“تونس” وضعت تقريرا مميزا حول الحريات الفردية والمساواة: أي حريّات للجمهورية الثانية في ظل “التوجّهات المعاصرة لحقوق الإنسان”؟


2018-06-12    |   

“تونس” وضعت تقريرا مميزا حول الحريات الفردية والمساواة: أي حريّات للجمهورية الثانية في ظل “التوجّهات المعاصرة لحقوق الإنسان”؟

بتقديمها تقريرها حول الإصلاحات المرتبطة بالحريات الفردية والمساواة، تكون لجنة الحريات الفردية والمساواة قد أوفت بما كان قد طلب منها في أمر تكليفها الصادر عن رئيس الجمهورية في 13 أوت 2017. هذا الأمر الذي طلب من اللجنة “إعداد تقرير حول الإصلاحات المرتبطة بالحريات الفردية والمساواة استنادا إلى مقتضيات دستور 27 جانفي 2014 والمعايير الدولية لحقوق الإنسان والتوجّهات المعاصرة في مجال الحريّات والمساواة”. ونتساءل في هذا الصدد عن الأسس التي يتوجّب أن ينبني عليها تقرير اللجنة من ناحية وانعكاسات هذه الأسس على المقترحات المقدّمة من قبل اللجنة وتقييمها.

1- في أسس الحريات الفردية والمساواة:

في أمر إحداث اللجنة[1]، طلب منها رئيس الجمهورية الاستناد في إعداد اقتراحات الإصلاحات إلى مقتضيات دستور 2014 والمعايير الدولية لحقوق الإنسان والتوجّهات المعاصرة في مجال الحريّات والمساواة. هذه الأسس وإن بدت اعتيادية في مكونيها الأولين، إلا أنها تثير انتباهنا إلى المكوّن الاخير منها والذي نعتبره أساس الاصلاحات لمنظومة الحريات الفردية والمساواة.

1.1 دستور 2014 : دستور الحريات الفردية أساسا

إن ما يميّز دستور 2014 مقارنة بدستور 1959 هو إقراره للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من ناحية وتأكيده على الحريات الفردية من ناحية أخرى.

  • إقرار صريح للحريات الفردية: لقد أقرّ دستور 27 جانفي 2014 صراحة أن “تضمن الدولة للمواطنين والمواطنات الحقوق والحريات الفردية والعامة” (الفصل 21). وهذا الإقرار يتوجّب أن يستتبعه إنفاذ لهذا الحكم الدستوري وجعل المنظومة القانونية والقضائية منسجمة معه. فأي معنى لإقرار الحريات الفردية إذا لم يقع إنفاذها في النصوص التشريعية والترتيبية وفي الممارسة الإدارية والأمنية والقضائية؟
  • إعلاء من شان المساواة وعدم التمييز: “المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات وهم سواء أمام القانون من غير تمييز” (الفصل 21). بهذا الفصل جعل الدستور من المساواة ومنع التمييز مبادئ أساسية تنبني عليها منظومة الحقوق والحريات. وهو ما يوجب قراءة ذلك بصفة عامة وواسعة ومطلقة خاصة فيما يتعلّق بمنع التمييز والذي ورد على إطلاقه في الفصل 21. وهذا الأمر يتطلّب إدراج المكوّنات الكلاسيكية لمنع التمييز: الجنس، اللون، العرق، اللّغة والدين لتضاف إليها المكوّنات المستحدثة: الوضع الصحّي، الميولات الجنسية والهوية الجندرية، الإعاقة، الأصول الاجتماعية والمنشأ وهو ما يعطي الدستور صبغة مطلقة ومتطوّرة.
  • إقرار أمهات الحريات الفردية: حرية الضمير (الفصل 6) وحماية الحياة الخاصة (الفصل 24) تجعل من دستور 2014 دستور الحريات الفردية بمكوّنيها الذهني/الفكري (حرية الضمير) والمادي (الحياة الخاصة) فالأوّل يكفل حريّة تبنّي أيّ فكر أو عقيدة أو مذهب أو تصوّر وينبني كل ذلك على الحسّ النقدي دونما تحريض على العنف والكراهية وهو ما يؤسس لتفرّد كلّ شخص عن المجموعة وخاصة عن نظرة القطيع. أمّا حماية الحياة الخاصة فتؤسّس لمبدأ جوهري في الحريات الفردية وهو الاختيار الحرّ بكلّ ما تنطوي عليه هذه الفكرة من مكوّنات: الاختيارات في نمط العيش والعلاقات والسّلوكات، من تصرّف في الجسد من ناحية وحماية للفضاءات التي تمارس فيها هذه الحريات من ناحية أخرى، وبذلك يقطع الدستور مع فكرة الوصاية على الجسد وعلى الفكر.

واستتبع إعلان هاتين الحريّتين الجوهريّتين مجموعة كبرى من الحقوق والحريّات المضمّنة في الدستور: حريّة المعتقد والدّين (الفصل 6)، حريّة الرأي والفكر والتعبير والإعلام (الفصل 31)، الحريات الأكاديمية والبحث العلمي (الفصل 38)، حريّة الإبداع (الفصل 42)، حريّة التنقّل (الفصل 24)، سريّة المراسلات والاتصالات والمعطيات الشخصيّة (الفصل 24). هذه الحزمة من الحريات تؤسّس فعلا لجمهورية ثانية تنبني على الحريّة التي تكوّن الأصل ولا يمكن الحدّ منها إلا استثنائيا بقانون يتّخذ لضرورة تقتضيها دولة مدنيّة ديمقراطية (الفصل 49 من الدستور).

1.2 المعايير الدولية لحقوق الإنسان : الكونيّة لدعم الحريات

يؤكّد الدستور التونسي على أن “المعاهدات الموافق عليها من قبل المجلس النيابي والمصادق عليها أعلى من القوانين وأدنى من الدستور” (الفصل 20). هذا الإقرار الدستوري بعلويّة المعاهدات تجعل من الالتزامات الدوليّة للجمهورية التونسية أساسيا في إعلاء دولة القانون وهو ما يحتّم اليوم تفعيل الأحكام العامّة لكلّ الاتفاقيّات الدوليّة المصادق عليها منذ الاستقلال إلى اليوم وعدم الاكتفاء بالمصادقة وإضافتها إلى القائمة الطويلة جدّا من المعاهدات، دونما تأثير على المنظومة القانونية والقضائية التونسيّة. أهمّها: العهد الولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الاتفاقية الدوليّة للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضدّ المرأة، بروتوكول مابوتو المتعلّق بحقوق المرأة في إفريقيا، اتفاقية حماية وتعزيز تنوع أشكال التنوع الثقافي، نظام روما الأساسي…

إلاّ أنّه يتوجّب التنبيه إلى أن المعايير الدوليّة لحقوق الإنسان ليست فقط أحكام المعاهدات الدولية، بل إن هذه الأخيرة لا تمثّل إلا جزءا منها. فهذه المعايير وإن كانت تستند على ما تقرّه المعاهدات والبروتوكولات إلا أنها تعكس خاصّة ما تقرّه الآليات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان من ناحية وكذلك المحاكم المتخصصّة في حقوق الإنسان.

فالآليات المتخصصة في حقوق الإنسان ومنها مجلس حقوق الإنسان للأمم المتحدة واللجان المشرفة على مختلف الاتفاقيات[2] والمقررين الخاصيّن بمسائل تتعلّق بحقوق الإنسان[3]. كلّ هؤلاء المتدخّلين، إلى جانب القرارات والأحكام الصادرة عن المحاكم المتخصصّة في حقوق الإنسان: المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ومحكمة الدول الأميركية لحقوق الإنسان… يعكسون القراءة المتجددّة والمتطوّرة لأحكام المعاهدات وكيفية إنفاذها. وهو ما أسهم طيلة عقود في إثراء المنظومة وخاصة فيما يتعلّق بالحريات الفردية، حيث أقرّت هذه المعايير مجموع الحقوق والحريات الجسدية والذهنية لتبيّن مفهوم حرية الضمير وكيفية ممارستها ومنع التمييز على أساس الميول الجنسية والهوية الجندرية…

ولذلك، فإن اعتماد النصوص دونما تدقيق في طرق إنفاذها يجعل منها مجرّد أحكام نظريّة. وفي هذا الإطار، نذكّر بالانتقادات الشديدة التي وجّهت للجمهورية التونسية عند تقديمها ومناقشتها لتقريرها الدوري الشامل أمام مجلس حقوق الإنسان بجنيف في 2 ماي 2017 حيث وجّهت للجمهورية التونسية 248 توصية تعلّق عدد كبير منها بحريّة الضمير وممارسة الشعائر الدينية والتمييز على أساس المعتقد والجنس والعرق وعلى أساس الميول الجنسية والهوية الجندرية وخاصة تجريم العلاقات الجنسية غير النمطية وعقوبة الإعدام وتجريم المخالفات المتعلّقة بتعاطي المخدّرات[4]… هذا العمل الذي تقوم به هذه الأطراف المتدخّلة في حقوق الإنسان يعكس أيضا ما يعرف بالتوجهات الحديثة في مجال الحقوق والحريات.

1.3 التوجهّات المعاصرة لحقوق الإنسان: الفرد أساس المنظومة

بتأكيده على وجوب بناء الاقتراحات في مجال الحريات الفردية على “التوجّهات المعاصرة في مجال الحريّات والمساواة”، يقرّ الأمر المحدث للجنة الحريات الفردية والمساواة بتطوّر هذه المنظومة وعدم اقتصارها على ما سبق. وهو يتماشى مع مبدأ دستوري كان أكّده دستور 27 جانفي 2014 والمتعلّق بعدم التراجع عن مكتسبات حقوق الإنسان ودعمها[5]، ممّا يؤّدي حتما باللجنة إلى التطرّق إلى بعض المنظومات الوطنية المتقدّمة لحقوق الإنسان وليس فقط المنظومات الدولية[6]. ولذلك تسعى عديد الدول أو المنظومات الإقليمية إلى تجاوز الحدّ الدولي الأدنى لحقوق الإنسان والارتفاع بسقفها إلى مستويات تتجاوز بكثير السقف الدولي لحقوق الإنسان وهو ما يمثّل التوجّهات المعاصرة والمستقبليّة لهذه المنظومة والتي يمكن أن نحوصلها في النقاط التالية:

  • المساواة التامة والفعلية بين الجميع في الحقوق والواجبات: هذا المبدأ الذي لم يفتأ يتطوّر ليشمل في التوجّهات الحديثة لحقوق الإنسان المساواة الفعلية في مجال حقوق الإنسان وذلك ليس فقط بإقرار المساواة في النصوص بل العمل على المساواة في الفرص بين الجميع حتى يتمكّن الأفراد من الولوج إلى الحقوق والحريات.
  • منع التمييز وتجريمه: في التوجّهات المعاصرة، تم التوسّع في مفهوم التمييز إلى جانب المكوّنات المتعارف عليها[7] بإضافة مكوّنات لصيقة بحريّة الاختيارات الفردية: الميول الجنسية، الهوية الجندرية، المظهر الخارجي للشخص، الوضع الصحّي والإعاقة وهو ما يوسّع من مفهوم التمييز. ولجعل منع التمييز فعّالا توجّب تجريمه كوسيلة من وسائل القضاء عليه وتأكيد الاختلاف والتنوّع.
  • تأسيس حقوق الإنسان على الاختلاف والتنوّع: وهو ما يؤسّس لاحترام الاختيارات الفردية وإظهارها وحمايتها من قبل الدولة التي لا تجعل من الاعتقاد الديني أو الإيديولوجي الأساس في تسيير علاقة السلطة بالمواطنين أو علاقتهم ببعضهم البعض ممّا يؤدّي حتما إلى إقرار الحقّ في الاستنكاف الضميري للمواطنين والمواطنات.
  • تفعيل حقوق الإنسان لكل فرد مهما كانت وضعيته القانونية: سواء كان مواطنا أو أجنبيا أو غير حامل لأي جنسية وكذلك سواء كان في وضعية قانونية او غير قانونية (أي في خلاف مع القانون) ممّا يدعم الحقوق والحريات للجميع ويجعل من الدولة ضامنة لتلك الحقوق.

هذه الأسس من شأنها أن تؤثّر في المنظومة القانونية التونسية.

2 – فيما يجب أن تكون عليه الحريّات الفردية

خلال نشاطها طيلة الأشهرعشرة الأخيرة، عملت لجنة الحريات الفردية والمساواة على جرد القوانين التونسية المتعارضة مع منطوق الدستور والالتزامات الدوليّة للجمهورية التونسية ومع التوجّهات المعاصرة للحريات والمساواة. بإمكان هذا العمل الهامّ أن يؤسّس لنظرة شاملة وجامعة للتشريعات التونسية ومدى انسجامها مع منظومة حقوق الإنسان وأن يؤسس أيضا للاختيارات الكبرى في مجال المساواة الحريات.

ومن أهم النصوص التي عملت اللجنة على غربلتها وفحصها والتثبّت من مدى استجابتها للدستور، المجلّة الجزائية الصادرة في 1913 ومجلّة الالتزامات والعقود الصادرة سنة 1906 ومجلّة الأحوال الشخصية الصادرة سنة 1956 ومجلّة الاجراءات الجزائية والقانون المنظّم للحالة المدنية (صدر سنة 1957) وقانون النظام الأساسي العام للعسكريين (صدر سنة 1967) والقانون الأساسي العام لقوات الأمن الداخلي والأمر المنظم لحالة الطوارئ (صدر منذ سنة 1978). وخلصت اللجنة في تقريرها إلى اعتبارين هامين، وهما وجوب تنقية القانون التونسي من شوائبه المتعلّقة بالحريات والمساواة واقتراح مشروعيْ قانون لهذا الغرض.

2.1 في مشروع مجلة الحقوق والحريات الفردية

في تفعيل الحريات الفردية الدستورية: انطلاقا من العمل المنهجي لتقصّي المظاهر القانونية السالبة للحرية أو المقيّدة لها بما لا يستقيم مع أحكام الدستور والمنظومة الكونية لحقوق الإنسان، عمدت اللجنة إلى اقتراح مشروع مجلّة الحقوق والحريات الفردية قائم بالأساس على إلغاء عقوبة الإعدام وحماية الحرمة الجسدية بما في ذلك منع أي إجراء أو تدخّل طبّي إلاّ برضى المعني وتأكيد الحق في الكرامة كلّ شخص مهما كان اختلافه عن الآخرين بما في ذلك الميولات الجنسية ممّا يعني حماية الحياة الخاصة بما فيها من مكوّنات عقائديّة فكرية وجسديّة حميميّة وضمان حماية حريّة الضمير وحريّة الفنون والإبداع والبحث العلمي وحريّة الجسد.

في ضمان الحريات الفردية: عملت اللجنة على تأكيد الحماية القضائية للحقوق والحريّات وجعلت من تأويل القانون مقبولا فقط لتعزيز الحقوق والحريّات، وجرّمت التمييز بما في ذلك التمييز على أساس الميول الجنسي وغير ذلك من الأسباب ومعاقبة هتك قرينة البراءة وترتيب عقوبات سالبة للحرية في مجال انتهاك الحياة الخاصة بما في ذلك حماية هذا الفضاء في طرق التحرّي الخاصّة بجرائم الإرهاب وغسل الأموال ومعاقبة هتك الأسرار وإذاعتها.

في إلغاء أحكام جزائية سالبة للحرية وتعويضها : إنّ أهمّ ما اقترحته اللجنة في مشروع المجلّة هو إلغاء فصول تتعارض تماما مع مفهوم الحريات الفردية وأهمّها الفصول المنضوية ضمن الجرائم الأخلاقية في المجلة الجزائية الحالية : حيث تم اقتراح إلغاء الفصل 230 المتعلّق بتجريم اللواط والمساحقة وتعويض الفصلين 226 و226 مكرّر[8] بفصول واضحة تحصر الأعمال المجرّمة فقط في إتيان عمل جنسي أو كشف للاماكن الحميمية من جسده قصد إيذاء الغير، وتعويض العقوبات السالبة للحرية بعقوبات مالية فقط.

هذا التوجّه عمدت إليه اللجنة أيضا فيما يتعلّق بجريمة بيع العرض[9] حيث اقترحت تعويض العقوبة سواء بالنسبة للنساء العاملات في الجنس أو الحرفاء من عقوبة بالسجن إلى خطية مالية[10] فقط وهو ما يعتبر تقدّما كبيرا على صعيد احترام الحريّات الفردية.

إلا أن ما نلاحظه هو عدم تعرّض اللجنة في مشروع المجلّة إلى إلغاء عقوبة السجن المقررّة في جريمة الزنا[11] وتعويضها كغيرها بعقوبة مالية وهو مسألة لا تستقيم والتوجّه العام للجنة والتي عملت على إعلاء الحريّة الجسدية بتكريس فصل كامل حول ذلك: كلّ حرّ في جسده ومسؤول عنه والتقليص من العقوبات السجنية غير المبررة.  ولذا كان من الأفضل حذف  العقوبة السجنية في جريمة الزنا وجعلها خاضعة للأحكام المدنية فقط وإلغاء الفصل  236 من المجلّة الجزائية.

في دعم حريّة الضمير : تقترح اللجنة رفع القيود الدينية على الحرية التعاقدية وذلك ب حذف كلّ العبارات التمييزية بين المسلمين وغير المسلمين من 9 فصول في مجلة الالتزامات والعقود[12] واقتراح إلغاء الأمر المؤرّخ في 15 ماي 1941 والمتعلّق بتحجير بيع الكحول للتونسيين المسلمين. من شأن هذا التوجّه أن يكرّس مدنية الدولة في الحياة اليومية ويتدعّم ذلك بحماية جزائية ضدّ كلّ من يكفّر غيره قصد الإساءة له أو التحريض على عدم التسامح والكراهية أو العنف أو التمييز ضدّه وذلك بغرامة مالية. إلاّ أنّ ما نلاحظه أيضا فيما يتعلّق بحماية المقدّسات أنّ اللجنة اقترحت عقوبة جزائية مالية[13] لكلّ من يعمد إلى تحقير ديانة الغير في معتقداتها أو رموزها أو شعائرها وهي مسألة قد تسبب تعارضا مع حريّة البحث العلمي والحريات الأكاديمية، ذلك أن الدراسات النقدية للأديان قد تقرأ على أنّها احتقار أو اعتداء على الدين أو المعتقد. ولهذا يتوجّب بيان عدم خضوع الحريّات العلمية والأكاديمية والفنية والإبداعية لمثل هذه القيود وذلك تحقيقا لمدنية الدولة وبجعل الدولة فعلا ضامنة لحرية المعتقد والدين.

إن اللجنة لا تعتمد في تعريفها للتمييز إلا على الميولات الجنسية، بينما ما نلاحظه اليوم في التوجّهات المعاصرة لحقوق الإنسان هو الحديث أيضا على الهوية الجندرية والتعبيرات الجندرية.

2.2 في منع التمييز ضدّ المرأة وبين الأطفال

في إطار المساواة، اقترحت اللجنة مشروع قانون أسمته “مشروع قانون أساسي يتعلّق بالقضاء على التمييز ضدّ المرأة وبين الأطفال”. هذا المشروع جاء حسب اللجنة للقضاء على ما تبقّى من مظاهر التمييز ضدّ المرأة وبين الأطفال في المنظومة التشريعية التونسية، ولذا جاء هذا المشروع لإلغاء التمييز في قانون الجنسية التونسية  وإقرار المساواة في العلاقات الأسرية والمساواة في المواريث وبين الأطفال.

منع التمييز في قانون الجنسية التونسي: اقترحت اللجنة إلغاء وتعويض أحكام الفصول 7 و13 و14 و16 و25 و31 و35 من مجلّة الجنسية التونسية وذلك ل تمكين الأجانب المتزوّجين من تونسيّات من الحصول على الجنسية التونسية بمقتضى الزواج كما يتمتّع المولود في تونس بالجنسية التونسية إذا كان أحد والديه أو أحد جديه لوالديه تونسيا.  كما يمتّع هذا المشروع الأجانب والأطفال المولودين قبل دخوله حيّز النفاذ من الحقّ في الجنسية التونسية بأثر رجعي.

المساواة في العلاقات الأسرية: جاء اقتراح اللجنة لتنقيح عديد الفصول التمييزية في مجلّة الأحوال الشخصية وجعلها أكثر مواءمة لأحكام الدستور والمساواة التامة والفعلية وذلك بتحوير بعض المؤسسات التقليدية كالمهر أو بالقضاء تماما على مؤسسات كرئاسة العائلة.

فبالنسبة للمهر، تقترح اللجنة أن يصبح اختياريا باتفاق الزوجين. أمّا رئاسة العائلة فأصبحت بالتساوي للأم والأب وكذلك الولاية على الأبناء التي أصبحت متساوية. وفي صورة الخلاف يحسمها القاضي انطلاقا من مصلحة الطفل الفضلى. هذه المساواة تنطبق أيضا على الجباية (الآداءات) على الأطفال ليصبح دافع الأداء على الطفل إمّا الأم أو الأب وليس الأب فقط كما هو الشأن في القانون المنطبق الآن.

أمّا ما نعتبره شأنا هامّا جدّا فهو حقّ الأشخاص الذين بلغوا سنّ الرّشد في حمل لقب الأم إلى جانب لقب الأب وذلك بطلب منهم ويتولّى القاضي الإذن بتسجيل ذلك.

المساواة في الميراث : تقترح اللجنة أن يصبح الأصل هو المساواة بين الذكور والإناث في الميراث. ولمن شاء خلاف ذلك أن يصرّح في قائم حياته بأنّه يختار توزيع تركته استنادا إلى “للذكر مثل حظّ الأنثيين” شرط أن يكون التصريح بحجّة رسمية حرّرها عدل إشهاد. وبذلك يكون الميراث متساويا من حيث الأصل أمّا انعدام المساواة فيكون استثناء.

القضاء على التمييز بين الأطفال : إنّ أهمّ ما جاء به اقتراح اللجنة هو مساواة الأبناء المولودين خارج إطار الزواج والمعترف بهم مع الأبناء المولودين في إطار الزواج وخاصة في الميراث وذلك بالتنصيص صراحة على أنّه “للطفل الذي تثبت بنوّته جميع الحقوق التي للإبن على أبيه” ويرفع بذلك الظلم غير المبرّر على الأطفال المولودين خارج الزواج.

ملاحظات ختامية

بتقديمها لتقريرها وتضمينه مقترحات الإصلاحات التي تراها ضرورية لمواءمة المنظومة التشريعية التونسية مع مقتضيات الدستور والمعايير الدولية والتوجّهات الحديثة في مجال حقوق الإنسان، هل حققت اللجنة الانتظارات المرجوّة منها ؟ هل أسسّت بتقريرها لمرحلة جديدة للحقوق والحريات في تونس؟

بالنظر إلى التقرير المقدّم وصفحاته الـ 220، نلاحظ بأن ما قامت به اللجنة من مجهود هو عبارة عن تجميع لكلّ النصوص التشريعية ذات الصّلة بالحريات الفردية والمساواة وهو جهد هام من شأنه أن يوفّر لكلّ باحث وناشط مدني أو سياسي معطيات أساسية في أي عمل بحثي من ناحية أولى أو أي عمل مناصرة أو ضغط مدني في الأيام والأسابيع والأشهر القادمة.

على مستوى المضمون، يعتبر تقرير اللجنة انخراطا في الخطاب الحقوقي الجدّي المتأصّل في ثوابت حقوق الإنسان القائمة على المساواة الشاملة والفعليّة وعلى الكرامة والاختيار الحرّ. هذه الرؤية التي تنسجم مع الدستور والالتزامات الدولية جاءت لتؤسس أيضا لمرحلة جديدة للحقوق الإنسانية في تونس. فبعد تحقيق مكاسب على مستوى الحقوق والحريات الجماعية[14]، تكون فترة الحريات الفردية هي التي بإمكانها أن تؤسس لجمهورية مدنية ديمقراطية تقوم على احترام كرامة الفرد وخصوصيات البعد الحقوقي المتجذّر في التاريخ الإصلاحي المعاصر لتونس. فقد حان الوقت لكي يعبر الإنسان في تونس من الوصاية إلى الاختيار الحرّ وفي هذا الصدد نلاحظ بأن بعض المسائل لا تزال عالقة خاصّة إذا ما قارنّاها بالتوجّهات المعاصرة لحقوق الإنسان وتتمثّل أساسا في :

  • إعلان الحق في الهوية الجندرية وليس الميول الجنسي فقط كما ورد في تقرير واقتراح اللجنة.
  • التأكيد على الحقوق الجنسية بوصفها حقوق إنسانية كاملة وليست مجرّد حقوق خفيّة لصيقة بغيرها.
  • إقرار الحقّ في تناسب الهوية القانونية مع الهوية الجندرية للشخص وإقرار ذلك في قوانين الحالة المدنية.
  • إلغاء جريمة الزنا وجعل ذلك مسألة مدنية تعالج بين الأزواج ويمكن لقاضي الأسرة أن ينظر فيها لترتيب النتائج المدنية عليها[15].
  • إعلاء صريح لحريّة الضمير وحريّة إنشاء أماكن العبادة لكلّ فرد وحمايته في ممارسته شعائره وما يترتّب عن ذلك من أماكن دفن خاصّة.
  • جعل الزواج زواجا مدنيا صراحة لا لبس فيه يسمح على أساسه للتونسيين وغير التونسيين من الزواج على التراب التونسي.

ترتيب واضح للحريات الفردية لغير التونسيين وتمكينهم صراحة من الحقوق الإنسانية لتكون بذلك حقوقا كونية لصيقة بالإنسان لا بالمواطن فقط. 

 


 [1]وهو ما يعتبر رسالة تكليف لها.

[2] كلجنة حقوق الطفل، لجنة مناهضة التعذيب ولجنة حقوق المرأة…

[3] كالمقرر الخاص بالحريات الدينية، المقرر الخاص بالتنوّع الثقافي، المقرر الخاص بحقوق المثليين والمثليات والمتحوّلين والعابرين والمؤكّدين ومزدوجي الميل الجنسي…

[4] تقرير مجلس حقوق الإنسان حول تونس، الدورة 36، 25 سبتمبر 2017.

[5] خاصة من خلال الفصلين 46 و49 منه.

[6] التي تعكس عادة التوافقات الواقعة بين مختلف المنظومات السياسية والايديولوجية ممّا يؤدي دائما إلى إقرار لحقوق الإنسان المتوافق عليها وليس الحقوق الإنسانية كما يجب أن تكون.

[7] الدين، العرق، اللون، الأصل واللغة.

[8] التي تنصّ على جريمة الإعتداء على الأخلاق الحميدة والتجاهر بفحش وخدش الحياء

[9] أي الدعارة.

[10] قدرها 500 دينار.

[11] الذي ينصّ عليها الفصل 236 من المجلة الجزائية.

[12] وهي الفصول 368 و584 و720 و1107 و1023 و1253 و1428 و1255 و1463.

[13] خطية قدرها 1000 دينار.

[14]حق تكوين الأحزاب والجمعيات، حرية التنظّم والتظاهر، حرية الصحافة والإعلام  والحريات النقابية…

[15] الطلاق وما يتبعه من آثار.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، حريات عامة والوصول الى المعلومات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني