قضية لينسل، لا مكان لغير الرواية الرسمية: حين تصبح النيابة العامة كاتما للصوت


2018-06-22    |   

قضية لينسل، لا مكان لغير الرواية الرسمية: حين تصبح النيابة العامة كاتما للصوت

بتاريخ 18/6/2018، تلقت إدارة “المفكرة” كتابا من قوى الأمن الداخلي (مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية) يرجوها العمل على إلغاء مقال الزميلة إلهام برجس المنشور على موقعها، وذلك بما أمكن من السرعة:

نظاما الكفالة والعدالة في مرآة لينسل: هل يكفل نظام الكفالة الإفلات من العقاب؟

وقد استند الكتاب المذكور على الإشارة الصادرة عن المحامي العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضي رامي عبدالله، في إطار التحقيق العدلي العالق لدى المكتب المذكور بشكوى المدعيتين كريستل والكسيز خليل ضد موقع this is Lebanon  وكل من يظهره التحقيق بجرم تشهير عبر الفايسبوك واليوتيوب. وقد وجه المكتب  الكتاب المذكور بعدما كان اتصل بالمفكرة من قبل هاتفيا وبواسطة الإيميل، لمطالبتها بالأمر نفسه. وقد تبين للمفكرة أن هذا الكتاب قد وجّه إلى العديد من وسائل الإعلام والمنظمات الحقوقية الأخرى.

وللتذكير كانت لينسل (وهي سيدة أثيوبية) روت في فيديو مصور، تعرضها للتعذيب والعنف من قبل كفلائها مما دفعها للقفز من الشرفة هربا من المنزل مما أدى إلى إصابتها، لتعود بعد نشر الفيديو ورجوعها إلى منزل كفيلتها إلى تكذيب روايتها الأولى وإعلان حبها للكفيلة وأسرتها. وقد جرت تحقيقات فيما بعد لدى قوى الأمن الداخلي والأمن العام، أُعلن من بعدها أن مسألة الفيديو كانت مجرد كذبة مفبركة.

وتوجه النيابة العامة على هذا الوجه، والذي يشكل سابقة في التعامل مع وسائل الإعلام، إنما يعكس اهتماما وحماسة لافتين لفرض الرواية الرسمية التي توصلت تحقيقات القوى الأمنية إليها، وصولا إلى إزالة أي تشكيك فيها، كل ذلك بهدف حماية سمعة الكفيلتين. وهذا التوجه يقبل مآخذ ثلاثة:

المأخذ الأول، أن توجه النيابة العامة يُظهر انحيازا فكريا واضحا، عن وعي أو غير وعي، لاعتماد رواية أصحاب العمل، تمهيدا لتبرئة ذمتهم من اتهام التعذيب أو سوء المعاملة.

وهذا الأمر يتحصّل من الأهمية التي علقتها النيابة العامة على تراجع العاملة عن إفادتها. فمن البين أن النيابة العامة اعتبرت أن هذا التراجع يشكل دليلا كافيا على عدم صحة ما ورد سابقا في الفيديو عن أعمال تعذيب واستغلال، دليلا من شأنه دحض مجمل القرائن على حصول هذه الأعمال، ومن أبرزها اضطرار العاملة على القفز من النافذة (بدل الخروج من باب البيت) أو أيضا تكسّر عظامها بنتيجة هذه القفزة.

وما يزيد هذا التوجه انتقادا هو أمران:

1- أنها توصلت إلى ذلك على أساس تحقيقات أجرتها القوى الأمنية بالكواليس وبحضور أصحاب العمل، ومن دون أن يتولى أي من المحامين العامين عناء الإستماع إليها مباشرة والأهم من دون أن تحظى بمؤازرة محام أو بأي مساعدة قانونية. ومن هذه الوجهة، تكون النيابة العامة اطمأنت إلى رواية تبرئة أصحاب العمل على أساس تحقيقات مجتزأة تمت وفق أصول تعجز عن طمأنة “الضحية المحتملة” لينسل إلى امكانية قولها للحقيقة من دون أن تتعرض لأي تهديد من جراء ذلك.

2- أن تعويل النيابة العامة على تراجع العاملة عن إفادتها إنما يعكس فهما منقوصا ومبهما للوضع الذي تعيش فيه العاملة المنزلية في ظل نظام الكفالة، والذي يجعلها عاجزة عن البوح بالحقيقة أو المطالبة بالعدالة، بل يجعلها مضطرة في حال انكشافها، إلى تكذيبها وبذل الجهد لإعادة طمسها. وهذا ما دفع “المفكرة” إلى عنونة المقال الخاص بقضية لينسل بسؤال: “هل يكفل نظام الكفالة الإفلات من العقاب؟” وسؤالها هذا لا ينبع عن معلومات خاصة بالملف (حيث لم يتسنّ لنا مقابلة لينسل كما لم يتسنّ لنا حتى اللحظة الاطلاع على التحقيقات الأولية) وليس عن موقف مسبق من مجرى التحقيقات، لكن عن الخلاصات العامة التي يصل إليها أي مراقب جدي لنظام العدالة في قضايا عاملات المنازل. فهذه المتابعات تبيّن بشكل لا لبس فيه أن نظام الكفالة المعمول به في لبنان يسهم بفعل الامتيازات التي يمنحها للكفيل، ليس فقط في تمكين هذا الأخير من استغلال العاملة بشكل واسع إنما أيضا (وهذا ما لا يقل خطورة) في تمكينه من الإفلات من العقاب وتاليا في تجريد العاملة من أي حماية قضائية. فأن يربط نظام الكفالة قانونية الإقامة بعقد العمل، يعني أنه يجعلها في وضع غير نظامي في حال تركها العمل أيا كان سبب الترك. ومن شأن هذا الأمر بداهة أن يحدّ من خيارات العاملة “الضحية” التي تكون في غالب الأحيان مرغمة على تحمل الانتهاكات بحقها وتقبلها حفاظا على قانونية إقامتها. وإذ يصبح صبرها في هذه الحالة جزءا من تضحياتها لمساعدة عائلتها في موطنها الأم، فإنه غالبا ما يؤدي إلى تشجيع “الكفيل المعتدي” على مضاعفة انتهاكاته.

وخيارها باللجوء إلى العدالة يكون أيضا معدوما حتى في الحالات التي قد تضطر فيها العاملة وتنجح في “الهروب” من مكان العمل، كلما كانت مضطرة لإعالة عائلتها في البقاء في لبنان. ففي هذه الحالات، يكون ترحيل العاملة حتميا عملا بنظام الكفالة، ما لم تستحصل على تنازل كفيلها (المعتدي) عن كفالته عليها لصالح شخص آخر. وهذا ما يفرض عليها وعلى الهيئات العاملة على مساعدتها، مناشدة الكفيل للتنازل عن حقه بالكفالة مع التخلي التام بالمقابل عن تقديم أي شكوى ضده.

والبين مما تقدم أن تكتّم العاملة على الانتهاكات المرتكبة ضدها أو تخليها عن امكانية الادعاء ضد كفيلها يشكل في ظل نظام الكفالة شرطا أساسيا في حال رغبت الاستمرار بالعمل في لبنان. ولا نبالغ تاليا إذا قلنا اختصارا أن نظام الكفالة يجرد العاملات في ظله من حقهن بالتقاضي أو بكلمة أخرى بالاستفادة من الحماية القانونية”، أي من أحد الحقوق المضمونة في العهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية وللحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية واللذين يشكلان جزءا لا يتجزأ من الدستور اللبناني. فيصبحن دائما أمام المعادلة الآتية:

“العمل في لبنان أو العدالة بعد الترحيل”

وانطلاقا من هذه المعادلة الظالمة، يصبح صمت العاملات أو تأكيدهن على حسن معاملة أصحاب العمل لهن نتيجة طبيعية لحاجتهن للعمل في لبنان في ظل نظام الكفالة، من دون أن يكون بإمكان أي عاقل أن يستنتج منهما بشكل أكيد يطمئن له العقل والضمير، غياب الانتهاكات. وما ينطبق على العاملات عموما، ينطبق من باب أولى في حالة لينسل، في حين كانت راقدة في المستشفى تعاني من كسور في أعضائها. فمن سيسدد فاتورة المستشفى؟ وهل هي قادرة على إثبات الاتهامات التي ساقتها في الفيديو وإن كانت صحيحة 100% أم أن هذه الاتهامات ستستخدم لاتهامها بالقدح والذم والتشهير، مع احتمال رميها في الحبس لأشهر طويلة؟ هل لديها محامون قادرون على الدفاع عن حقوقها وتقديم ما لديها من أدلة للمحكمة؟ وما إلى ذلك من أسئلة هائلة ومرعبة يشكل كل منها جبلا في وجه لينسل.

وأمام واقع كهذا، تكون صدقية تراجع لينسل عن ادّعائها بحصول تعذيب وإتجار بالبشر أو تأكيدها لحب العائلة موضع شكوك جدية، لا مجال لحسمها في اتجاه أو في آخر. بل على العكس من ذلك، فإن من شأن حصول  التراجع أن يشكل عامل قلق إضافيا وتحديدا لجهة ممارسة ضغوط على لينسل لنكران أقوالها.

وعليه، وبالنظر إلى خطورة الأفعال المشتبه بحصولها (وهي تشكل جنايات في حال ثبوتها)، كان ينتظر من النيابة العامة أن تبذل جهودا مضاعفة لإجراء تحقيقات موسعة وشفافة وعلى قدر عالٍ من المهنية والاحتراف (مثلا: الاستعانة بأطباء شرعيين لا تحوم حولهم أي شبهة أو أن يتولى التحقيق أحد المدعين العامين المعروفين بنزاهتهم والذين لم تطلهم أي عقوبة تأديبية، من جراء عمله القضائي مباشرة)، والأهم، بعد طمأنة لينسل وضمان تمثيلها بمحام تمكينا لها.

أما وأن هذه الأمور لم تحصل، فإن النيابة العامة تكون تعاملت بشيء من الانحياز في التحقيق في هذه القضية وأخلت بموجب التجرد والحيادية إزاء إحدى الفئات الأكثر ضعفا والأكثر احتياجا لحماية القضاء والنيابات العامة.

المأخذ الثاني: أن النيابة العامة عمدت إلى فرض روايتها وكأنها حقيقة، على نحو يشكل تغولا منها على صىلاحيات قضاء الحكم واعتداء على حرية التعبير:

من البين أن النيابة العامة لم تكتفِ في هذه القضية بإغلاق ملف الاعتداءات على لينسل، بل اتجهت تلبية لمطلب “الكفيلة”، في توجه غير مسبوق، إلى إلزام جميع وسائل الإعلام والمنظمات الحقوقية بالتسليم بروايتها الرسمية لهذه الواقعة. وهذا ما تمثل في الإشارة الصادرة عنها بوجوب إزالة أي مادة إعلامية تضمنت تشهيرا بالكفيل والمذكورة في مقدمة هذا المقال، وهي الإشارة التي استند إليها مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية لتوجيه كتاب لل “مفكرة” (وسواها من وسائل الإعلام) لإزالة المقال الذي نشرته بهذا الخصوص. وهذا التوجه يقبل النقد من زوايا عدة:

1- أنه يشكل تغولا للنيابة العامة على صلاحيات القضاء الذي يتولى هو اتخاذ الأحكام. فالنيابة العامة تمثل الحق العام ومن حقها (وواجبها) ممارسة الحق العام في ملاحقة الجرائم أمام القضاء من دون أن يكون لها بحال من الأحوال إصدار أحكام أو “فرض الحقيقة القضائية”، وكلها مسائل  تبقى من مسؤولية القضاء وحده. وما يزيد من هذا التغول خطورة هو أن النيابة العامة اكتفت بإعطاء إشارة عامة بهدف إزالة كل ما يحمل تشهيرا بالكفيل، تاركة لمكتب مكافحة جرائم المعلوماتية تحديد المواد الإعلامية التي تدخل ضمن هذه الفئة. وعليه، تكون النيابة العامة، لم تتغول فقط على صلاحية القضاء في مجال تكريس الحقائق الواجب احترامها، بل فتحت المجال للضابطة العدلية للتغول بدورها على هذه الصلاحيات.

وتكمن خطورة هذه السابقة في استيلاء النيابة العامة والضابطة العدلية على صلاحية تقييد حرية وسائل الإعلام والمنظمات الحقوقية بالنشر في هذا الاتجاه أو ذاك، حتى من دون أن تتكبد عناء تمكين أي من وسائل الإعلام بإبداء رأيها أو الدفاع عن وجهة نظرها في هذا الخصوص (وتاليا في تجاوز تام وفاضح لأصول المحاكمات التي تحصل أمام القضاء في قضايا حرية التعبير).

2- أن إشارة النيابة العامة تشكل سابقة خطيرة في مجال التعرض لحرية التعبير، بحيث أنها تتضمن تلويحا بامكانية ملاحقة أي وسيلة إعلامية لا تستجيب لها. وخير دليل على ذلك هو أن مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية وجه بموجب هذه الإشارة كتبا لإزالة ليس فقط المقالات التي تضمنت تصديقا على رواية لينسل الأولى بحصول تعذيب واستغلال، بل أيضا المقالات التي تضمنت تشكيكا في التحقيقات التي توصلت إليها النيابة العامة أو التي دعت إلى تحقيق شفاف ومستقل كما هي حال مقال “المفكرة” المطلوب إزالته. وما يزيد من قابلية هذا التعرض للانتقاد هو أن من شأنه أن يؤدي إلى إرساء ممارسة جديدة تنتهي بتمكين النيابة العامة من تحديد ما يمكن أو لا يمكن نشره على ضوء ما تتوصل إليه التحقيقات الأولية التي تشرف عليها وتحت سقفها، وتاليا بإضفاء قدسية لا يقرها أي قانون لهذه التحقيقات.

انطلاقا من ذلك، أمكن القول أن التعرض لحرية التعبير في هذه القضية إنما يؤول إلى المس بإحدى وظائفها الرئيسية والتي تتمثل في انتقاد التمييز الذي قد تتعرض له الفئات الهشة والأضعف، وبخاصة في مجال العدالة. وهو من هذه الزاوية، يظهر بمثابة خطوة إضافية لاستكمال نظام الإفلات من العقاب. فبعدما منعت العاملات من الولوج إلى العدالة، ها هن يمنعن من الولوج إلى وسائل الإعلام. فكأنما كل شيء يصبح جائزا خدمة لمنظومة الإفلات من العقاب في قضايا استغلال العاملات. أو كأنما هذه القضية تهدف ليس إلى حماية كفيل معين ضد التشهير به، بل إلى حماية منظومة الكفالة برمتها.

وما يزيد من هذه المخاوف هو أن مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية لم يكتف بتوجيه هذه الكتب، إنما ذهب إلى حدّ استدعاء بعض الصحافيين للتحقيق لديه، خلافا للأعراف المتبعة والتي تقضي بالاستماع لهم لدى قاض من النيابة العامة وبحضور محام.

أما المأخذ الثالث والأخير على الاجراءات التي اتخذتها النيابة العامة في هذه القضية، هو أنها خصصت  طاقات كبيرة لمكافحة “التشهير” و”الافتراء” الحاصلين بحق الكفيل.

فبمعزل عن مدى مشروعية الخطوات المتخذة منها لفرض روايتها الرسمية، فإن المراقب يبقى مشدوها إزاء الزخم الاستثنائي في هذه القضية والذي تمثل ليس فقط في توسع التحقيقات لتشمل عددا كبيرا من وسائل الإعلام والمنظمات الحقوقية، ولكن أيضا من خلال اعتماد اجتهادات وممارسات غير مسبوقة.

ومأخذنا هنا يبلغ مداه عند مقارنة هذا الجهد الكبير بتقاعس النيابات العامة التام عن ملاحقة مئات جرائم الافتراء المرتكبة من “”الكفلاء” الذين غالبا ما يدعون زورا، من دون أي دليل، بالسرقة ضد العاملات اللواتي يتجرأن على ترك أماكن عملهن. بل هو يبلغ مداه عند مقارنته بتماهي هذه النيابات العامة (وليس فقط تقاعسها) مع هذه الافتراءات بدليل تحركها لملاحقة الكثير من العاملات وتوقيفهن بناء على هذه الافتراءات وبغياب أي دليل.

فلماذا تتماهى النيابات العامة مع الافتراء ضد العاملات والتي غالبا ما تؤدي إلى احتجاز حرية العاملات لأشهر قبلما تظهر أدلة براءتهن، رغم خطورتها والنتائج الكارثية المتأتية عنها؟ هل يكون الدفاع عن سمعة الكفيل الذي له منابر كثيرة بفعل قوته الاقتصادية يدافع فيها عن نفسه، أولوية بالنسبة إلى النيابة العامة، فيما يكون الدفاع عن سمعة مئات العاملات وحريتهن مسائل لا تستدعي أي اهتمام؟

في ظل مقارنات كهذه، تفضح تدابير النيابة العامة تصورها لوظيفتها: وظيفة تقوم أولا على حماية القوة بمعزل عن الحق. وظيفة يلجأ إليها من ييتغي تعزيز نفوذه، أكثر ممن هو بأمس الحاجة إلى حمايتها.

 للإطلاع على النص مترجما الى اللغة الإنكليزية يمكنك/ي الضغط هنا 

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، محاكمة عادلة وتعذيب ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، لبنان ، مقالات ، لا مساواة وتمييز وتهميش



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني