تجريم الإثراء غير المشروع وضبط تضارب المصالح في تونس: خطوة هامة في الاتجاه الصحيح


2018-07-25    |   

تجريم الإثراء غير المشروع وضبط تضارب المصالح في تونس: خطوة هامة في الاتجاه الصحيح

صادقت الجلسة العامة لمجلس نواب الشعب التونسي بتاريخ 17-07-2018 على مشروع القانون عدد 2017/89 المتعلق “بالتصريح بالمكاسب والمصالح وبمكافحة الإثراء غير المشروع وتضارب المصالح”. وقد كان منطلق تصور هذا المشروع، ما تم معاينته من فشل للمقاربة التي اعتمدها القانون عدد 17 لسنة 1987[1] المتعلق بتنظيم تصريح أعضاء الحكومة وجانب من إطارات الدولة[2] بمكاسبهم، في  حماية المال العام وإبعاد من يقومون على إدارته عن شبهات الفساد. فالاعتماد على تصريح على الشرف يبقى أمرا  أخلاقيا يفتقر لتصور وظيفي مؤسساتي [3].

خص القانون عدد 17 الرئيس الأول لدائرة المحاسبات[4] بتلقي التصاريح بالمكاسب لكنه لم  يسند له ولا للمؤسسة القضائية التي يفترض أنه يمثلها أي صلاحية لتتبع من يتخلفون عن الاضطلاع بهذا الواجب كما لم يسند لأي منهما دورا رقابيا على ما تتضمنه التصاريح المودعة من معطيات. وقد تجاوز القانون الجديد هذا التصور الشكلي للتصريح بالمكاسب ليتجه إلى صياغة تصور وظيفي له يقوم على أسس هي:

توسيع لائحة الأشخاص الملزمين بالتصريح:

أخضع القانون الجديد لأحكامه طائفة هامة من الموظفين والمشتغلين في القطاع الخاص لواجب التصريح. فكان أن توسع نطاق الأشخاص المعنيين بالتصريح في القطاع العام ليشمل المشتغلين في الأمن الداخلي وغيرهم من أعوان الوظيفة العمومية الأكثر عرضة لمغريات الإرشاء وليشمل في القطاع الخاص الإعلاميين وأصحاب المؤسسات الإعلامية والمسؤولين النقابيين ومسيري الجمعيات والأحزاب. ويبدو التوجه نحو توسيع قاعدة التصريح على علاقة بما كشفت عنه مؤشرات الشفافية من خطورة تفشي الفساد الصغير في القطاع العام وبما يفترض في إطار المجتمع الديمقراطي من اعتراف بما للإعلام ومؤسسات المجتمع المدني والسياسي والنقابي من سلطة قد تكون مدخلا للإفساد يتعين التنبه له.

تعزيز موجب التصريح بإجراءات تضمن الإلتزام به:

لما سئل وزير العدل سنة 1987 عما يضمن التزام الخاضعين للتصريح به كان رده “أن الخوف من تنحيتهم من مهامهم سيكون سببا في التزام المطالبين بالتصريح به”. لم يكن لاحقا لهذا الخوف من أثر في الممارسة، سواء قبل الثورة أو بعدها، إذ سجل عزوف نسب هامة من الملزمين بالتصريح عن القيام بواجبهم بفعل التقاعس في حالات وبفعل ما يرجح أن يكون تحضيرا من فئة منهم  لتنمية غير مشروعة لثرواتهم في حالات أخرى.

في محاولة لتجاوز الخلل المذكور، أناط مشروع القانون بهيئة الحوكمة الرشيدة[5] ومكافحة الفساد مسؤولية تلقي التصاريح[6] وفرض على كل الإدارات العامة التعاون معها في الجرد الدوري لمن التزم بالواجب ومن أخل به[7] .وألزمها –أي الهيئة – بأن  تنشر كل ستة أشهر بموقعها الإلكتروني جدولا إسميا  يبين حصيلة هذا التقصي[8]. وعلاوة على ذلك، سلّط المشرّع عقوبات على من لم يصرح بمكاسبه منها الإداري والذي يتمثل في حجز لثلثي المرتب أو المنحة المستحقة[9] ومنها الجزائي والذي يتمثل في مرحلة أولى بخطية مالية شهرية لا يتوقف توظيفها إلا بإتمام التصريح، ويؤول في مرحلة ثانية في صورة تواصل الإخلال مدة ستة أشهر كاملة رغم التخطية بعقوبة سجنية[10].

يتبين مما سلف أن التصور التشريعي سعى إلى فرض التزام كامل بالتصريح في جانب من هم ملزمين به من خلال تحفيزهم على ذلك أولا عبر هياكلهم الإدارية ومن خلال استعمال سلطة الرأي العام في هذا الإطار من خلال إشهار قوائم الممتنعين عن التصريح والملتزمين به ثانيا، وصولا ثالثا وأخيرا لفرض سياسة عقابية متدرجة وصارمة في مواجهة المخلّين المتمسكين بإخلالهم. ويرجى تبعا لهذا التوجه المركب والصارم أن تكون نسب الالتزام بالتصاريح في حدها الأقصى بما يعطي لمجهود التدقيق فيها بعدا عمليا هاما.

– التدقيق في التصاريح:

فرض قانون 87 سرية صارمة على المعطيات التي يتم التصريح عليها، على نحو يحول دون استخدامها لإثبات الفساد المالي خارج تتبعات جزائية سابقة موضوعها جريمة تربح من الوظيفة[11]. اتجه في المقابل مشروع القانون الجديد إلى فرض:

  1. أن تكون تصاريح الصف الأول من أصحاب المسؤوليات السياسية في الدولة علنية تنشر للعموم مع حجب المعطيات الشخصية التي قد تتضمنها.
  2. أوجب على قسم مكافحة الفساد بهيئة الحوكمة التقصي والتحقق في صحة كل التصاريح بالمكاسب والمصالح التي تصدر عن سامي إطارات الدولة وأن تخضع عينات من تصاريح غيرهم لذات الرقابة.

ويلاحظ هنا معاودة حضور الرأي العام كرقيب على جانب من مسؤولي الدولة زيادة على استعمال التدقيق الحرفي في التصاريح بما يؤكد صدق نية المشرع في استثمار التصاريح بشكل يفضي لمكافحة الفساد. وقد يكون اختياره أن يعتمد التصريح بصيغة الكترونية عاملا يساعد في إنجاح هذه الغاية اعتبارا لكونها صيغة تسهل حفظ المعطيات ومعالجتها وفق منظومات قد تعدّ للغرض.

التوقي من تضارب المصالح:

كان  قانون 87  يكتفي بنظر المكاسب بحثا عن تخليق العمل في القطاع العام وسعيا لإبعاده عن الباحثين عن تنمية ثرواتهم باستغلال اشتغالهم به. وكشف سقوط النظام الذي كان نافذا في عهده أن جانبا كبيرا من الفساد الذي يشارك فيه مسؤولو الدولة وموظفوها تظهر محصلته في الذمة المالية لغيرهم،  وهم عادة من تربطهم بهم علاقات قرابة أو شراكة ويستغلون ذلك الرابط  في جمع عمولات لقاء وساطات  يباشرونها.

تجاوز مشروع القانون هذا الفراغ فأضاف لوجوب التصريح بمكاسب الخاضعين له تصريحا منهم بمصالحهم.

كما تضمن نصه أحكاما هدفها التوقي من حالات تضارب المصالح وهي الحالات التي عرفها بكونها “الوضعية التي يكون فيها للشخص الخاضع لأحكامه مصلحة خاصة مباشرة أو غير مباشرة يستخلصها لنفسه أو لغيره تؤثر أو من شأنها أن تؤثر على أدائه الموضوعي والنزيه والمحايد لواجباته المهنية”. وكان أول نص قانوني تونسي يضبط تفاصيلها بشكل يوضح المقصود منها ويفرض علم الجميع بها بما يمنع ادعاء الشبهة وحسن النية عمن يتورطون في تلك الممارسات التي انتهى إلى تجريمها كما الإثراء غير المشروع.

– تجريم الإثراء غير المشروع :

انتهت أغلب ملفات الفساد التي شملتها الأبحاث بعد الثورة إلى أحكام بعدم سماع الدعوى بسبب غياب أدلة تثبت الارتشاء والتربح من الوظيفة وذلك رغم حضور مؤشرات فساد تتمثل في تضخم غير مبرر لثروات من تمت ملاحقتهم. تجاوزا لهذا الواقع، وسعيا لضمان حماية جزائية شاملة لنزاهة الموظف العمومي ومن يشبهون به، جرّم مشروع القانون لأول مرة بتونس الإثراء غير المشروع الذي عرفه بكونه “كل زيادة هامة في مكاسب الشخص الخاضع لأحكام هذا القانون تحصّل عليها لفائدته أو لفائدة من تربطه به صلة أو زيادة ملحوظة في حجم إنفاقه تكونان غير متناسبتين مع موارده ولا يستطيع إثبات مشروعية مصدره”.

يتبين مما سلف أن مشروع القانون الجديد سيكون ركيزة هامة من ركائز مكافحة الفساد في النظام التشريعي والمؤسساتي للجمهورية الثانية ويؤمل أن توفر السلطة التنفيذية لهذه الركيزة كل مقومات نجاحها بداية من سرعة سنّ النصوص الترتيبية اللازمة لنفاذها ووصولا لتخصيص ما يلزم من اعتمادات لكي يتسنى حسن تركيزها.

 


[1]   القانون عدد 17 لسنة 1987 مؤرخ في 10 أفريل 1987 يتعلق بالتصريح على الشرف بمكاسب أعضاء الحكومة وبعض الأصناف من الأعوان العموميين.

[2]  ينص الفصل الأول منه  ” على أعضاء الحكومة والقضاة والسفراء والولاة ورؤساء المؤسسات الأم والمؤسسات الفرعية كما وقع تعريفها بالقانون عدد 72 لسنة 1985 المؤرخ في 20 جويلية 1985 القيام بتصريح على الشرف بمكاسبهم وبمكاسب أزواجهم وبمكاسب أبنائهم القصر وذلك في أجل لا يتجاوز شهرا من تاريخ تعيينهم في وظائفهم.

كما يخضع لهذا التصريح بالمكاسب أعضاء الدواوين الوزارية والكتاب العامون للوزارات والمديرون العامون ومديرو الإدارة المركزية والقناصل العامون والقناصل والمعتمدون الأولون والكتاب العامون بالولايات وبالبلديات والمديرون العامون والمديرون العامون المساعدون والمديرون بالمؤسسات الأم والمؤسسات الفرعية وأعوان إدارة التجارة وأعوان الإدارة الجبائية وكذلك كل عون للدولة أو الجماعات العمومية المحلية أو المؤسسات العمومية الإدارية يقوم بمهام آمر صرف أو محاسب عمومي.

ويخضع أيضا للتصريح بالمكاسب كل شخص نظرت الوظائف الموكولة اليه بإحدى الوظائف المشار إليها بالفقرتين الأولى والثانية من هذا الفصل

[3]   ورد في كلمة وزير العدل  محمد الصالح العياري أثناء مناقشة مشروع القانون  ” هذا قانون  شرف ذي البعد الأخلاقي لا الزجري ” – يراجع مداولات مجلس النواب عدد 25  جلسة الثلاثاء 07  -04-1987 – الرائد الرسمي للجمهورية التونسية .

[4]  محكمة المحاسبات .

[5]  بالنسبة لموظفي تلك الهيئة تختص محكمة المحاسبات – دائرة المحاسبات حسب تسميتها المؤقتة  الحالية –  بتلقي تصاريحهم .

[6]   ينص الفصل الثامن منه ” يقدّم التصريح بالمكاسب والمصالح مباشرة إلى الهيئة في أربعة نظائر ويسترجع القائم بالتصريح نظيرا منها مصحوبا بوصل كما يمكن أن يوجه التصريح إلى الهيئة بطريقة إلكترونية وفق الصيغ التي تضبطها.توجّه الهيئة نظيرا من التصريح إلى محكمة المُحاسبات “

[7] ينص الفصل 12 ” على أنه على  الهياكل العمومية متابعة قيام الأعوان الراجعين إليهم بالنظر بواجب التصريح بالمكاسب والمصالح بالتنسيق مع الهيئة.ويجب على كل هيكل عمومي قبل الانتهاء من الآجال المنصوص عليها في الفصل 5 من هذا القانون مد الهيئة بقائمة إسمية في الأعوان الراجعين إليها بالنظر المطالبين بواجب التصريح وتحيينها كلما اقتضى الأمر ذلك. فيما  يقتضي الفصل 13 ” تتولى الهيئة مدّ رؤساء الهياكل والهيئات العمومية بقائمة إسمية في الأشخاص الراجعين إليهم بالنظر المصرحين بمصالحهم ومكاسبهم وكذلك قائمة بأسماء الأشخاص الذين لم يقدموا تصريحهم أو لم يجددوه بما في ذلك رؤساء الهياكل والهيئات العمومية

[8]  اقتضى الفصل 14 ” تنشر الهيئة كل ستة أشهر على موقعها الالكتروني قائمة في القائمين بالتصريح والممتنعين عنه”

[9]  ينص الفصل 31 ” …يترتب عن عدم التصريح بالمكاسب والمصالح أو تجديده طبقا للشروط والآجال المضبوطة بهذا القانون بالنسبة إلى باقي الأشخاص المنصوص عليهم بالفصل 5 من هذا القانون  اقتطاع ثلثي المرتّب أو المنحة بحسب الحال عن كلّ شهر تأخير وذلك مع مرعاة الأحكام المخالفة المنصوص عليها بنصوص خاصّة “

[10]  ينص الفصل 32 “يعاقب بخطية ب300 د عن كل شهر تأخير كل من يمتنع عن التصريح بمكاسبه ومصالحه إثر انتهاء مهامه. وإذا تواصل التأخير لمدة 6 أشهر يكون العقاب بالسجن لمدة سنة وبخطية ب20 ألف دينار ويعد الامتناع عن التصريح قرينة على توفر شبهة إثراء غير مشروع ويتعيّن على الهيئة مباشرة إجراءات التقصي والتحقق بشأنها.”

[11]   ينص الفصل الخامس   – يحجر اطلاع الغير على المعلومات المضمنة بالتصاريح فيما عدا الوزراء بالنسبة للأعوان الراجعين إليهم بالنظر بناء على طلب صادر عن الوزير المعني بالأمر يوجه إلى الرئيس الأول لدائرة المحاسبات كلما اقتضى الحال ذلك.ويعاقب كل مخالف وفقا لأحكام الفصل 109 من المجلة الجنائية. فيما يقتضي الفصل   السادس لا يمكن التعرض لهذه التصاريح أمام المحاكم إلا إذا كان عضو الحكومة أو أحد المسؤولين المشار إليهم بالفصل الأول من هذا القانون موضوع دعوى جزائية مبنية على أفعال متفرقة في نطاق قيامه بوظيفته أو بمناسبة ممارسته لها ورأت المحكمة المختصة بهذه الدعوى ضرورة الاطلاع على هذه التصاريح

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد البرلماني ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني