مسامك ومنتزهات وسلطات تتكاتف لقتل النهر: العاصي على درب الليطاني


2018-06-20    |   

مسامك ومنتزهات وسلطات تتكاتف لقتل النهر: العاصي على درب الليطاني

قلة هي الشعوب والدول التي تتمكن من “لي ذراع” نهر غزير عصى على الطبيعة، كما يحصل مع نهر العاصي اليوم في منطقة الهرمل في البقاع الشمالي.

يمكن لمستقل الطائرة أن يرى، وهو يحلق فوق البقاع الشمالي، شريان حياة يفرش الإخضرار على ضفتيه في منطقة جرداء صفراء. هذا نهر العاصي يشق وادياً من الخير، معانداً جريان الأنهر في لبنان التي تأخذ الجنوب وجهة لها. وحده العاصي يعصى الطبيعة ويدير ظهره للبنان متجهاً من الجنوب نحو الشمال، ليخترق كامل سوريا ويصب في البحر المتوسط في منطقة الإسكندرون.

أتراه كان يعلم بالإهمال الذي ينتظره؟ فقرر أن يدير الظهر لمن أداروا له ظهورهم عبر التاريخ ولغاية اليوم، وتركوه للفلتان والتلوث ليضعوه على سكة اللحاق بنهر الليطاني الذي سبق وأعلن مجلس البحوث العلمية موته مع بحيرة القرعون في العام 2016؟

على الأرض كما في الجو: فعبر ستين كيلومتر من مدينة الشمس على الطريق الدولية التي تربط بعلبك بمدينة حمص السورية، ترافقك بلدات وقرى البقاع الشمالي المفتقرة للخضرة إلا في حرم دورها وبمبادرات فردية، يستقبلك نهر العاصي على مدخل الهرمل. هناك يختلف المناخ مصحوبا بهدير الماء الجاري بقوة نحو الشمال، وهناك تلفحك نسائم الأشجار المائية النابتة على الضفتين. وهنا تتفجر الينابيع الأولى للعاصي شاقاً طريقه في واد يبدأ غائراً في بداياته نظراً لغزارة النهر وطبيعة منطقة رأس العاصي الصخرية.

إنتهاك حرمة العاصي

تبدأ التعديات على نهر العاصي من منبعه في المنطقة المعروفة باسم “رأس العاصي” التي لم تف للنهر الذي اكتسبت اسمها منه. عند نبع عين الزرقا، التي تتفجر مياهه من شقوق صخورها الدهرية، يجد زوار النهر المقهى والمطعم الأول. وتكرّ من بعده سبحة التعديات ومصاطب الإسمنت التي تأكل من مجرى النهر لجعلها مكاناً لموائد الرواد. تعديات تبدأ من النبع ولا تنتهي إلا مع هروبه نحو سوريا بعدما يبلغ عديدها نحو سبعين منتزهاً غير مرخص، ومعظمها متعد على العاصي سواء بإنشاءاته أو بترك مياه الصرف الصحي مسلطة إلى المجرى القريب، وكذلك بنفايات الزوار الذين يصل عديدهم مع نهاية كل أسبوع صيفي إلى نحو ثلاثة آلاف زائر. وما الأوساخ والفضلات وقوارير الزجاج والتنك والبلاستيك التي تطفو على وجه الماء إلا أكبر دليل على ذلك.

مع المنتزهات، تتزاحم المسامك على الضفتين لتشكل ضعف عديد المقاهي والمطاعم بأحواضها ال 144 لتربية الأسماك على مساحة 46 كيلومتر، هي طول العاصي بتعرجاته في لبنان من أصل 527 كيلومتراً تشكل كامل انسيابه من النبع إلى البحر المتوسط في الإسكندرون. تتعدى المسامك على العاصي ليس كمنشآت فقط بل عبر أحشاء الدواجن التي تقدم خلافا للقانون علفا للأسماك متسببة بأحد أخطر ملوثات النهر.

إنفلات التعديات على العاصي

خلال حرب 1975-1990، حافظ نهر العاصي على عذرية حوضه مع بعض المنتزهات البدائية التي لم تكن تنشئ حتى مراحيض بحفر غير صحية، كما هو حاصل اليوم. كان رواد النهر من الهرمل والمناطق المجاورة وحتى من النادرين الآتين من البعيد يتوجهون إلى ما بين الصخور القريبة لقضاء حاجاتهم في البراري. كانوا يأتون بأطعمتهم من منازلهم، وبالتالي لا يتركون الكثير من النفايات في الأمكنة التي يرتادون، والأهم أنهم كانوا يملؤون راحات أياديهم بالمياه الجارية ويشربون أعذب المياه وأنظفها. يومها لم يمتلك القطاع السياحي أي بنى تحتية حتى تلك المخالفة الموجودة، وبالتالي لم يكن يشهد إقبالاً كثيفا كما اليوم.

من يقارن الصور الجوية لنهر العاصي خلال الحرب وحتى قبل عشر سنوات من اليوم، يكاد لا يعرف أنه ينظر إلى الوادي النهري نفسه. ففي غياب أي سلطة سواء محلية أو رسمية تابعة لإدارات الدولة المعنية بالنهر، إنفلت حبل المخالفات على غاربه تحت شعار حرمان المنطقة وإنعدام فرص العمل ومصادر الدخل. هجم ملاك الأراضي ومستثمروها على ضفاف العاصي نحو الإستثمار العشوائي الذي لا يراعي أبسط معايير حماية النهر سعيا لتحقيق الأرباح وإن على حساب الثروة المائية التي تعتبر الأغزر المتبقية في لبنان بعد قتل الليطاني بالتلوث. فوزارات الطاقة والمياه والصحة والبيئة والزراعة والسياحة طبعا، شأنها شأن السلطة السياسية وقواها لم تدرج المنطقة على الخارطة اللبنانية في ظل غياب الإنماء غير المتوازن حتى اليوم. وما المعركة الإنتخابية الحامية التي شهدتها منطقة بعلبك الهرمل على خلفية حرمان المنطقة وإهمالها إلا بعض تمظهر إدارة الظهر الرسمية للمنطقة عامة وفي قلبها العاصي، ليس فقط من قبل الدولة، وإنما أيضا من قبل القوى السياسية التي احتكرت تمثيلها منذ الانتخابات الأولى في جمهورية ما بعد الطائف.

لم تعد مياه العاصي التي كانت تنسكب بصفاء “دموع العين” كما كان يتغزل بها أهالي المنطقة صالحة لا للشرب ولا للوضوء، حيث يعتبرها المؤمنون ملوثة ونجسة بسبب مياه الصرف الصحي، ولا يجب استخدامها  لغسل الخضار والفواكه واللحوم التي تقدم في المطاعم على ضفتيه.

تحول العاصي إلى مجرى لكل شيء: نفايات المنتزهات، أحشاء الدواجن التي يرميها أصحاب المسامك لتغذية الأسماك خلافاً للقانون، الصرف الصحي لنحو سبعين مقهى ومطعم مع زوارهم، بينما يعيث المعتدون فسادا بتعدياتهم على المجرى. ألم يحول أحدهم النهر ليوسع جزيرة في وسط مجراه طمعاً في الحصول على منتزه جذاب للرواد؟ كل هذا وبلدية الهرمل، وعلى لسان نائب رئيس إتحاد بلديات الهرمل عباس الجوهري (وفيه بلديتي الهرمل والشواغير المسؤولتين عن نهر العاصي)، تنفض يديها من أي مسؤولية “نحن نفعل ما في وسعنا، لكننا لا نمتلك كل الصلاحيات” كما قال ل”المفكرة”، مشيراً إلى أن محافظ بعلبك الهرمل بشير خضر وعد بإيلاء العاصي أهمية بعد الإنتخابات.

أما رئيس مكتب وزارة الزراعة في المنطقة والمسؤولة عن النهر مع وزارات أخرى هزاع دندش فيقول  ل”المفكرة” “نحرر المخالفات فيذهب المخالفون إلى النافذين ويتم إلغاؤها قبل المعاقبة”، مشيراً إلى أنه “أسهل للمعتدي دفع المخالفة التي تراوح ما بين مئة ألف إلى 500 ألف من الإلتزام بالمعايير السليمة، هذا إذا دفع، ولكن غالباً ما تدخل الواسطة وتعفيه”.

والمضحك المبكي في الموضوع أن الجوهري نفسه ولدى سؤاله عن سبب تراكم إهمال نهر العاصي لغاية اليوم، يبرر بأن “البلدية الجديدة لا علاقة لها بما مضى”، متناسياً أنه وبقية الأعضاء والرئيس ينتمون للفريق السياسي نفسه الذي يمسك بالبلدية منذ العام 1998، مع إجراء الإنتخابات البلدية الأولى بعد الحرب.

ولا ينتهي وجع العاصي هنا. تعتدي على مجرى النهر بلديتا رأس بعلبك والفاكهة عبر ثلاثة مكبات عند مجرى السيل الذي يشهد فيضانين إلى ثلاثة فيضانات سنوياً نحو مجرى العاصي، وحصل أخرها ليل الأحد في 27 أيار 2018.

من هناك يجرف السيل، الذي يأتي أشبه بنهر هادر، النفايات الصلبة من مخلفات منزلية وطبية وحيوانية، وكذلك المياه الآسنة التي ترمى في مستنقع مخصص لتفريغ مياه جور الصرف الصحي لسكان المنطقة الوسطى الرابضة فوق رأس العاصي من رأس بعلبك إلى الجديدة والفاكهة وكامل قرى البقاع الشمالي. كل هذه الأوساخ والنفايات والجراثيم يحملها السيل ويرميها في قلب العاصي وتحديدا عند نبعه الأول. ومع ذلك، يرفض رئيس بلدية رأس بعلبك العميد المتقاعد دريد رحال الإعتراف بتلويث بلديته وسكانها للعاصي، ولدى الدخول معه في تفاصيل ما يرتكبونه بحق النهر، وهو متنفس المنطقة كلها، بما فيها رأس بعلبك، وليس الهرمل فقط، وبحق صحة الناس والبيئة، قال ل”المفكرة” بلهجة عسكرية “ما بدي رد ع الإعلام ولا إحكي بالموضوع”.

وحده مختار بلدة الفاكهة حسن خليل (بلدية الفاكهة محلولة) إعترف بأن مكبي رأس بعلبك والفاكهة “ومعهما نفايات معظم بلدات البقاع الشمالي التي ترمي معنا نفاياتها الصلبة والسائلة هناك، تساهم في تلويث العاصي نعم، ونحن ننتظر حل الجهات الرسمية عبر مكب أو مطمر صحي وكذلك محطة لتكرير الصرف الصحي للإنتهاء من المشكلة”.

بلدية الهرمل التي تعترض على بلديتي رأس بعلبك والفاكهة تشارك في الجريمة عبر تخصيص قطعة أرض في وادي العاصي وتحديداً في المسافة الفاصلة بين الهرمل والقاع لرمي نفايات الهرمل في مكب عشوائي وكذلك تفريغ صهاريج الصرف الصحي. منطقة يقول انحدارها نحو العاصي بأن جميع هذه النفايات من صلبة وسائلة ستجد طريقها إلى النهر. يرد الجوهري على هذا الكلام بأنه “ليس لدى البلدية خيارا آخرا. فكل الأراضي المحيطة بالعاصي هي مسلطة نحو النهر”، متناسيا أن هناك حلولاً أخرى تغاضت البلدية عن العمل عليها منذ 1998 ولغاية اليوم طالما الحكم إستمرارية.

كل هذا، ويرى أهالي الهرمل بعض نواب ووزراء منطقتهم يتصدرون ولائم المعتدين على النهر ودعواتهم، في وقت شُكلت فيه لجنة وزارية لحماية العاصي. “وحماية رح ناخد” يقول أحد أبناء الهرمل الذين يئسوا من أي التفاتة إنمائية للمنطقة فحمل عائلته وغادرها إلى غير رجعة.

العاصي في الهيدرولوجية والجغرافية

يعتبر نهر العاصي من أهم الأنهار في الوطن العربي. يبلغ طوله نحو 571 كيلومتراً تقريباً، 525 كيلومتراً منها في كل من سوريا والاسكندرون، والباقي حصة لبنان(46 كلم).

ينبع العاصي من مجموعات نبعية عدة أبرزها عين الزرقا ومن ثم الدفاش وأم شرف، وهي ينابيع تأتيه عبر مجار مائية جوفية من سلسلة جبال لبنان الغربية وخزاناتها المتفرعة من جوف القرنة السوداء وجبل المكمل وجرود الهرمل. ويتغذى العاصي أيضاً من رأس بعلبك، واللبوة، وعين فلكية في سلسلة جبال اللبنانية الشرقيّة، وترفده المجموعة النبعيّة في نهاية البقاع الشمالي وتحديداً قرب جوسيه، حيث يدخل إلى الأراضي السوريّة عند طاحونة آل العميري المعروفة بالعميرية، وهي طاحونة متوقفة عن العمل ومن أجمل الآثارات على النهر، وتقع ضمن ملك خاص.

وبينما أجادت الدولة السورية الإفادة من العاصي منشئة خمسة سدود في طول أراضيها وعرضها عليه، لم ينشئ لبنان سداً واحداً ينعش الهرمل ومعها الجوار والقاع العطشى منذ أيام الاستقلال وحتى اليوم. مع الوقت، تم تقزيم مشروع سد العاصي ولم يصل إلى خواتيمه رغم ذلك. ويعتقد بعض أهالي الهرمل أنه لولا الأحداث المندلعة في سوريا منذ سبع سنوات، لكانت الدولة السورية قد قاضت لبنان أمام المحافل الدولية ومنعته من ترك العاصي للموت كونها تمتلك الحصة الأكبر منه وتستخدم 58% من مياهه لأهداف زراعية ومعيشية لمواطنيها وأراضيها.

المسامك وتلوث العاصي

اكتشف أصحاب المقاهي والمطاعم والأراضي على نهر العاصي الإستثمار بمسامك الترويت (وهو نوع من الأسماك التي تعيش في المياه الحلوة العذبة) متأخرين نسبة إلى أقرانهم في المناطق اللبنانية الأخرى. بدأت تربية الأسماك على نحو متواضع قبل عشرين عاماً من اليوم. مع مرور الوقت وخاصة في السنوات العشر الأخيرة، انتعشت هذه التجارة كأحد مصادر الرزق والمداخيل الأساسية على نهر العاصي خاصة مع امتناع عدد كبير من السياح عن ارتياد المنطقة على خلفية سمعة حوادث الخطف والمخدرات وقطع الطرق التي تلتصق ببعلبك الهرمل أكثر من سواها في البقاع ككل. يضاف إلى ذلك الأحداث الأمنية التي ترافقت مع وجود مسلحي تنظيمي “داعش” و”النصرة” في جرود عرسال ورأس بعلبك والقاع والمعارك التي كانت تندلع مصحوبة بصواريخ على مناطق في البقاع الشمالي، ومنها الهرمل والطريق الدولية.

وعليه، شكل بيع الأسماك مصدر دخل أكثر ثباتاً ليصبح العاصي المورد الأول بإتجاه السوق المحلية في لبنان.

على هامش هذا القطاع، وبسبب غياب أي عين رسمية رقابية وحريصة على نهر العاصي، عاث بعض أصحاب المسامك إنتهاكات إنطلاقاً من نظرية الربح السريع مستثمرين آلاف الدولارات في منشآت مخالفة في غالبيتها العظمى. اعتدى بعض هؤلاء على مجرى النهر، مقتطعين منه روافد هنا، وجاعلين من جزء من مجراه حوضاً لتربية الأسماك هناك. وأنشأ غالبيتهم أحواض السمك، كما المقاهي من دون إحترام التراجعات التي ينص عليها القانون في ما يخص الأملاك النهرية والبالغة ستة أمتار. كل هذا وبلديتي الهرمل والشواغير ومعهما السلطة التنفيذية في بعلبك الهرمل الممثلة بالمحافظ، تنفض يدها من أي مسؤولية. “بنيت هذه المنشآت على أيام البلديات السابقة” يقول نائب رئيس إتحاد بلديات الهرمل والموكل ملف العاصي عباس الجوهري ل “المفكرة”. ولا تجد عند الجوهري أي إجابة على حقيقة أن البلديات المتعاقبة على الهرمل كلها تنتمي للخط السياسي نفسه الذي تنتمي إليه البلدية الحالية. هنا يرفع الجوهري ذراعيه في دلالة على العجز “ماذا نفعل؟ هل نهدم منشآت الناس وقد كلفتهم آلاف الدولارات؟” لا تريد البلدية قمع المخالفات وليس لديها أي جواب شافٍ عن السبب الذي منعها من ردعها في بداياتها، أو على الأقل وضع معايير للترخيص وإلزام المستثمرين بها.

يحصر رئيس مكتب وزارة الزراعة في المنطقة هزاع دندش صلاحية المكتب بتربية الأسماك لناحية الغذاء. هنا الفضيحة توازي التعديات. يقوم معظم كبار تجار الأسماك بتغذية أسماكهم من أحشاء الدواجن (مصارين دجاج). يبلغ سعر طن الأحشاء مائتي دولار بينما يبلغ سعر العلف السليم 1700 دولار. يقول دندش أن التاجر يفضل دفع غرامة على مخالفته والتي تراوح ما بين  مئة إلى خمسمائة ألف ليرة من أن يطعم أسماكه علفا صحياً “بيضل ربحان حتى لو دفع الغرامة”. والأسوأ، وفق ما يقول دندش، أن مكتب الزراعة حرر “نحو ثلاثين ضبط مخالفة بحق أحد مربي الأسماك، ولكن أياً منها لم يُنفًذ بسبب علاقاته مع نافذين يتدخلون لصالحه”.

هذا ولم نتحدث بعد عن الرشاوى التي يتلقاها بعض عناصر القوى الأمنية لعدم المساعدة في ضبط المخالفات وتوقيف الآليات التي تنقل أحشاء الدواجن في وضح النهار. “حصل أن ضبط الجيش اللبناني شحنة أحشاء دواجن وقام بتسليمها للدرك ومع ذلك وجدنا أنه تم تفريغها في النهر بعد ذلك”، وفق ما يقول دندش، مؤكداً أن نحو عشرة أطنان من أحشاء الدواجن تدخل إلى مسامك نهر العاصي يوميا. فمن المسؤول؟ ولماذا لا يتم منعها على الحواجز الأمنية الموجودة على الطرقات؟

يأسف دندش ومعه الجوهري، وهما من أبناء الهرمل لتلوث العاصي وحاله: “أوقات أنا بخجل، عنجد بخجل من التلوث لي بالنهر، لا أحد يجرؤ على ترك إبنه ليشرب منه” يقول دندش كدلالة على حال العاصي وخطورته على صحة أهله. ويتطرق دندش إلى دور القضاء اللبناني  في محاسبة التعديات ومنها أحشاء الدواجن بالأطنان “أولاً لا تصل معظم المخالفات التي نحررها إلى القضاء بفضل تدخلات القوى السياسية المسيطرة”، مشيراً إلى أن أحدهم قال له “إذا حررت ضبطا بحق المخالفين، سيتم إيقافه في بيروت إذا قطع البقاع، وهذا ما يحدث على الأرض”.

وعند سؤاله لماذا لا يطلبون تدخل النيابة العامة؟ يقول “وفق القانون نحوّل المخالفات إلى محكمة الجزاء في الهرمل، والقاضي لا يداوم”، وفق دندش، مؤكداً “هون ما حدا بداوم، إلا نحنا تبع البصمة”.

المنتزهات: صرف صحي ونفايات صلبة

ترافق تطور تربية الأسماك على نهر العاصي مع طفرة في المنشآت السياحية. وبما أن لا تراخيص قانونية للمنتزهات كما أحواض السمك، كما أن البلدية لم تحصها حتى، يقدرها الجوهري بنحو خمسين منتزها، فيما يقول الأهالي أنها لا تقل عن سبعين مقهى ومطعم ونادي رياضات مائية.

بعض هذه المنتزهات تحولت إلى مرافق سياحية ضخمة، تمتد منشآت بعضها على نحو ألف متر مربع من دون مراعاة لأي معيار من معايير حماية النهر والحفاظ عليه، ولا آلية لمعالجة النفايات على أنواعها. يقتصر دور البلدية في موضوع النفايات الصلبة وبقايا الأطعمة على “تسيير سيارات لجمع النفايات مرتين في الأسبوع”. ولكن من أين تأتي النفايات التي تطفو على وجه مياه العاصي؟، يقول الجوهري “نحن نقوم بواجبنا والباقي يقع على عاتق أصحاب المقاهي ومسؤوليتهم”. طبعاً يصبح كل أصحاب المقاهي قديسين لدى سؤالهم عن الإنتهاكات وتعدياتهم على النهر.

سياحة غير معترف بها

تقول فداء الساحلي، وهي صاحبة “شير العاصي”، أحد منتزهات ونوادي رياضة الرافتينغ “لا تتمتع المنشآت السياحية على العاصي بأي ترخيص، أما القليل المقونن منها فيحمل توصيف تجارة عامة”. وبرغم  الإمكانات السياحية الهائلة التي يمتلكها العاصي “لم يجر وضعه على اللائحة السياحية بعد، رغم أن من شأن أمر مماثل أن يحقق قفزة نوعية على مستوى المردود المتوقع، ومن شأن الإشارة إلى وجود العديد من الآثار في حوضه أن تبرز فداحة التقصير ومنها مغارة مار مارون، قاموع الهرمل، قناة زنوبيا، جسر العميرية القديم، وسواها”.

ترى الساحلي أن الجهات الرسمية تتهرب من إدراج العاصي ومحيطه على الخارطة السياحية لكي لا تضطر لتأمين بنى تحتية ملائمة، لافتة إلى سوء الطرقات التي تؤدي إلى وادي العاصي وآثاره أيضاً. وتلفت إلى أن دراسة نفذت قبل ثماني سنوات قدرت مردود العاصي بنحو خمسة إلى ثمانية ملايين دولار سنوياً مع نحو خمسين ألف زائر كانوا يقصدون المنطقة كل عام”. ضربت الأحداث السورية ليس فقط السياحة وإنما أيضاً سوق الأسماك الذي كان يعتمد على المستهلك السوري بالدرجة الأولى.

العاصي والرافتينغ

يقدر نور الدين المقهور، صاحب نادي سكواد للرافتيغ، عدد الأشخاص الذين قصدوا نهر العاصي في السنوات العشر الأخيرة لممارسة الرافتينغ بستين ألف شخص. إذا دفع كل شخص ثلاثين دولاراً كحد أدنى، فإن هذه الرياضة وحدها أدخلت إلى الهرمل نحو مليون و800 الف دولار في هذه الفترة، عدا عن رياضة الكاياك والكانوي “حيث يحتل العاصي مرتبة متقدمة وجديرة بالإهتمام في محيطه ومن الصعب العثور على نهر بمواصفاته صالح لهذه الرياضات البيئية والمائية المهمة والنادرة”.

المنتزهات ونوادي الرافتينغ والمسامك تؤمن ما لا يقل عن 500 فرصة عمل ما بين أفراد عائلات أصحابها ومن يستخدمون من موظفين وإن موسميين. ومع ما تنتجه قطاعات الأسماك والزراعة والمنتزهات من مردود على الأهالي، تكون السلطات من محلية ورسمية ممثلة بالوزارات والأجهزة الأمنية والقضاء، تقضي على مصدر الرزق الأساسي وشبه الوحيد في منطقة البقاع الشمالي، بتواطئها الواضح والفاضح على إهمال نهر العاصي وتركه يذهب على طريق الموت عينه الذي إنتهى إليه الليطاني.

أما تلك الحفر الصحية التي تفتخر بلدية الهرمل أنها تنشئها لنحو عشرة منتزهات في المجرى الأول للنهر بعد منبعه، وحتى إذا سلمنا جدلاً بأنها تبنى بمواصفات تحول دون تسرب المياه الآسنة إلى العاصي، فإن تفريغها سيكون في قطعة أرض تقع في نهاية وادي العاصي بانتظار إنشاء محطة لتكرير مياه الصرف الصحي لا أحد يعرف متى يتم الإنتهاء منها ووفق أي مواصفات. والأهم أن هناك مخاوف جدية من تسرب بركة المياه الآسنة إلى النهر في النهاية، هذا إذا سلمنا جدلاً أيضاً أنها لن تفرّغ في المساحة ما بين الهرمل والقاع حيث يتم رمي جميع أنواع النفايات هناك حالياً، والتي يرجح أن مياه الشتاء والسيول تعود بها إلى العاصي أيضاً وأيضاً.

ويأتيك من يَسمي الهرمل بمنطقة خارجة عن القانون ويصف أهلها بالطفار. أليست الدولة بقواها السياسية ومؤسساتها وأجهزتها الأمنية هي الطافرة من النهر وأهله؟ لا بل تدفعهم دفعاً إلى الخروج عن القوانين ومخالفتها؟

  • شارك في هذا التحقيق طلاب الصحافة المجتمعية في كلية الإعلام في جامعة المعارف:

أحمد حركة، علي حوماني، أيمن لزيّق، بتول عمر، فاطمة نورالدين، فاطمة الطقش، فريال علي، غدير ناصر، حسن حسن، كريم رمضان، لبنى حيدر، نادين مقبل، نور عاصي، ريان حيدر، سحر سلامة، سجى حطاب، زينة شيت، زينب سماحة، بإشراف مسؤولة القسم الصحافي في المفكرة القانونية، الصحفية سعدى علّوه.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، بيئة وتنظيم مدني وسكن



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني