القاضي البطل والقديس في “مدونة أخلاقيّات القضاة” أخلاقيّاتٌ لعالمٍ آخر، مؤداها حرمان هذا العالم من قضاءٍ فاعل

،
2018-03-26    |   

القاضي البطل والقديس في “مدونة أخلاقيّات القضاة” أخلاقيّاتٌ لعالمٍ آخر، مؤداها حرمان هذا العالم من قضاءٍ فاعل

أخذت مسألة الأخلاقيّات القضائيّة شكلها الأول في العام 2005 حين وضعت لجنة مؤلفة من رؤساء مجلس القضاء الأعلى ومجلس شورى الدولة والتفتيش القضائي والنائب العام التمييزي “القواعد الأساسية لأخلاقيّات القضاء”. وبالتدقيق في هذه القواعد، سجلت “المفكرة” عددا من الملاحظات بشأن منهجية وضع هذه المدونة ومضمونها، أبرزها أن المدونة صورت القاضي تصورا متخيلا يجعله أقرب إلى قديس وبطل منه إلى إنسان واقعي. وبذلك، تحولت المدونة إلى مجموعة من الفرائض التي يقتضي أن يلتزم بها القاضي بما له من منعة وقوة ذاتيتين، واختزلت عوامل الخلل القضائي بمجموعة من الإخلالات الفردية، المتمثلة في خروج بعض القضاة عن هذه المواصفات السامية. فبإمكان القاضي أن يصمد وحيداً في وجه الضغوط مهما بلغت قوتها، وعليه أن يتفانى في عمله القضائي متحمّلا كل المهام التي توكل إليه من دون تذمر، وأن يكون متجردا عن كل نزواته ألخ.. وقد بدت هذه المبالغة في رسم مواصفات القاضي بمثابة تبرؤ للسلطات القضائية من واجباتها في تأمين الحماية والضمانات القانونية، وإلى حدّ ما بمثابة إبراء للجهات النافذة التي تتغول أو تتدخل في القضاء. فعلى القاضي الذي يتعرض لضغوط، أن يصمد أمامها (وهو قادر على ذلك) فتنتفي المشكلة. والأهم أن قوة المواجهة يستمدها من ذاته، مما ينفي أي حاجة للجوء إلى وسائل نضالية غير اعتيادية كالاحتكام إلى الرأي العام أو الالتجاء لدعم زملائه وتضامنهم معه وصولا إلى إنشاء جمعيات مهنية تجنبا للإستفراد. وبقدر ما تنتفي لديه الحاجة إلى زملائه، تنتفي لدى هؤلاء الحاجة إلى تضامنه: فلا نلقى إذا أي موجب بالتضامن أو التآزر ضمن المدونة. ومن هنا، يجد نسف حريتي التعبير والتجمع المكرستين في وثيقة بنغالور ما يبرره في المدونة اللبنانية. أما إذا رضخ القاضي للضغط المذكور خلافا لما يفترض به أن يفعل، فلا يلومن إلا نفسه.

وكنتيجة طبيعية لذلك، تصبح المدوّنة خطابا أخلاقيا مثاليا، مجرّدا عن أي قدرة على التأثير على الواقع، بل على العكس تماما، خطابا من شأنه بما تضمّنه، أن ينسف مشروعية أي دينامية اجتماعية قادرة على تمكين القاضي من جبه التعديات على استقلاله. وتبعاً لذلك، من الطبيعي أن ينحسر دوره في تحصين ذاته والدفاع عن استقلاله ما قدر على ذلك، وأن يكون أكثر ميلاً لحصر صلاحياته ذاتيا self restraint  بدلاً من السعي إلى تعزيزها أو تطويرها. فينحصر دوره في خدمة القانون من دون أن تكون لديه القوة اللازمة لأقلمة القانون مع حاجات المجتمع أو لحماية المجتمع من السلطات العامة السياسية. وعليه، تصبح المدوّنة مجرّدة عن أيّ فعالية لتعزيز إمكانات القاضي في الدفاع عن استقلاله وفي تطوير المنظومة القانونية.

المنهجية المعتمدة

أول ما نلحظه في هذا المجال هو كيفيّة وضع هذه الوثيقة. فبخلاف ما نصت عليه الوثيقة لجهة أنها “من عمل القضاة”، فإن مشاركة القضاة كانت بالواقع معدومة في وضعها، وإلا صوريّة. ففضلاً عن غياب أيّ عملٍ تشاركيّ مع عموم القضاة أو حتى ممثلين عنهم، اكتفى مجلس القضاء الأعلى بتوزيع هذه الوثيقة على القضاة في احتفال إعلانها، من دون أن يتيح لهم أيّ مجالٍ لمناقشتها أو إقرارها. أكثر من ذلك، لم يتمّ إشراك أيّ شخصٍ من غير القضاة ولا حتى من المهن القانونيّة غير القضائيّة في صياغة هذه الوثيقة، فأتت مجردة من أيّ مشروعيّة حقوقيّة أو إجتماعيّة.

أيّ نموذج؟

من المعلوم أن مدوّنات أخلاقيّات القضاة في العالم تصنف ضمن نماذج معينة. وإذ يوضح واضعو الشرعة اللبنانية أنهم فضلوا خيار وضع وثيقة “ملزمة معنوياً” على “خيار المبادئ المقنّنة في تشريع وضعي”، نظراً لصعوبة ضبط مواضيع متشعبة وذي طابع أخلاقي. وبذلك يكون النظام اللبناني قد اقترب من النظام الفرنسي الذي اختار ابتداءً من سنة ٢٠٠٧ صيغة “مجموعة من المبادئ الأخلاقية” “Recueil des obligations déontologiques”، مستبعداً فكرة وضع دليل للقواعد السلوكية “Code”. كما أوضحت هذه الأسباب أن “ما احتوته الوثيقة لا يشكل قواعد لنظام تأديبي رادع شامل” وأن “بين النظام التأديبي والأخلاقيات نقاط تلاق ونقاط تباعد”، في إشارة واضحة إلى الفصل بين نظام الأخلاقيات القضائية والنظام التأديبي. وقد انعكس هذا الخيار على صياغة العبارات التي جاءت بمثابة توصيات، غالبها ذات طابع فضفاض.

إلا أن هذا الخيار يبقى ملتبساً على ضوء المادة ٨٣ من قانون تنظيم القضاء العدلي والتي تنصّ على أنّ “كل إخلال بواجبات الوظيفة وكل عمل يمس الشرف أو الكرامة أو الأدب يؤلف خطأ يعاقب عليه تأديبياً” على نحو يمهد لتطبيق بعض القواعد الأخلاقية في الملاحقات التأديبية.

القواعد المعتمدة

تعتمد شرعة بنغالور العالمية للأخلاقيات القضائية معايير ستّة للسلوك القضائيّ، وهي: الإستقلاليّة، والحياد، والنزاهة، والأهليّة، والنشاط، واللياقة، والمساواة. وجاء اختيار القواعد اللبنانيّة مخالفاً بعض الشيء، إذ وُضعت ثماني قواعد هي: الإستقلاليّة، والحياد، والنزاهة، والأهليّة، والنشاط، المطابقة لعناوين شرعة بنغالور، مع استبدال موجب “اللياقة” بموجب “التحفّظ”، بما لذلك من دلالة هامّة نعود إليها. كما أضاف واضعو الوثيقة ثلاث قواعد هي: الشجاعة الأدبيّة، والتواضع، والصدق والشرف، مع مفاخرتهم بأن قاعدتي “الشجاعة الأدبيّة” و”التواضع” ليستا ملحوظتين في أيّ من الوثائق التي اطلعت عليها اللجنة. وسنحاول أدناه التعليق على بعض هذه القواعد، على ضوء شرعة بنغالور، بما يثبت ما أثرناه في مقدمة هذا المقال.

الاستقلالية L’indépendance

تُعتبر الإستقلالية قاعدةً أو مبدأً أخلاقياً في الشرعتين، بوجهيها الفرديّ والمؤسساتيّ. وتتميز الوثيقة اللبنانيّة بقولها أن هذا الإستقلال يتحقّق ليس فقط عبر “قوانين تعزّز السلطة القضائيّة” إنما أيضاً من خلال “ثقافة قضائيّة تعكس يقين القاضي الذاهب إلى أن المصدر الأساسيّ لاستقلاله هو شعوره الذاتيّ بجسامة مهمّاته، وتصميمه على الانعتاق من كلّ العوامل الضاغطة الرامية إلى التأثير على قناعاته”. وفي ذلك لازمةٌ في الخطاب اللبناني حول الأخلاقيّات القضائيّة، والاستقلاليّة خصوصاً، في وضع المسؤوليّة الأساسيّة على عاتق القاضي وشعوره الداخليّ الذاتيّ، . فعدا أن عليه أن “يمتنع عن إقامة أي علاقة غير ملائمة مع السلطة التشريعية والتنفيذية، يتعين عليه هو أن “يحمي نفسه من كل تأثير آت من جانبهما”. كما عليه أن يتحلّى بـ “الشجاعة الأدبيّة” التي تعتبرها الوثيقة “وجهاً من وجوه ممارسة الاستقلال”. وما يزيد هذه المسؤولية مشقةً هو أن الوثيقة لم تمدّه بالوسائل الكفيلة بذلك، بل على العكس، عملت على تجريده من الوسائل الناجعة للقيام بذلك في تفسيرها للقواعد الأخرى، وأحياناً نسفت الإمكانات المتاحة له. فمثلاً، لا تتضمّن هذه القاعدة أيّ إشارة إلى دور القضاة في الدفاع عن ضمانات الإستقلالية اللازمة، خلافاً لشرعة بنغالور التي نصّت على أنه يتعيّن على القاضي تشجيع ودعم تعزيز الإستقلال المؤسّسي والعمليّ للسلطة القضائيّة. ورغم أن الوثيقة أشارت تحت قاعدة “الاستقلاليّة” إلى أن القاضي لا يكون مستقلاً إلا إذا كان حرّاً وأنه لا يكفي أن يشعر بالحريّة فحسب بل عليه أن يمارسها، فإنها عادت لتجرّده من هذه الحريّة بموجب قاعدة “التحفّظ”. فحريّته بالكتابة والمساهمة بنشاطاتٍ تتعلّق بالقانون، وبشؤون التنظيم القضائيّ، وبمفاهيم العدالة، وبكلّ موضوعٍ لصيقٍ بهذه النشاطات، وبكلّ نشاطٍ آخر (فكريّ، ثقافيّ…) مقيّدة بشروطٍ عدّة. ومن هذه الشروط ما هو مقبول، كتجنّب ما قد يضرّ بكرامة القضاء أو بممارسة المهمّات القضائيّة، ومنها ما يقارب تجريد القضاة من حريّة التعبير عبر إخضاعه لضروة الاستحصال على إذنٍ مسبقٍ وضمن ما تفرضه القوانين النافذة.

الحياد – التجرّد L’impartialité

تربط الشرعة اللبنانيّة التجرّد بحالة القاضي الذهنيّة. وتوصيه بالتصرّف “تصرّف الأب الصالح والحكم المتنزّه”، وأن يبتعد عن أيّ “هوى خاص” أو “مكسب فرديّ”. وتتابع الشرعة: “فدنياه تكون صغيرة إذا كان يسعى لنفسه، وتكون كبيرة إذا كان المسعى لتحقيق ما انتدب له. إنه للناس قبل أن يكون لنفسه“. وتتجلى هنا صورة القاضي المترفّع عن كلّ مصلحة دنيويّة، والقاضي الذي يتفانى في سبيل الناس، في استعادة لقيم تقارب قيم القداسة الدينيّة. وبالطبع، تبتعد الوثيقة في هذا المجال تماماً عن وثيقة بنغالور التي تتفادى أيّ تصوّرٍ مثالي مماثل.

موجب التحفّظ

تعلن شرعة بنغالور التزام القاضي بقيمة “اللياقة”  .Convenancesوتركّز هنا على ضرورة أن يتقبّل القاضي بعض القيود الشخصيّة نظراً لخضوعه الدائم للرقابة الشعبيّة والضوابط في علاقاته الشخصيّة ومصالحه الماليّة، بهدف صون حياد المحكمة. كما تركّز على واجبه بعدم إستخدام أو إفشاء أيّة معلومة يحصل عليها في معرض قيامه بوظيفته. تكرّس الوثيقة في الوقت نفسه حريّتيه بالتعبير والتجمّع، وحقّه بـ”أن يكتب ويحاضر ويعّلم ويساهم في أنشطة تتعلّق بالقانون أو النظام القانونيّ”، ويمارس أنشطةً أخرى شرط ألا تؤثر على كرامة المنصب أو تتداخل مع وظيفته.

أوّل ما نلحظه في هذا المجال هو أن الشرعة اللبنانيّة نحّت قاعدة “اللياقة” مبقية على قاعدة “موجب التحفَظ”  Obligation de reserve التقليدية. وبذلك، بدت الوثيقة اللبنانيّة وكأنها تتنكر للتطور الحاصل في هذا المجال على ضوء تعزيز مكانة القضاء اجتماعياً واستقلاليته خلال العقود الماضية، والذي تمثّل في تحويل مفهوم “التحفّظ” من موجبٍ يوحي الإلتزام تجاه طرفٍ آخر إلى مفهومٍ يرتكز على فكرة الإلتزام الذاتيّ.

واللافت أن الوثيقة باشرت في نقاش مفاعيل هذا الموجب بنفسٍ تجديديّ، لكن سرعان ما بدا أن هذا النفس ينحصر في القضايا الأقل أهميّة. وعليه، بعدما ندّدت بالمبالغة الحاصلة في مقاربة مواصفات القاضي الذي عليه أن يتبع، وفق إعتقادٍ راسخ، “نسقاً من العيش والتصرّف يلامس النسك والإبتعاد عن كلّ مظهر رخي أو مطمعٍ ماديّ”، خلصت إلى وجوب اعتماد موازنة بين واقعين أو التزامين: “الإنخراط في المجتمع من نحو، والابتعاد عنه من نحو مقابل”. وانطلاقا من ذلك، انساقت الوثيقة إلى التمييز بين ما هو “كبت وتزمّت” أو “جفاء” و”تعقيد” وما هو على العكس من ذلك، “من الثوابت ووجوه الأصالة”. فالكبت والتمييز المرفوضان نجدهما في المفاهيم الخاطئة التي تكبّل الحياة الخاصّة للقاضي الذي من حقه “أن يحيا حياةً عادية طيبة مع عائلته وفي مجتمعه، بكلّ ما تحتّمه من وسائل راحة ومن وجوه استمتاع …” ونفهم (أن يتخالط مع الناس على خاتلافهم بما فيهم القوى السياسية والجهات النافذة). بالمقابل، نجد الثوابت ووجوه الأصالة التي يجب التمسّك بها، في وجوب منع النشاطات العامّة للقضاة، وهو منعٌ يقتضي رفعه إلى مصاف الثّوابت غير القابلة للجدل. ومن هذه الثوابت، تجريده من حريّتي التعبير والتجمّع.

وعليه، بدا أن ما اعتبرته الوثيقة من الثوابت ووجوه الأصالة أتى مناقضاً صراحةً في تطبيقاته لما اتّجهت إليه وثيقة بنغالور الدولية. فكأنما واضعي الوثيقة تساهلوا في المجال الخاصّ بهدف إضفاء طابع التجدّد عليها، ليتسنى لهم تحت غطاء التجديد الاستمرار بضبط النشاط العام للقضاة، بخلاف ما تدعو إليه التوجّهات الحديثة كافّة. ومن اللافت في هذا السياق أن الوثيقة ذهبت إلى حدّ منع القضاة من التذمّر من كثافة العمل التي تقابلها أوضاعٌ ماديّة غير مُرضية، على خلفية أن “معالجة .. المشكلة، وأيّة مشكلة مماثلة في حال وجودها، تتمّ ضمن المؤسسة القضائيّة، وفي إطار القانون”.

الشجاعة الأدبيّة Le courage moral

كما سبق بيانه، فاخر واضعو الوثيقة بأنهم ضمّنوها قاعدة الشجاعة الأدبيّة رغم عدم لحظها في أيّ من المواثيق التي اطلعوا عليها. وإذ أشار واضعو الوثيقة إلى أن هذا المفهوم يبقى متّصلاً إتصالاً وثيقاً باستقلال القضاء واستقلال القاضي، فإنهم برّروا معالجتها تحت عنوانٍ خاص بالتشديد على دورها في معالجة “الخصوصيّات السلبيّة التي تطبع مجتمعات” منها المجتمع اللبنانيّ، وقوامها العوامل المؤثرة والضاغطة على قرار القاضي “من العلائق الشخصية إلى الروابط العائليّة إلى الإنتماءات الطائفيّة والمناطقيّة إلى سطوة المال إلى النفوذ السياسيّ إلى المجموعات الضاغطة على تلوّنها”. والواقع أن التشديد على هذه القاعدة يستدعي ملاحظاتٍ ثلاث:

الأولى، أنه يؤول عملياً إلى تعظيم مسؤوليّة القاضي في المحافظة على استقلاله، في موازاة حجب مسؤوليات الهيئات المشرفة على القضاء وسائر السلطات في هذا المجال، أو التخفيف منها. فالاستقلالية تصبح على ضوء هذه القاعدة مسألةً شعوريّةً داخليّةً للقاضي بمعزل عن أيّ ضمانة حسّية تحميه: “لن يستقيم حكمٌ، ولن تشيع عدالةٌ، إلا إن عزّز القاضي ثقته بنفسه، عبر الشعور بأنه هو القويّ، ولا مجال لإضعافه”.

الثانية، وهي متصلة بالملاحظة السابقة، ومفادها أن التشديد على هذه القاعدة في الوثيقة يعكس تصوّراً مثالياً للقاضي كما سبق بيانه. فلا يكتفى أن يكون متحليّاً بمواصفات الإستقلاليّة والتجرّد والنزاهة والكفاءة، إنما عليه أن يتحلّى بمواصفات البطولة والقوة، للتمكّن من التغلّب على الخصوصيّات السلبيّة المشار إليها أعلاه.

ويلحظ أن الوثيقة قسّمت التصرّفات التي قد ينتهي إليها القاضي تبعاً للضغوط التي قد تمارس عليه إلى أربع تصرفات، علماً أن الشجاعة تفرض اعتماد تصرف أوحد وهو إهمال الضغوط وكأنها ليست موجودة. ومن النافل القول أن وصف التصرفات الثلاثة المرفوضة يعطي إضاءةً هامّةً على طبيعة العمل القضائيّ حالياً. وهي الآتية:

الأول، انصياع القاضي للضغوط بدافع الخوف أو المجاملة أو الحرص على ترسيخ مركزه.

الثاني، التنحي على خلفيّة استشعار الحرج. وفيما يقبل التنحّي ممن يستشعر الحرج لسببٍ جدّي، فلا يصحّ بالمقابل أن يتمّ بفعل الخوف إزاء سطوة طرفٍ من أطراف الدعوى. فالحلّ الصحيح في وضعٍ كهذا يكون بالمواجهة، أيّ بالشجاعة الأدبيّة، وليس بالانسحاب ودفع الدعوى إلى قاضٍ آخر. هنا، تبدو الوثيقة وكأنها تجرّد القاضي أيضاً من وسيلة احتجاجٍ إضافيّة ضدّ الضغوط التي تمارس عليه، من دون أن تعطيه أيّ حلّ سوى الاعتماد على نفسه وشجاعته.

الثالث: التهوّر. هنا، تبدو الوثيقة وكأنها تحذّر القاضي من الذهاب بعيداً في التصدّي لأصحاب النفوذ على نحو تنقصه الحكمة ويتسم بالتهوّر. فـ “لا يفهمن .. أن الشجاعة تقصي الحكمة وتستتبع التهور”، إذ أن كلّاً منهما بحاجة إلى الأخرى “حتى يكون القرار إحقاق حقّاً لا تحديّاً”. وينسجم هذا القول ربما مع الأعراف السائدة في تعامل القضاة مع التدخّل في أعمالهم، والتي تقوم على الديبلوماسية والتروي من دون اتباع وسائل الصدّ.

التواضع La modestie

يفاخر واضعو الوثيقة بابتكار قاعدة “التواضع” التي ليس لها أثر في أيّ وثيقة أخرى. وهم يستهلّون الفصل الخاصّ بها بسؤالٍ إستفزازيّ بعض الشيء: “هل يصحّ للقاضي أن يركب مركب الاستعلاء والتكلّف والغرور وسائر المواقف ذات الأبهة والبهرجة؟” ويؤشر طرح هذا السؤال، كما إضافة هذه القاعدة، إلى شعورٍ بتنامي النزعات المذكورة. وبالطبع، تأتي الإجابة على السؤال بالنفي، وبضرورة اعتماد التواضع الذي يشكّل “سمة أساسيّة في شخصيّة القاضي المميّز”. واللافت أن الوثيقة تُسارع إلى التأكيد على أن “التواضع لا ينال من إباء القاضي، فكلاهما من معدنٍ واحد هو سموّ النفس..”. وسمو النفس الذي يدفع القاضي إلى مواجهة مجمل التأثيرات تحت عنوان الشجاعة، هو نفسه الذي يدفعه إلى التواضع المنافي لأيّ شكلٍ من أشكال التباهي. وسرعان ما نتبيّن أن المقصود من إضافة التواضع، هو رسم صورة شخصٍ مميزٍ، نفسه سامية، قوي الشخصيّة، يكون محاطاً بـ”هالة” (العبارة وردت في النصّ) يستمدها من “البساطة العميقة التي تنشر ظلالها عليه وتجعله محطاً لأنظار الناس ولإعجابهم به وبالقضاء”. وتالياً، “التواضع” الموصوف هنا هو بابٌ لإدعاء الهيبة والارتقاء والقداسة وللتفاخر، أكثر مما هو مدخلٌ لتقريب رسم القاضي إلى رسم المواطن العاديّ أو لإخراجه من أبراجه العاجيّة.

خلاصة

ختاماً، نلحظ أن الفوارق بين الوثيقة اللبنانية ووثيقة بنغالور كبيرةٌ جداً بل جوهريّة. وهي فوارق لا تجد مبرّرها دائماً في الخصوصيّة الثقافيّة أو الاجتماعيّة أو القضائيّة، لكنها تعكس في جوانب عديدةٍ منها تمايزاً أعمق لجهة رسم صورة القاضي ودوره الاجتماعيّ. ففي حين تستخدم شرعة بنغالور معجماً واقعياً وموضوعيّاً تتّسم القيم من خلاله بقابليتها للقياس، ترسم الشرعة اللبنانية صورةً منمّطة و”نموذجيّة” للقاضي المترفّع، الباذل نفسه في سبيل مجتمعه والآخرين، والشجاع والقويّ، والذي يقوم بكلّ ما يُكلّف به من مهام من دون أيّ تبرّم أو تذمّر… بكلمة، القاضي البطل القادر بمفرده على مواجهة جميع الضغوط التي قد تحيط به، والقدّيس الذي عليه أن يقابل كلّ ما قد يتعرض له من ضغوطٍ وتعسّف بالشكر والصمت والصبر. فليس له لا أن يناضل ولا أن ينشئ تجمّعاً للقضاة تحصيناً لذاته، ولا حتى أن يشتكي أمام القضاء. وكأنما البطولة والقداسة هما الجواب الوحيد الممكن، بعيداً عن الضمانات الملموسة، في مجتمعٍ ينهش استقلالية القضاء، وبمعزلٍ عن التنظيم القضائيّ الذي يعاني من التعطيل بشكلٍ كبير.

أما إذا قرّر القاضي كسر الصمت بشأن مظالم قصور العدل، فيكون متمرّداً على أخلاقيّات القضاء ويقتضي عقابه.

هذه أخلاقيّاتٌ لعالمٍ آخر، مؤداها حرمان هذا العالم من قضاءٍ فاعل.

نشر هذا المقال في العدد | 39 | أيار/مايو 2016، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

حالة إعتراضيّة ضد اعيان النظام.

للاطلاع على المقال باللغة الفرنسية، انقر/ي هنا

نشر في العدد الخاص عن القضاء في لبنان، للاطلاع على العدد انقر/ي هنا 

في ما يلي “الشرعة اللبنانية”.

H. Épineuse, De Bengalore à La Haye : vers un modèle international de déontologie des juges ?, in D. Salas et Harold Epineuse (sous la dir.), L’éthique du juge, une approche européenne et internationale, Dalloz Actes, 2003, p. 21.

المادة ١٨ من القانون التنظيمي رقم ٢٠٠٧-٢٨٧ تاريخ ٥-٣-٢٠٠٧.

 المرسوم الاشتراعي رقم 150/1983

نورد هنا الفقرتين المرتبطتين بهتين الحريتين:

4-6 يحق للقاضي، كأي مواطن آخر، حرية التعبير والعقيدة والارتباط والتجمّع، ولكن يتعيّن عليه دائما، عند ممارسته تلك الحقوق، أن يتصرّف بشكل يحافظ فيه على هيبة المنصب القضائي وحياد السلطة القضائيّة واستقلالها.

4-13 يجوز للقاضي أن يشكل رابطات للقضاة أو ينضم إليها أو يشارك في منظمات أخرى تمّثل مصالح القضاة.

عن هذه النقطة انظر سامر غمرون ونزار صاغيّة، التحرّكات القضائيّة الجماعيّة في لبنان، في”حين تجمّع القضاة” (دراسة مقارنة لبنان، مصر، تونس، المغرب، الجزائر، العراق)، ص. 78.

 ورد حرفيا أن التواضع كما الإباء من معدن واحد هو سمو النفس التي تنير بسطوع مناقبها.

 ورد في النص أن البساطة وهي وجه من وجوه التواضع “سبب من أسباب قوة الشخصية”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

استقلال القضاء ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني