الأطفال في الشوارع: الحماية المفقودة و”الشاويش” مطمئن


2018-09-07    |   

الأطفال في الشوارع: الحماية المفقودة و”الشاويش” مطمئن

منذ نحو سنة ونصف، خرجت سامية[1] من سوريا مع أطفالها ال11، أكبرهم عمره 12 عاماً وأصغرهم رضيعً لا يتعدى عمره الشهر، يعاني من ثقبين في القلب. قررت المرأة بعدما تهدم منزلها في ريف حلب واستحالت الحياة في المنطقة، أن تترك زوجها المريض بالسكري، وقد بترت رجله بعدما اشتدّ عليه المرض، وانتقل للعيش في الشام.

دخلت الأراضي اللبنانية باحثة عن ملجأً تحتمي فيه مع أطفالها من الحرب. تمكنت بعد شهور من وصولها من تسجيل اسمها لدى الأمم المتحدة للحصول على المساعدات. إلا أنها، وبعد أكثر من سنة على التسجيل، لم تحصل على أيّ مساعدات تُذكر، كما تقول ل”المفكرة”، رغم تكرار مراجعاتها للمكتب.

وفيما لم تجد المرأة ذات الـ 39 عاماً أي عمل لكسب الرزق، ولم تلق أيّ مساعدات، وجدت نفسها أمام حلٍ وحيدٍ، وهو الخروج إلى الشارع علها تبيع العابرين قوارير المياه. تقول أنه لا خيار أمامها، إلا اصطحاب الأطفال معها لمساعدتها: “وإلا نموت جوعاً”، فأربعة من أطفالها تركوا المدرسة بسبب عدم مقدرتها على دفع  40 ألف ليرة شهرياً عن كل منهم بدل نقل الأوتوكار. عندما قابلت “المفكرة” الوالدة في الشارع، كان يوجد حولها 5 أطفال، أربعة يساعدونها في بيع قوارير المياه، يركضون إلى السيارات عند توقف إشارات السير علّهم يجدون زبوناً. تضيف سامية، “أحياناً ينام أطفالي من دون عشاء. أما في النهار، فهناك صاحب مطعم في الشارع المقابل يقوم بإطعام الأولاد بشكل يومي”.

تروي سامية معاناتها وتتكلم عن مخاوفها قائلة: “نعم، لو سألتموني عن سلامة الأولاد، أعلم أنهم في خطر، أخاف عليهم من الناس فأحياناً يتعرضون للإهانة لكن ما العمل؟”. تعيش سامية مع أطفالها في منزل مكون من غرفتين في أحد المخيمات الفلسطينية في بيروت، تدفع أجرة المنزل 400 ألف ليرة شهرياً، واشتراك الكهرباء مئة ألف ليرة بسبب انقطاع الكهرباء المستمر عن المخيم. وتلفت إلى أن عليها ديون تفوق الألفي دولاراً عدا عن حاجتها المستمرة للمال لطبابة رضيعها.

أطفال سامية ليسوا وحدهم في ذاك الشارع. فهناك زميل لهم، يدعى سالم (اسم مستعار). يقول الصبي أنه ترك المدرسة منذ عامين بعدما عجز والده عن إيجاد فرصة عمل في لبنان، فبدأ العمل في الشارع لأجل الاسترزاق. يبيع سالم أكياس المحارم، ويعطي ما يجنيه من الأموال لوالدته لتضعهم في “الطامورة”. يؤكد سالم أن أمواله في أمان مع أمه، على عكس سارة (إسم مستعار أيضاً)، فتاة سورية متسولة في أحد شوارع بيروت وعمرها لا يتعدى 10 أعوام. تظهر معاناة على وجهها لا تجدها عند الأطفال الآخرين. تقول أن لديها عدة أسماء، في المنزل ينادونها بغير الإسم الذي تُعرف فيه عن نفسها في الشارع. ربما هناك من أملى على الطفلة ألا تعرّف عن إسمها الفعلي، ما يوحي بوجود من يتحكم بحياتها. لكن الطفلة لا تتقن  التهرب من الإدلاء بالحقيقة. إذ لديها روايات تثير الرعبة في نفس المستمع، ننأى عن الدخول في تفاصيلها، للحؤول دون كشف هويتها لمشغلها إن كان موجوداً ونعرضها للخطر. فالطفلة أكدت بأن هناك رجلا لبنانيا يجبرها على النزول إلى الشارع للتسول يومياً، لتقوم في المساء بإعطائه المال وإلا ُيلحق بها الأذى. تقول أنها خائفة من الناس، فهي لا تفعل شيئاً يزعج أحداً، إنما هناك من يذلها ويرشقها بالشتائم.

لدى سماع هذه الرواية، تطرح على  نفسك تساؤلات لا بد منها، هل تعيش الطفلة تحت رحمة “شاويش” يشغل الأطفال في الشوارع ويأخذ مالهم؟ هل نحن أمام شبكة إتجار بالأطفال؟ لم لا؟ ففي كل مرة يُطرح فيها موضوع تسوّل الأطفال، تذهب الأحاديث عن عصابات ومافيات تُرسل الأطفال إلى الشوارع لأجل تحصيل الأموال. وهذا الأمر الذي لم تتحفظ عن ذكره مديرة المشروع الوطني لمكافحة التسول في وزارة الشؤون الاجتماعية السيدة سيما معاوية، إذ اعتبرت أن القوى الأمنية مقصرة في ضبط ظاهرة التسول مؤكدة وجود عصابات تُشّغل الأطفال، وأن هناك باصات توصل الأطفال يومياً للعمل في الشارع.

 والحال أنه غالباً ما تذهب حملات مكافحة التسول في اتجاه توقيف الأطفال بدلاً من ملاحقة تلك الشبكات. فإن الحالات المعروضة قد تكون تسولاً إما للاسترزاق أو تسولا ناتجا عن استغلال. فالإسترزاق، كما حالة المرأة وأولادها ال11 والصبي سالم، وثانياً، حالة سارة التي من المرجح أنها ضحية شبكة استغلال أطفال، بحسب تفاصيل روايتها.

التسول ليس وليد الأزمة السورية

استمرار هذه الظاهرة يطرح العديد من الأسئلة حول مدى جدية السلطات اللبنانية في وضع خطة فعالة لمكافحة التسول. وهو ما يدأب عليه كل وزير شؤون اجتماعية جديد لدى منحه هذه الحقيبة الحساسة منذ إنشاء الوزارة ولغاية اليوم.

ولعل أبرز الخطوات والإجراءات في إطار مكافحة عمل وتسول الأطفال في الشوارع لا يتعدى الورق، كالمصادقة على إتفاقيات مع منظمة العمل الدولية في 2001 و2003 تتعلق بعمل الأطفال، وإقرار قانون معاقبة جريمة الاتجار بالأشخاص في العام 2011، والذي يمنع استغلال الأطفال بالتسول، وإصدار مراسيم ووضع خطط.

كل ذلك لم يمنع بقاء الأطفال في الشوارع خصوصاً مع إستقبال لبنان لأعداد كبيرة من العائلات السورية ذات الأوضاع الإقتصادية الهشة. والحال أن هذه القضية كانت محل نقاش منذ زمن، إذ يفيد خبر وارد في أرشيف جريدة النهار تاريخ 7 تشرين الثاني 1991 بأن “اللجنة النيابية لرعاية شؤون الطفولة بحثت موضوع تسول الأطفال وقررت إطلاق توعية تحت عنوان “أسبوع مكافحة تسول الأولاد”. كما آخر الأخبار الإعلامية عن أي إجراءات تُذكر في هذا الإطار، تعود للعام 2012 عندما قامت وزارة الداخلية بإصدار توجيهات لقوى الأمن الداخلي لمكافحة تسول الأطفال، وسرعان ما انتهت في غضون أشهر قليلة. تليها الإجراءات الشكلية التي تقوم بها بعض السلطات المحلية[2]، مثل قرارات محافظ بيروت القاضي زياد شبيب المتكررة لملاحقة المتسولين، والباعة المتجولين[3].

1510 طفل في الشارع في العام 2015

آخر الإحصاءات المنشورة عن عدد الأطفال في الشارع يعود إلى العام 2015، في دراسة نشرتها وزارة العمل، جرى تنفيذها بالتعاون مع يونيسف ومنظمة العمل الدولية ومنظمة إنقاذ الطفل. خرجت الدراسة حينها بمعدل تقديري في 18 منطقة لبنانية، وقد خلصت إلى تقدير الأطفال الذين يعيشون أو يعملون في الشوارع، بنحو 1510 طفل. 73% من هؤلاء سوريون، 61% من المجموع أتوا إلى لبنان منذ بدء الأزمة السورية، و6% منهم ولدوا في لبنان. ويتركز غالبية أطفال الدراسة في بيروت وطرابلس. وسجلت بيروت أعلى نسبة، فيما حلّ الطريق البحري لمدينة صيدا في المرتبة الأخيرة. وتتكلم معاوية (وزارة الشؤون) عن أرقام هائلة لأعداد الأطفال الموجودين في الشوارع تفوق الـ 15000 طفل. وتؤكد إعتراض الوزارة على دراسة العام 2015، مشيرة إلى سعيها لتحديث الأرقام بالتعاون مع منظمة العمل الدولية في مطلع العام المقبل.

تقول أخصائية التنمية المجتمعية في منظمة الأمم المتحدة للطفولة يونيسف عبير أبي خليل بأنه “يستحيل إعطاء عدد محدد بسبب أن بعض الأطفال يتنقلون بين المناطق، وتختلف دوامات عملهم بين يوم وآخر، وفي أحيان أخرى هم ثابتون، وأماكنهم وأوقات نزولهم إلى الشارع لا تتغير. كما أن هناك حالات التسول الموسمي حيث أن الأطفال يعملون في مواسم معينة، مثلاً في فصل الصيف فقط. وهي حالة كان يشهدها لبنان بكثرة قبل الحرب في سوريا، إذ كانت العائلات تلجأ إلى لبنان خلال فصل الصيف وتعود عند حلول الموسم الدراسي”. تلفت أبي خليل إلى أن معدل عمل الأطفال في لبنان منذ عام 2009 إلى عام 2016 قد إرتفع ثلاث مرات من 2.9% إلى 6.7%، ما يدل على أن نسبة تسول الأطفال قد تكون إرتفعت ثلاث مرات أيضاً بشكل يوازي ارتفاع العمالة.

لمَ يلجأ الأطفال إلى التسول؟

تعتبر أبي خليل أن التسول هو نتيجة مشكلات عدة تصيب العائلة. منها الأسباب الإقتصادية، أي الفقر الشديد، ثم هناك ضعف الوعي الإجتماعي حول مخاطر التسول لدى عائلات الأطفال المتسولين، مما يسهم بإنشاء بيئة حاضنة لهذه الظاهرة.

والحال أنه لا يمكن استثناء الأحوال التي يعيشها اللاجئون السوريون في لبنان من هذه المسألة، خصوصاً وأن 73% من أطفال دراسة ال 2015 ذوو أصول سورية، ومنهم 61% وصلوا لبنان بعد بداية الأزمة. لذا، تعتبر أبي خليل أن أطفال العائلات السورية ذات الأوضاع الاجتماعية الأكثر هشاشة هم عرضة للعمل في الشوارع والتسول. فالمساعدات الاجتماعية التي تقدمها الأمم المتحدة  وبرنامج الغذاء العالمي لا تعتبر كافيةً لتأمين حياة كريمة للعائلات، وذلك لناحية الحاجات الأساسية والتكاليف اليومية، مما يجبر الكثير من الأطفال على اللجوء إلى العمل والتسول.

 خلافاً لذلك، تفيد معاوية، التي ترمي كامل المسؤولية على اللاجئين مستبعدة الأوضاع الاقتصادية الهشة، معتبرة أن “مساعدات الأمم كافية لمنعهم من التسول، لكن التسول هو جزء من طبيعتهم. فمهما تلقوا من مساعدات، هم يختارون التسول”. وتذهب أبعد من ذلك، لتقول بأن “وزارة التربية تستقبل جميع الأطفال السوريين للدراسة، لكن اللاجئين يختارون أن يرسلوا أطفالهم للعمل طمعاً بالمال بدلاً من الدراسة”. علاوة على ذلك، تعتبر معاوية بأن “وزارة الشؤون الاجتماعية قامت بتنظيم ورش عمل متعددة لتوعية العائلات حول أهمية رفع سن الزواج وتعدد الزوجات، بالإضافة إلى تحديد معدل النسل، إلا أنهم لا يلتزمون، ويصرون على إنجاب الأولاد، طمعاً بالتقديمات الاجتماعية من المنظمات مقابل كل ولد جديد”. والحال أن معاوية تعتبر أن “القانون في سوريا يمنع التسول (هذا مع العلم أن لبنان يجرّم التسول أيضا)، لذا فهم يفضلون العيش في بلادنا لأجل التسول، وأن الدولة اللبنانية محرجة من توجيه التهم لمن يحمل صفة لاجئ خوفاً من إتهامها بالعنصرية”.

وزارة الشؤون تلتزم الدور التوعوي

تعدّ وزارة الشؤون الإجتماعية حملة توعية إعلامية ضمن المشروع الوطني لمكافحة التسول الذي بدأ منذ نحو عامين، تحت عنوان “ما تكون شريك في الجريمة”. تهدف الحملة إلى إشراك المجتمع في مكافحة ظاهرة التسول، وحثهم على عدم المشاركة في إستغلال الأطفال عبر إعطائهم المال. كما ستضع الوزارة بعهدة المواطنين الأرقام الساخنة التابعة لجهات رسمية كوزارة الشؤون، وجهات أخرى كالمنظمات الدولية والجمعيات المعنية بمكافحة التسول.

هذا ما تؤكد عليه معاوية، التي اعتبرت أن مكافحة ظاهرة التسول على الأرض ليست بيد وزارة الشؤون إنما بيد قوى الأمن والقضاء. “ويكمن دور الوزارة بشكل رئيسي في نشر التوعية واحتضان الأطفال الذين يحولهم القضاء إليها، وتأمين دخولهم إلى دار الرعاية المناسب”، بحسب تعبيرها. وقد أكدت معاوية قيام الوزارة بدورات تدريب ناشطين اجتماعيين في مناطق عدة، ليقوموا بدورهم بتوعية اللاجئين السوريين حول مواضيع متعددة كتحديد النسل، والتوعية على التعليم، ورفع سن الزواج، وغيرها. من ناحية أخرى، تعتبر معاوية أنه “لا يمكن إلقاء اللوم على وزارة الشؤون”، مؤكدةً أن “موازنتها لا تتعدى الـ 1% من موازنة الدولة، فالأولوية هي لتمويل مؤسسات الرعاية”.

 هذا الأمر يوضح غياب أي خطة أبعد من التوعية يمكن لوزارة الشؤون أن تنفذها، كما يشير إلى ضعف التعاون بين أجهزة الدولة القضائية والإدارية. إذ تحمّل معاوية المسؤولية إلى القوى الأمنية، “فعناصر قوى الأمن الداخلي، منتشرة في كل مكان والأطفال المتسولون أمامهم، لماذا لا يتحركون؟”. وتؤكد ، أن “القضاء نادراً ما يتحرك لأجل أطفال الشوارع، بسبب التركيز بشكل أكبر على العنف ضد المرأة والأطفال المعرضين للعنف “. ثم تستطرد قائلة، “لو افترضنا أن القضاء أراد تحويل الأطفال المتسولين إلى دور الرعاية، فالأمر شبه مستحيل، بسبب عدم وجود دور رعاية كافية لإيوائهم، والبلد مليان أطفال متسولين”.

من جهتها، تلفت أبي خليل إلى أن علاج الظاهرة يكمن في التعامل مع أسبابها. فالتسول هو نتيجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية. لذا، تعتبر أن “الفقر هو دورة حياة فينتقل من جيل إلى جيل، ومن الضروري كسر هذه الدورة في زمان معين. لذا فإن استهداف الأطفال في عمر الصغر يكسر هذه الدورة عبر تسهيل فرصهم بالتعليم، لأجل تحسين مستقبلهم وضمان استمرارهم في التحصيل العلمي”.

لذا فإن تأمين التعليم وتسهيل الوصول إليه هو أحد سبل العلاج، كذلك دعم العائلات اقتصادياً، عبر تنفيذ مشاريع تُشرك الآباء بوظائف مقابل أجر مادي. لهذه الناحية، تُشير أبي خليل إلى أن اليونيسف عمدت إلى تنفيذ برامج تعليمية تستهدف العائلات الأكثر هشاشة، بالتعاون مع وزارة التربية  ضمن خطة لبنان للاستجابة للأزمة السورية. وإضافة إلى ذلك، تلفت أبي خليل إلى إلحاق الأطفال المبتعدين عن المدرسة منذ وقت طويل إلى برامج دعم وتقوية ليتمكنوا من تحسين مستواهم ليتناسب مع المنهج الأكاديمي اللبناني. وتعمل اليونيسيف ضمن هذه البرامج على إشراك رب العائلة بورش عمل تمكنه من تحصيل الدخل، وإشراك الأم بنشاطات اجتماعية.

الأطفال المتسولون مؤقتاً في دور الرعاية: التسول ليس من أولويات القضاء والأمن

تظهر المعطيات بأن دور الرعاية تعطي أولوية  كبيرة لمن تعتبرهم “أطفالاً في حال الخطر”، وهم الأطفال الذين يتعرضون لنوع من العنف كالإيذاء والضرب والتحرش الجنسي والإعتداء والإغتصاب والتسرب من المدرسة، والهروب من بيت العائلة وأحياناً التشرد. والحال، أن دور الرعاية تستقبل الأطفال المعرضين لأنواع مختلفة من العنف وغالباً العنف المنزلي، وذلك بإشارة من قاضي الأحداث، أو عبر النيابة العامة، وبالتالي تحوّل الجمعية ملف الطفل إلى قاضي الأحداث. ويظهر أن الأطفال المتسولين يتم تحويلهم إلى دور الرعاية بإشارة فقط من النيابة العامة وليس من قاضي الأحداث، وبالتالي يمكثون هناك بشكل مؤقت من أربعة أيام إلى أسبوعين، ريثما يقوم الأهل بتسوية الوضع، عبر توقيع تعهد بعدم إرسال أطفالهم إلى التسول ودفع غرامة مالية.

وقد يلجأ المعنيون في دار الرعاية إلى تحويل ملف الطفل المتسول إلى القضاء، في حال لوحظت مؤشرات تفيد أن الطفل قد تعرض لأذى وعنف ولم يعد آمناً إعادته إلى عائلته. ومؤدى هذا الأمر، أنه نادراً ما يقوم قضاء الأحداث بإنشاء ملف حماية للطفل فقط لأنه متسول، إلا إذا ارتبطت حالته بنوع من العنف. وقد يكون مرد ذلك، أن أعداد الأطفال في الشوارع يفوق مقدرة دور الرعاية في لبنان على رعاية الأطفال، مما يجعل إمكانية حماية هؤلاء الاطفال أمرا صعبا في ظل غياب أي استراتيجية شاملة ذات فعالية.

دور الرعاية والقضاء

أكد المعنيون في  دور الرعاية الذين التقتهم “المفكرة”، أنه لدى إحالة طفل إليهم عبر قاضي الأحداث، فإن المركز يقوم بتطبيق الإجراءات التنفيذية الموحدة لحماية الأحداث التي أصدرتها وزارة الشؤون الاجتماعية عام [4]2016. وهذه الإجراءات عبارة عن توجيهات لأجل اعتماد معايير وسياسات موحدة لتأمين الرعاية الأفضل للطفل في المؤسسة. كما أكدوا أنهم يقومون بتعبئة نماذج تقارير ورفعها بشكل دوري إلى وزارة الشؤون الاجتماعية، تتعلق بسير العمل مع الطفل، وحاجاته. كما يتم إرسال تقارير معمقة إلى المحكمة تتعلق بإجراءات الحماية، كتقييم الخطر الذي تعرض له الطفل، وأهداف خطة تأهيل الطفل، وسير العمل مع عائلته، وخلاصة العمل مع الطفل.

وقد أكدت مديرة بيت الرجاء الإنجيلي راغدة العسل أنه خلال مدة وجود الطفل لدى دار الرعاية، يتابع قاضي الأحداث جلسات المحاكم مع عائلة الطفل. وحين يرى القاضي أن العائلة أصبحت مؤهلة لإعادة الطفل، يُصدر حكماً مشروطاً ببعض التدابير لتأمينها للطفل قبل عودته إلى عائلته. ثم، يطلب القضاء من دار الرعاية المتابعة لمدة أربعة أشهر وضع الطفل بعد عودته إلى منزل عائلته، بالإضافة إلى تكليف مندوب الأحداث بأن يتابع تطبيق الحكم القضائي. ويلحظ أن بيت الرجاء في الكحالة (Home of Hope) التابع للجمعية الإنجيلية اللبنانية، هو الملجأ الوحيد المعني بحماية الأطفال في الشوارع من بين الجمعيات المعنية بالأحداث والمتعاقدين مع وزارة الشؤون الاجتماعية. وتفيد العسل، أن غالبية الأطفال المتواجدين في المركز هم أطفال “معرضون للخطر”، وأقلية منهم من المتسولين. ويعود الأمر لندرة إرسال القضاء أطفالاً إلى دور الرعاية على خلفية تسول، والأولوية التي يعتمدها قاضي الأحداث مع الأطفال المعرضين للخطر داخل منزلهم.

من جهتها، تؤكد المديرة التنفيذية لجمعية “نادر للخدمة الاجتماعية” في شمال لبنان ماريلين روفايل، وهي جمعية تعنى بالأطفال المعرضين للخطر والمتسربين من المدارس، بأن “المركز استقبل مرة واحدة أطفالا متسولين وذلك في العام 2012”. وكان ذلك، ضمن حملة قامت بها القوى الأمنية بإشارة من وزير الداخلية والبلديات الأسبق مروان شربل. وتضيف، “جرى ذلك  بإشارة من النيابة العامة، فتجلب القوى الأمنية الطفل إلينا ويتم التحقيق معه بوجود مساعد إجتماعي من الجمعية”. تضيف، “حينها استقبلت الجمعية نحو 50 طفلاً يعملون أو مشردين في الشوارع، وكانوا غالبيتهم سوريين ومن أعراق وانتماءات إثنية مختلفة كالغجر والبدو والتركمان”. وهنا تلفت روفايل إلى أمر هام مفاده أن “الطفل كان يصل إلى المركز مكبلاً بالأصفاد، ما يشكل إهانة للطفل”. تضيف: “اعترضنا حينها على هذا الإجراء وطلبنا عدم تكبيل أيدي الطفل لأنه يُعتبر ضحية وليس مجرماً، وسرعان ما تجاوبت معنا القوى الأمنية”.

إذن، يعتبر دار الرعاية بالنسبة للطفل المتسول محطة إلى أن يعود إلى عائلته بعدما يقوم ذووه بتوقيع تعهد لدى النيابة العامة. والحال أن هذه التعهدات ليست رادعاً أمام العائلة لعدم السماح للطفل بالتسول، إذ تؤكد معاوية بأن المراكز الأمنية تفتقر لآلية التواصل فيما بينها. فعندما يُلقى القبض على أحد الوالدين بتهمة إستغلال أولاده للتسول، لا يوجد أي آلية للتأكد إن كان قد وقع تعهداً مسبقاً، ففي حالات عدة جرى إعادة إجبار العائلة على توقيع تعهد من دون اتخاذ إجراءات بحق الولي إن كان قد خالف تعهداً سابقاً.

الأولوية للأطفال المعرضين للعنف

نلحظ اختلافا في طرق دور الرعاية في تعاملها مع الأطفال المحالين إليها، وفق ما إذا كانوا أحيلوا إليها على خلفية التسول بإشارة من النيابة العامة، أو على خلفية تعرضهم للعنف بإشارة من قاضي الأحداث. وفي هذا الصدد، تؤكد العسل بأن بيت الرجاء وقع عقداً مع وزارة الشؤون الاجتماعية لإيواء الأطفال المعرضين للخطر (وهم غالباً الذين تعرضوا لعنف) لمدة لا تتجاوز 12 شهراً، إلا في حالات استثنائية حين يُفقد التواصل مع عائلة الطفل. وتؤكد العسل، في هذا السياق أن المركز يقوم بإيواء الطفل الذي تعرض للخطر تبعاً لملف حماية عبر قاضي الأحداث. “فإن أوصلوا إلينا طفلاً من غير ملف حماية لا نستقبله، وإلا يعتبر خطفاً”، بحسب تعبيرها. تتابع العسل، وخلال مدة وجود الطفل لدى الجمعية، تجري متابعته على الصعيد النفسي، وتعليمه النظام، وتهيئته لمتابعة دراسته، وتأمين دخوله إلى المدرسة.

من جهتها، تشير روفايل إلى أن مركز نادر مخصص فقط للذكور، ومعني بالأحداث المعرضين للخطر، وهو قادر على إيواء نحو 90 طفلاً، 10% منهم هي كوتا للأجانب، إلا أن المؤسسة قد تتخطى النسبة في بعض الأحيان كي لا تغلق أبوابها أمام الحالات الإنسانية الصعبة، حسب تعبيرها. تؤكد روفايل بأن النيابة العامة تُحوّل الأطفال إلى الجمعية، من ثم تقوم الجمعية بتحويل ملفاتهم إلى قاضي الأحداث، وذلك بهدف إشراك القضاء في حماية الطفل، وتحضير ملف حماية له لتحديد مصيره بالشكل المطلوب.

تشير روفايل إلى أن مركز نادر يضع مجهوداً كبيراً على تأمين التعليم للطفل، إذ أن غالبية  الحالات التي تصل إلى المركز، تكون لأطفال تسربوا من المدارس بإرادتهم نتيجة غياب السلطة والنظام التربوي الفعّال، ونتيجة تعرضهم لعنف في المنزل، أو نتيجة تفكك أسري، كما نتيجة سوء النظام التعليمي في المدارس الرسمية وضعف الفريق التربوي، وغيرها من الأمور. كما ترتبط حالاتهم في معظم الأحوال، بالهروب من المنزل والتشرد والتسكع النهاري بشكل مستمر. وتلفت إلى أن الأطفال يبقون لدى المركز إلى حين تأكُد قاضي الأحداث من عودتهم الآمنة إلى منازلهم. وقد تتفاوت مدة مكوث الطفل لدى جمعية نادر، وقد تصل إلى سنوات حسب حالة كل طفل، وأحياناً إلى حين بلوغه 18 عاماً.

  • نشر هذا المقال في عدد | 56 | تموز 2018،  من مجلة المفكرة القانونية. لقراءة العدد انقر/ي على الرابط ادناه:

         هل حقا نريد ردع الإتجار بالبشر؟ هل حقا نريد حماية ضحاياه؟

 


[1]   جميع اسماء الأشخاص المتسولين هي أسماء مستعارة.

[2]  بالفيديو توقيف متسولين في الحمرا، المدن، الإثنين 12 شباط 2018، https://goo.gl/x6uZFD.

[3]  زياد شبيب يطلب ملاحقة المتسولين، النشرة، 29 تموز 2016، https://goo.gl/c4L1od.

[4]  وثيقة سياسة حماية الطفل الموحدة الخاصة بالمؤسسات والجمعيات الأهلية العاملة مع الأطفال في لبنان، وزارة الشؤون الاجتماعية بالتعاون مع منظمة أبعاد، موزاييك، AFEL، برنامج التعاون الإيطالي2016. ، https://goo.gl/Yyr5EQ.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، مجلة لبنان ، لبنان ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، الحق في الصحة والتعليم



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني