والتعيين الجديدان يزيدان في إشاعة مناخ الترهيب في صفوف القضاة المباشرين اليوم، وهم يعاينون أنّ من كان يظهر نموذجًا لقضاة الموالاة معرّض بدوره للإبعاد، وأنه لا أحد بمنأى عن “عصا السلطة” ولو ظهر أنه قدّم ما كان مطلوبًا منه في المحاكمات السياسية.

أجواء تزيد في تثبيت واقع القضاء الهشّ الفاقد لأدنى ضمانات الاستقلالية عن الوزيرة. وهي التي كما تصدّرت طرفًا مباشرًا في الملاحقة القضائية ضد منسّق هيئة الدفاع في قضية “التآمر”، فهي، للتذكير، من عهّدت مباشرة النيابة العمومية لإثارة التتبع ضد المعارضين السياسيين في هذه القضية نفسها.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، حريات ، استقلال القضاء ، مقالات ، تونس ، محاكمة عادلة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني