فرنسا تعتذر عن اغتيال الزعيم التونسي حشاد: اعتذار، التماس للعفو أم مسعى لتخفيف وقع الفضيحة؟


2013-07-08    |   

فرنسا تعتذر عن اغتيال الزعيم التونسي حشاد: اعتذار، التماس للعفو أم مسعى لتخفيف وقع الفضيحة؟

حرص الرئيس الفرنسي فراسوا هولاند في اول زيارة رسمية لرئيس فرنسي لتونس بعد الثورة ان يتطرق في كلمته امام المجلس الوطني التأسيسي التونسي يوم 05 جويلية 2013 لعملية اغتيال الزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد. وعد الرئيس الفرنسي بفتح الارشيف الرسمي الفرنسي حول واقعة الاغتيال التي نفذتها اجهزة الاحتلال الفرنسي بتاريخ 05 ديسمبر 1952 كما أعلن الرئيس في كلمته عن تضمين جدول زيارته زيارة لضريح الشهيد ولقاء ارملته وابنائه وافاد ان ذلك يندرج في إطار رد الاعتبار.
سياسيا، يبدو اعتراف الرئيس الفرنسي بمسؤولية دولته عن الاغتيال واعتذاره عنه بزيارة الضريح ولقاء عائلة الشهيد حدثا مميزا. اذ تشكل الخطوة اول اعتراف سياسي فرنسي بجرائم الاستعمار في تونس وتتضمن بداية اعتراف بالمسؤولية الرسمية الفرنسية عنها وتكشف عن استعداد للاعتراف لشعب تونس بحقه في معرفة الحقيقة حول الحقبة الاستعمارية.
قد حسب سياسيا للرئيس الفرنسي مبادرته بالاعتذار غير ان موقفه هذا لا يجب ان يقرأ بمعزل عن الحراك الحقوقي الذي سبقه ويعود له الفضل الاكبر في حلحلة الموقف الرسمي الفرنسي الذي بدا رضوخا جزئيا لمطالبه. اذ أن فهم المبادرة الفرنسية يستدعي الرجوع لتاريخ الاتحاد العام التونسي للشغل المنظمة النقابية التي اسسها الشهيد وساهمت في الحركة الوطنية وتحولت لاحقا لاهم منظمة عمالية في المنطقة العربية. فقد حرصت المنظمة النقابية التونسية على احياء ذكرى الاغتيال بشكل دوري وكانت تؤكد في بياناتها على التزامها بكشف حقيقة الاغتيال وتعمل على توثيق ما تتوصل له من معطيات وشهادات حول وقائعها وحول منظمة اليد الحمراء التي نفذتها. فظلت بذلك واقعة الاغتيال حدثا حيا في الذاكرة الوطنية التونسية افلتت من قوانين النسيان، غير أن التحرك القانوني للاتحاد وعائلة الشهيد اصطدم بغياب الادلة وبرفض الدولة الفرنسية اجراء اي ابحاث قضائية في الموضوع في سياق ما قد يعد اعتزازا بالماضي الاستعماري وخشية من الملاحقات القضائية.
تدخل الاعلام الاستقصائي العربي ليعاضد نضال العمال التونسيين ويساهم في اختراق جدار الصمت الذي منعهم من نقل معركتهم للاراضي الفرنسية فبثت قناة الجزيرة الفضائية بتاريخ18 ديسمبر 2009 شريطا وثائقيا تاريخيا خصص لفرحات حشاد. ففي هذا الشريط تمّ تقديم شخص يدعى أنطوان ميليرو، (مؤلف كتاب منشور سنة 1997 عن دار روشي للنشر عنوانه " اليد الحمراء، الجيش السري للجمهورية". وقد مرّ هذا الكتاب تقريبا في صمت عند صدوره)، على أنه عضو في المنظمة الإرهابية " اليد الحمراء" وأعلن تبنيه بوضوح لاغتيال فرحات حشاد ثم تولى نفس الشخص الحديث بالتفصيل عن الضلوع المباشر لأعلى هيئات الدولة الفرنسية ممثلة في شخص رئيس مجلس الوزراء بيناي في إنشاء المنظمة الإرهابية "اليد الحمراء" وفي انخراط ضباط فرنسيين مباشرين فيها (مثل الرائد فيلات) وفي وجود تعليمات صريحة تتعلق باغتيال عدد من المعارضين للنظام الاستعماري ومنهم فرحات حشاد[1]
اعطى الدليل الموثق اعلاميا للفريق القانوني للاتحاد العام التونسي للشغل الدليل الذي كانوا يفتقدونه ويؤكد بشكل قاطع ان اغتيال الشهيد فرحات حشاد جريمة دولة رعتها دولة استعمارية. وتحركت بالفعل المؤسسة النقابية في اتجاه تكوين فريق قانوني يتولى مقاضاة فرنسا من اجل جرمها وكان ان حقق الاعلان عن التحرك نقلة نوعية في ادارة صراع كشف الحقيقة وانهاء الافلات من العقاب فتمت المطالبة بكشف الارشيف السري الفرنسي حول عملية الاغتيال استنادا للقوانين الفرنسية التي ترفع السرية عن وثائق الارشيف الرسمي بمرور خمسين سنة وهو ما يعني ان جميع الارشيف المتعلق بعملية الاغتيال اصبح متاحا الاطلاع عليه منذ 05/12/2012.
لم تفلح الجهود التي بذلت في الكشف عن الوثائق التي ظلت سرية. وفي مقابل ذلك كان للحراك الحقوقي دوره في تأسيس رأي عام فرنسي يساند المطلب ويقر بالفعل الاجرامي. ويذكر في هذا الصدد أن عمدة باريس برتراند دي لانوي التونسي المنشأ امتاز بمبادرة كان لها وقعها اذ تولى بتاريخ 30 افريل 2013 منح اسم فرحات حشاد لساحة عامة بالدائرة 13 بباريس في اول حركة ذات دلالة على تجاوز النخبة الفرنسية لعقدة التعامل مع الحقبة الاستعمارية.
لم يكن بالتالي خطاب الرئيس الفرنسي وزيارته لضريح شهيد النضال الوطني التونسي فرحات حشاد مبادرة املتها جرأة من جانبه في التعاطي مع التاريخ الاستعماري لبلده وكانت على نقيض ذلك الخطوات التي قام بها حركة استبقت الكشف الرسمي عن الارشيف المتعلق بالجريمة التي اقترفتها حكومة بلده في حق رمز من رموز الدولة التونسية بغاية تلميع صورة فرنسا في تونس. استعمل الرئيس الفرنسي وثائق الارشيف السري الفرنسي واعتذاره الرسمي ليصنع مصالحة شعبية بين تونس التي تتهم نخبها فرنسا بدعم النظام الاستبدادي وبلده الذي تردد في الوقوف الى جانب تونس في المرحلة الانتقالية بما جعل مكانته كشريك اقتصادي وصديق لتونس تتراجع لصالح منافسه الالماني.
فرض النضال الحقوقي والنقابي ودينامية العلاقة بين الاعلام والقانون والنقابة انهاء قانون الصمت الذي حكم عملية اغتيال الشهيد فرحات حشاد لمدة زادت عن الستين عاما فاختارت الديبلوماسية الفرنسية ان تكشف الارشيف السري طوعا لكيلا تكون مضطرة لذلك، خصوصا وان الاتحاد العام التونسي للشغل أكد في البيان الذي اصدره بمناسبة الذكرى الستين لعملية الاغتيال عزمه على الالتجاء للمحاكم الدولية لفرض كشف الحقيقة. فبدا ما فرض كما لو انه منحة بفضل لعبة السياسة.
اختارت فرنسا بمبادرة الاعتذار ان تنهي حكاية ابت ان تنسى من تاريخها الاستعماري. غير ان الموقف الفرنسي لا يختزل عموم المشهد فمن ناضلوا من اجل بقاء القضية وانتصارها لم يكشفوا بعد موقفهم. ارضت الخطوة الفرنسية طموحات الطبقة السياسية التي تنظر الى العلاقات التونسية الفرنسية من جهة المكاسب الاقتصادية المنتظرة غير ان الاوساط الحقوقية التونسية والفرنسية التي كان لها فضل حفظ الذاكرة تبدو مطالبها أكبر من مجرد الاعتذار. فكشف الارشيف واعتذار رئيس الدولة الفرنسية لا يقرأ حقوقيا كنهاية لقضية الاغتيال ويبدو على نقيض ذلك البداية الحقيقية لمعركة أكبر عنوانها انهاء ثقافة الافلات من العقاب والدفاع عن حق ضحايا الحقبة الاستعمارية.
تعد جريمة اغتيال فرحات حشاد جريمة دولة اقترفت في إطار جرائم الحرب اذ ان الحكومة الفرنسية اتتها في إطار تصديها لحركة التحرر الوطني التونسي وبغاية الحفاظ على سلطتها على مستعمرتها. وهي في واقعها واحدة من عدد كبير من الجرائم المماثلة التي اقترفتها الدول الاستعمارية في حق دول الجنوب ونخبها. وقد يكون الاعتراف السياسي بواحدة منها البداية الحقيقية الواجبة لكشف البقية. يبدو الطموح لفرض التبعات القانونية للاعتراف بالمسؤولية غاية التحرك الحقوقي الذي يكون منتهاه فرض حق المستعمرات السابقة في التعويض عن الاضرار التي الحقها الاستعمار بها.
تفطنت فرنسا ذات التاريخ الاستعماري لخطورة التوجه نحو البحث في تاريخها الاستعماري فحصنت نفسها من الملاحقات من اجل الجرائم التي اقترفتها حكوماتها المتعاقبة في مستعمراتها السابقة بتمسك قوانينها الداخلية بسقوط الحق بالتتبع في جرائم الحرب وهو استثناء تمسكت به ايضا بمناسبة مصادقتها على القانون الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية المعروف بقانون روما (1998). غير ان قضية اغتيال فرحات حشاد دكت اول الحصون بعد ان مكنت من فرض تراجع فرنسي هام اتى ليقطع مع ثقافة تمجيد التاريخ الاستعماري وكان اول مكتسباته اعتذار يشبه طلب العفو.
كان النضال الحقوقي في الساحة الفرنسية حاسما في تحقيق الاعتراف الفرنسي بجريمة اغتيال حشاد وكشف الادلة التي قد تفيد في المرحلة الثانية من القضية غير ان التوجه نحو فرنسا لا يجب ان يحجب الحاجة لتهيئة الساحة القانونية التونسية الداخلية ليكون التحرك فيها مفيدا لاحقا بشكل يسمح بتجاوز الاحتياطات القانونية الفرنسية. وقد يكون من المناسب في هذا السياق أن يتفطن المجلس الوطني التأسيسي التونسي لوجوب التنصيص الصريح على ان جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية لا تسقط بمرور الزمن بعد ان نص مشروع الدستور على ان جرائم التعذيب لا تسقط بمرور الزمن واغفل التعرض لجرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية. لأنه إذا ما تم ذلك، فالمحاكم التونسية تصبح مختصة بنظر الجريمة دون ان تتم مواجهتها بسقوط الدعوى في شانها بمرور الزمن وهو امر قد يساهم في فرض الحق في الحقيقة الكاملة.
 يبدو الصراع من اجل فرض حق المستعمرات السابقة في ادانة الاستعمار وكشف جرائمه مسارا طويلا وصعبا غير ان تطورات قضية اغتيال فرحات حشاد تؤكد ان المطالبة بالحق وتعاضد الجهود الحقوقية والقانونية والاعلامية ونقل الصراع الى الراي العام للدولة الاستعمارية السابقة يظل سبيلا يمكنه تحقيق الهدف المنشود ولو جزئيا.



[1]اغتيال فرحات حشاد او مثال من الافلات من العقاب في جرائم الحقبة الاستعمارية –حسين الباردي ترجمة الاستاذ عياشي الهمامي
نشر بموقع الحوارات الاعلامية بتاريخ 10/04/2010                  http://www.alhiwar.net/ShowNews.php?Tnd=5602#.UdfxzjssUVU      
انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكمة عادلة وتعذيب ، مقالات ، تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني