قراءة في دفاتر الخصخصة (1) بداية سياسات الخصخصة في مصر


2018-09-08    |   

قراءة في دفاتر الخصخصة (1) بداية سياسات الخصخصة في مصر

وافق مجلس النواب المصري مؤخراً على تعديل قانون إنشاء الهيئة القومية لسكك حديد مصر للسماح للقطاع الخاص بالاستثمار في إدارة وتشغيل مرفق السكك الحديدية[1]. كما شمل التعديل طرح عدد من شركات قطاع الأعمال العام في البورصة، مما يفتح المجال للتداول عليها ودخول رأس مال خاص فيها[2]. وقد أثار هذا الأمر مخاوف من أن تكون هذه خطوة أولى نحو خصخصة مرفق السكة الحديد والشركات المذكورة. وهو الأمر الذي يستدعي إعادة فتح ملف الخصخصة في مصر، وكيف واجه العمال والمنظمات الحقوقية توجه الدولة في هذا الشأن. لذلك تنشر المفكرة ورقة كتبها المحامي الحقوقي خالد علي عن دفاتر الخصخصة في محاولة لفهم أساليب الدولة المختلفة لخصخصة الشركات والمرافق المختلفة، والاستراتيجية التي اتبعها العمال والمحامون في المواجهة؛ ودور القضاء في ذلك.

وتنشر المفكرة الورقة على ثلاث حلقات، تتناول الحلقة الأولى بداية سياسات الخصخصة في مصر بالعودة إلى تسعينات القرن الماضي. أما الحلقة الثانية فتركز على الدعاوى القضائية التي تم رفعها أمام محاكم القضاء الإداري والمحكمة الدستورية لمواجهة خصخصة الشركات. في الحلقة الثالثة، يتناول خالد علي الأساليب التي اتبعتها الدولة لاستمرار خصخصة هذه الشركات وإهدار المال العام من خلال ذكر أمثلة عن هذه الشركات وحكاية المواجهة بين الدولة والعمال، ويختتم فيها خالد علي تناوله لسياسات الخصخصة من خلال توضيح كيف استعانت الدولة بالصفقات الوهمية والمفاوضات الثنائية لخصخصة الشركات.  (المحرر).

 (مصمصوها وخصخصوها… والعمال رجعوها… العمال هيشغلوها) كان هذا الهتاف يهز أرجاء مجلس الدولة المصري عندما تصرخ به حناجر العمال فور سماعهم للحكم ببطلان إجراءات خصخصة شركتهم، وعودتها مرة أخرى لأملاك الدولة.

لقد كانت تطبيقات الخصخصة في مصر مجحفة ومخزية. وقد أكدت الأحكام القضائية أن التنفيذ الفعلي للخصخصة كشف عن حجم غير مسبوق من الفساد، ليس فحسب من القائمين عليها، وإنما كذلك من المستثمرين سواء الأجانب منهم أو المصريين. وقد ظهر ذلك كله من خلال عمليات تقييم المشروعات محل الخصخصة، واجراءات بيعها، وممارساتهم بعد البيع، ثم تأثير تلك السياسات على كل من الاستثمار والبطالة وإهدار المال العام.[3]

سنتناول هنا بعض نماذج إجراءات الخصخصة في مصر. وما نريده من ذلك هو بالدرجة الأولى إيضاح الوسائل والأساليب التي أتُبعت لإهدار المال العام وتفكيك البنية الصناعية والتجارية للقطاع العام المصري. وسنحاول من خلال ذلك الإجابة على بعض التساؤلات التي تفرض نفسها على الواقع التشريعي والقضائي في مصر، مثل مسألة المقصود بعقود الدولة، والفرق بينها وبين العقود المدنية، وماهية الإطار القانوني والدستوري الذي يحكم الرقابة القضائية على تلك العقود، وكيفية تطبيق الخصخصة في مصر، وكيف حاول المجتمع مقاومتها، وما هي أبرز المحطات في هذه المواجهة.

كيف بدأت سياسات الخصخصة في مصر؟

 رغم أن سياسات التحول الاقتصادي في مصر كان لها إرهاصات مبكرة بدأت في منتصف السبعينيات إلا أن التحول الرسمي والجاد قد حل مع بداية التسعينات. فقد بدأت ملامح ارتباط مصر بسياسات هذا التحول مع منتصف الثمانينات، وذلك حين أبدت الحكومة الأمريكية رغبتها في قيام مصر -بما أسمته- بعملية إصلاح اقتصادي والتحول نحو الاقتصاد الرأسمالي الحر، وذلك بالاستعانة ببرنامج متكامل. وقد استند هذا البرنامج إلى محورين رئيسيين هما: الاتجاه نحو اقتصاديات السوق بكل تفاصيلها، وبيع القطاع العام عن طريق تطبيق برنامج شامل للخصخصة. ولم يحدث الاتفاق المتوقع بين الحكومتين المصرية والأميركية وذلك خوفًا من الضغوط المجتمعية في مصر إلى أن حدث انخفاض في أسعار البترول (الذي أصبح أحد العناصر الرئيسية في الصادرات المصرية)، كما حدث انخفاض مماثل في تحويلات العاملين بالخارج نتيجة تقلص أعدادهم واستبدال الكثيرين منهم بالعمالة الآسيوية.[4]

كما شهد النصف الثاني من الثمانينيات (عام 1987) محاولات لم تنجح جميعها للاتفاق مع صندوق النقد الدولي على إعادة جدولة الديون.

ومع منتصف عام 1991، وقعت مصر اتفاقيتين مع صندوق النقد الدولي. وقد أدخل البنك الدولي الاتفاقيتين ضمن “برنامج الإصلاح الاقتصادي والتكيف الهيكلي” الذي كان وضع لتطبيقه خلال فترة 1991-1993. ثم تم اقتراح تمديد العمل برنامج الإصلاح الاقتصادي الشامل لثلاث سنوات أخرى من عام 1993 حتى عام 1996.[5]

ونفاذًا لهذه الاتفاقيات، قامت مصر بتهيئة المناخ التشريعي لإنفاذ هذه السياسات الجديدة. فقد صدر قانون قطاع الأعمال العام 203 لسنة 1991 الذي اُنشيء بموجبه  قطاع جديد تحت مسمى قطاع الأعمال العام، حتى يكون قطاعًا وسيطًا بين القطاعين العام والخاص، ويستخدم كجسر لنقل مؤسسات وممتلكات القطاع العام إلى القطاع الخاص. فهو قطاع جديد مملوك ملكية خاصة للدولة –باعتباره صاحب شخصية معنوية قابل للقيام بالتصرفات المالية– حيث نُقل إلى هذا القطاع الجديد ممتلكات ومؤسسات القطاع العام. وبذلك تحولت طبيعة هذه الممتلكات والمؤسسات من “مال عام” إلى “مال خاص مملوك للدولة” تمهيدا لطرحها للخصخصة وبيعها للمستثمرين ورجال الأعمال لتتغير طبيعة هذه الممتلكات والمؤسسات مرة أخرى من “مال خاص مملوك للدولة” إلى “مال خاص مملوك للأفراد والأشخاص الاعتبارية الخاصة”.

كما صدر القانون 37 لسنة 1992 والذي تضمن تعديلًا في قانون البنوك والائتمان الصادر في 1957. ثم صدر القانون 95 لسنة 1992 بشأن سوق رأس المال والذي أُعتبر بمثابة حجر الزاوية في برنامج الإصلاح الاقتصادي المصري حيث تم بواسطته تطوير البورصة المصرية كي تواكب التحول الكامل (وفق ما تم تصوره) للاقتصاد الحر.[6]

 وفي 1993، حصلت مصر على منحة مشروع الخصخصة بموجب اتفاقية بين حكومتي مصر والولايات المتحدة الأمريكية -ممثلة في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية- وُقعت بالقاهرة بتاريخ 30 سبتمبر 1993[7]، والتي استهدفت مساعدة مصر في تنفيذ برنامج  الخصخصة من خلال التطوير المؤسسي وتقديم المساعدة لبيع المشروعات والأصول العامة التي تمتلكها الحكومة المصرية.

لم تمر عمليات التحول الاقتصادي هذه بسهولة ويسر سواء في رسم مبادئها، أو في الاتفاق على خطواتها ومراحلها، أو في تقييم نتائجها وآثارها. وليس على صواب من يتصور أن تلك “العمليات” (أو ما أُشيع أنها سياسات) قد وُجهت لطائفة، أو فئة، أو شريحة من الناس في مجتمعنا دون الأخريات. فهي قد أحدثت –رغم التفاوت والتباين- تحولًا شاملًا، وتغييرًا جذريًا في حياة كافة المصريين: غنيهم وفقيرهم، قادرهم وضعيفهم، ذي المكانة والنفوذ، والمهمشين العاجزين. [8]

ولن نكون مبالغين إذا ما قلنا أن الطبقة العاملة المصرية كانت أولى الفئات التي تغيرت وتبدلت وتأثرت نتيجة تطبيق هذه السياسات ليس فقط من زاوية تردي أوضاعها المعيشية والاقتصادية والاجتماعية، ولكن أيضًا من زاوية مقاومتها لهذه السياسات أو بالأدق للآثار الناجمة عنها. وهو ما بدا جليًا في احتجاجاتها بالمواقع أو الشوارع، ومن خلال القضايا التي قامت برفعها في المحاكم لاسترداد هذه الممتلكات.

اختصاص مجلس الدولة بنظر قضايا بطلان عقود الخصخصة

قبل البدء بسرد محاولات الدولة لخصخصة بعض الشركات والتصدي لهذا الأمر من خلال رفع قضايا أمام مجلس الدولة المصري، علينا أن نشير إلى المدخل الذي أسس لاختصاص مجلس الدولة بهذه القضايا؛ وهو “عقود الدولة”.

نقصد بعقود الدولة، العقود الإدارية، وهي العقود التي تكون الإدارة (السلطة التنفيذية) طرفًا فيها، وتتعلق بنشاط مرفق عام من حيث تنظيمه وتسييره، بغية خدمة أغراضه، وتحقيق احتياجاته مراعاة للمصلحة العامة. وتأخذ فيها الإدارة بأسلوب القانون العام بما تضمنه من شروط استثنائية غير مألوفة في عقود القانون الخاص. لذا فالعقد الإداري شأنه شأن العقد المدني من حيث العناصر الأساسية لتكوينه، حيث أنه توافق إرادتين بإيجاب وقبول لإنشاء التزامات تعاقدية تقوم على التراضي بين طرفين مدنيين. إلا أنه يختلف عن العقد المدني فى أمور ثلاثة:

الأول، أن العقد الإداري يكون أحد أطرافه الدولة أو أحد الأشخاص الإدارية من ناحية،

الثاني، أن العقد الإدارى يمنح الإدارة بوصفها سلطة عامة حقوقا وامتيازات لا يتمتع بمثلها المتعاقد معها، وذلك بقصد تحقيق نفع عام أو مصلحة مرفق من المرافق العامة.

الثالث، أن الشخص المعنوي العام يعتمد في إبرامه وتنفيذه على أساليب القانون العام ووسائله إما بتضمينه شروطًا استثنائية غير مألوفة في عقود القانون الخاص، سواء كانت هذه الشروط واردة في ذات العقد أو مقررة بمقتضى القوانين واللوائح أو بمنح المتعاقد مع الإدارة فيه حقوقًا لا مقابل لها في روابط القانون الخاص بسبب كونه لا يعمل لمصلحة فردية، بل يعاون السلطة الإدارية ويشترك معها في إدارة المرفق العام أو تسييره أو استغلاله تحقيقًا للنفع العام.

وإذا كانت مصالح الطرفين في العقد المدني متساوية ومتوازنة، نجد أن كفتي المتعاقدين غير متكافئة في العقد الإداري تغليبًا للمصلحة العامة على المصلحة الفردية مما يجعل للإدارة سلطة مراقبة تنفيذ شروط العقد، وتوجيه أعمال التنفيذ واختيار طريقته، وحق تعديل شروطه المتعلقة بسير المرفق وتنظيمه، والخدمة التي يؤديها، وذلك بإرادتها المنفردة حسبما تقتضيه المصلحة العامة دون أن يكون للطرف الآخر أن يتمسك بقاعدة أن “العقد شريعة المتعاقدين”. فللإدارة دوما حق توقيع الجزاءات على المتعاقد وحق فسخ العقد وإنهائه بإجراء إداري دون رضاء هذا المتعاقد ودون تدخل القضاء. [9]

وعقود الخصخصة اشتملت على نوعين:

  • النوع الأول هو خصخصة الإدارة، ويشتمل على:
  1. عقود الإدارة، كأن يتم إبرام عقد مع بعض الأفراد أو المؤسسات سواء كانوا محليين أو أجانب لإدارة بعض المنشآت كالكهرباء أو الفنادق.
  2. عقود التأجير عبر استثمار الموارد أو الأصول من قبل القطاع الخاص مقابل رسوم أو أجور محددة من الدولة، وقد تأخذ عملية التأجير طابع التأجير التمويلي (الامتياز) الذي يتيح للمستثمر إدارة واستثمار المشروع لمدة زمنية محددة، ثم تعود الملكية بعد ذلك للدولة.
  3. عقود البيع الجزئية عبر بيع جزء من الأسهم أو حصة من المنشآت العامة، وقد يترتب على ذلك إدارة مشتركة بين الدولة والقطاع الخاص، وتحدد سلطات الإدارة بحسب نسب الأسهم أو الحصص.
  4. الاكتتاب عبر طرح بعض المنشآت المراد خصخصتها للاكتتاب العام على المواطنين كوسيلة لتوسيع قاعدة الملكية،

– أما النوع الثاني فهو البيع الكلي الذي يتضمن نقل كامل الملكية أو ما يعادل 51% منها ليصبح للقطاع الخاص حق الإدارة.

 واتخذت عملية الخصخصة أشكالًا وعقودًا مختلفة حسب الظروف التي تمر بها الدولة، وحسب المرحلة التي قطعتها في عملية إعادة الهيكلة، ومستوى المقاومة التي تبديها القوى المناهضة للخصخصة.

وكانت الطبيعة القانونية لعقود الخصخصة وتوصيفها بأنها عقود إدارية تم تحريرها نفاذًا لقرارات إدارية هو الذي جعل مجلس الدولة المصري يختص بنظر المنازعات المتعلقة بها. فلو تم تكييفها على أنها عقود مدنية لأضحى القضاء المدني هو المختص بها. كما كان لهذه الطبيعة أثرها في قبول (صفة ومصلحة) أي مواطن للطعن على هذه العقود.

وبما أنها عقود إدارية، وتتعلق بنشاط مرفق عام من حيث تنظيمه وتسييره بغية خدمة أغراضه، وتحقيق احتياجاته مراعاة للمصلحة العامة فلكل مواطن الحق في اللجوء للمحكمة لرفع دعوى قضائية دفاعًا عن حقوقه بشأنها، أما لو تم توصيفها بأنها عقد مدني فينطبق عليها قاعدة (العقد شريعة المتعاقدين) وبالتالي تنحصر آثار العقد ومنازعاته على طرفيه فقط، دون أن يكون لأي مواطن آخر حق الطعن عليه.

 


[1] رنا ممدوح، “البرلمان يقر مشاركة القطاع الخاص في “السكك الحديد” وسط تخوفات من ارتفاع الأسعار، مدى مصر، 4-3-2018.

[2] راجع الخبر المنشور على موقع اليوم السابع بتاريخ 18-3-2018، تحت عنوان “بالأسماء..تعرف على الشركات التي ستطرحها الحكومة في البورصة”.

[3] المستشار/ حمدي ياسين عكاشة، دور مجلس الدولة في كشف الخصخصة الفاسدة ومخططات بيع مصر، دار النهضة العربية، 2014، ص 75.

*والمستشار حمدي ياسين عكاشة هو القاضي الذي كان يرأس دائرة الاستثمار بمجلس الدولة المصري، والتي أصدرت خلال رئاسته لها أغلب الأحكام القضائية بشأن عقود الخصخصة، ولم يتغير موقف الدائرة بعد أن ترأسها المستشار حسونة توفيق حيث أصدرت باقي الأحكام، كما أيدت المحكمة الإدارية العليا برئاسة المستشار عبد الفتاح أبو الليل وعضوية المستشار أحمد الشاذلي كل الأحكام التي صدرت عن هذه الدائرة.

[4] منى قاسم، الإصلاح الاقتصادي في مصر: دور البنوك في الخصخصة وأهم التجارب الدولية، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1988، ص 28

[5] تقرير التنمية الشاملة في مصر، مركز دراسات وبحوث الدول النامية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعه القاهرة، العدد الأول، 1998، ص 4

[6] د. محمود فهمي الكردي، مشكلات الطبقة العاملة في مصر: تحليل اجتماعي لأثار تطبيق سياسات الإصلاح الاقتصادي، مركز دراسات وبحوث الدول النامية، جامعة القاهرة، 2004، ص 233

[7] وصدرت الموافقة عليها بموجب قرار رئيس الجمهورية رقم 534 لسنة 1993، ووافق عليها مجلس الشعب بتاريخ 8 مارس 1994، ثم تم تصديق رئيس الجمهورية بتاريخ 12 مارس 1994، ونشرت بالجريدة الرسمية بقرار وزير الخارجية رقم 39 لسنة 1994 بتاريخ 5 مايو 1994.

[8] د. محمود فهمي الكردي، مرجع سابق، ص 229

[9] حكم المحكمة الإدارية العليا، طعن رقم 4151 لسنة 38 ق.ع، جلسة 4 سبتمبر 2004

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، مصر ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني