المديرية العامة للتنظيم المُدني: عبثية الممارسة ما بين الخطة الشاملة والتصاميم التوجيهية والاستثناءات والقرارات

المديرية العامة للتنظيم المُدني: عبثية الممارسة ما بين الخطة الشاملة والتصاميم التوجيهية والاستثناءات والقرارات

  في العدد السابق، قمنا بتحليل الإطار التشريعي الراهن للتنظيم المُدني في لبنان، حيث تغيب عملية إعلان الناس وإشراكهم قبل صدور التخطيطات والأنظمة، مما يؤدي إلى تفاقم سلطة «دوائر القرار» المُقتصرة على العلاقات الشخصية والتي تتمحور حول مالكي الأراضي، كما وتمهّد الطّريق لبروز وتفشي المحسوبيّات والزبائنية ١.

أمّا في هذا المقال، فنقارب التنظيم المدني من ناحية الممارسة. فإذا كانت التصاميم التوجيهية والأنظمة التفصيلية هي التي تحدد وجهة استعمال الأرض وشروط البناء على ضوء المصلحة العامة، فما نسبة الأراضي اللبنانية المنظّمة؟ في أي فترات زمنية تم تنظيمها؟ وما كانت العوامل السياسية والقانونية التي ساهمت في إصدار أو عدم إصدار التصاميم التوجيهية لها؟ من ناحية اخرى، هل يتم التقيّد بها كإطار تنظيمي غير قابل للاستثناء، وماذا عن المناطق التي ما زالت غير منظمة؟

للإجابة على هذه الأسئلة، قررنا خوض عملية بحثية مفصلة في أرشيف الجريدة الرسمية، كما في سجلات «مركز الدراسات والبحوث في التنمية والتخطيط» في الجامعة اللبنانية ٢. انطلاقاً من هذه المعلومات والمعطيات، أنتجنا رسومات بيانية وخرائط سمحت لنا أن نستخلص عِبراً وقراءات حول ممارسة الإدارات العامة للتنظيم المُدني.

 

الاستنتاج الأول:  المناطق غير المنظمة تشكل نسبة 85% من الأراضي اللبناني

استناداً إلى قاعدة بيانات شاملة لجميع التصاميم التوجيهية المصدقة بمرسوم والصادرة منذ العام 1954 حتى اليوم، قمنا برسم خريطة (على الصفحة الخلفية) للمناطق في لبنان بحسب مدى تنظيمها، وذلك وفقاً للتبويب التالي: 

١. مناطق صدر بشأنها تصاميم توجيهية وتفصيلية عامة، أيّ لكامل المنطقة الجغرافية المُعرفّة إدارياً. واعتبرنا أنّ هذه الفئة هي التي تشكّل ما يُسمى بالمناطق المنظمة في لبنان. 

٢. مناطق لم يصدر بشأنها سوى تصاميم جزئية، أيّ لقسم منها (إمّا لمنطقة صناعية فيها أو لشاطئها أو لجزء منها).

٣. استثناء عقار (أو مجموعة عقارات) في منطقة من أنظمة التصميم العام أو السماح بزيادة عامل استثمار خلافاً للتصميم التوجيهي أو لقانون البناء.

كما أضفنا إلى هذه الخريطة فئة مهمة تتعلق بالقرارات التي تصدر عن «المجلس الأعلى للتنظيم المدني»، وحصرنا رسمها على الخريطة بالقرارات التي صدرت للمناطق غير المنظمة وذلك للإشكالية التي تفتحها من ناحية التنظيم الاعتباطي. 

نستنتج في هذه الخريطة أنّ نسبة المناطق غير المنظمة اليوم في لبنان تصل إلى 85% من مساحة الأراضي اللبنانية، وهي نسبة عالية جداً. تتوزع المناطق المنظمة (15%) بمعظمها في المدن الرئيسية وضواحيها حيث الانتشار العمراني الكثيف، فيما يتعرّض الجزء الآخر والأكبر من الأراضي اللبنانية الى إهمال اعتباطي، يتمثل بعدد التنظيمات الجزئية (والتي يصل عددها الى 91 منطقة) وكثافة القرارات التي يخضع لها. على سبيل المثال، ترصد الخريطة 353 منطقة غير منظمة في لبنان صدر قرار بشأنها من قبل المجلس الأعلى. يكون هذا القرار مُلزماً عند منح ترخيص البناء خلال ثلاث سنوات، وبعدئذ يصدر مرسوم يصدقه من قبل مجلس الوزراء. في جميع الحالات، نجد أنّ المراسيم لم تصدر خلال المهلة القانونية – مما يؤدي مبدئياً إلى إسقاط القرارات وتجريدها من أي مفعول – إنمّا يستمر عمل بعض الإدارات بهذه القرارات بموجب أعراف مخالفة للقانون٣. وبالتالي، نشهد بشكل ممنهج عملية تنظيمية عبثية ومعاكسة تماماً للمصلحة العامة. ومن شأن هذا الوضع أن يتيح لأصحاب المشاريع بإتمام مشاريعهم في غياب تام لأي ضوابط.

 

 

الاستنتاج الثاني: نشاط في التنظيم ما قبل الحرب الأهلية، ونشاط في الاستثناء ما بعدها

الاطلاع على الجدول الزمني : تنظيم المناطق لاول مرة واستثنائاتها والقرارات الصادرة للمناطق غير المنظمة.

 

بهدف فهم المحطات التاريخية التي تم خلالها تنظيم المناطق (التي تشكل 15% من مساحة لبنان الإجمالية) والعوامل التي رافقتها، رسمنا جدولاً زمنياً للمناطق التي نظّمت بشكل كلّي للمرة الأولى (وفق تصميم عام مصدّق بمرسوم)، وبذلك استبعدنا التصاميم الجزئية إذ اعتبرناها عملاً تنظيمياً غير مكتمل.

الملفت في هذا الجدول التفاوت الهائل ما بين نشاط االمديرية العامة للتنظيم المدنيب في تنظيم المناطق ما قبل الحرب الأهلية وما بعدها. يشير الجدول الى أنّ إجمالي عدد المناطق التي نُظمت خلال الـ 15 سنة ما قبل الحرب (1960-1975) هو 82 منطقة، مقارنة بـ 28 منطقة خلال السنوات الـ 15 التي تلت الحرب. وتشكل سنة 2005 مفصلاً ضمن هذا التحليل، وذلك بسبب صدور قراراً من المجلس الأعلى للمناطق غير المنظمة يحدد أن نسبة البناء المسموح بها هي 25% استثمار سطحي و0.50 استثمار عام، فيما كانت هذه النسبة في السنوات ما بين 1971 و2005 هي 40% 0,80. إذاً بإمكاننا التحليل أنّ انخفاض عامل الاستثمار في المناطق غير المنظمة أعاد وشجع البلديات والمديرية على تنشيط عملية التنظيم. مثلاً، نجد أن خلال الـ 11 سنة التي لحقت هذا القرار (2006-2017) تم تنظيم خمسين منطقة لبنانية لأول مرة.

أما عندما أضفنا قائمة الاستثناءات إلى الجدول الزمني – أيّ المراسيم التي تستثني عقارا من النظام العام أو تسمح بزيادة عامل الاستثمار – رصدنا استثنائين وحيدين صدرا خلال الـ 15 سنة التي سبقت الحرب. أما سنوات 1990-2005، فقد شهدت 33 استثناءً، تلاها 42 استثناء من العام 2006 حتى اليوم. تشير هذه الأرقام الى إخفاق في عملية التشريع يتناقض بشكل كامل مع مفهوم االنظام العامب أو التصميم التوجيهي. وبالرغم عن موقفنا النقدي حيال بعض الأنظمة والتصاميم بحد ذاتها (موضوع سوف نتناوله في الأعداد القادمة)، تقتصر هذه الاستثناءات على طلبات وحاجات مالكي الأراضي المتموّلين والنافذين.

أيضاً، يظهر على الجدول الزمني تاريخ مفصلي آخر، ألا وهو صدور الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية في العام 2009. قامت الخطة الشاملة على مجموعة من الأهداف والقيَم، أهمّها الإنماء المتوازن للمناطق، ترشيد استغلال الموارد الطبيعية (لا سيّما المياه)، خفض مصاريف الدولة، تحسين الإنتاجية الاقتصادية، الإنعاش الاجتماعي، والمحافظة على البيئة. على الوزارات والإدارات والبلديات أن تلتزم بتوجيهات الخطة الشاملة في كل شأن من عملها له علاقة بتنظيم الأراضي وعمليات البناء. ويحدد المرسوم 2366 في المادة العاشرة منه المتعلقة بكيفية تطبيق الخطة، أن على رئيس المجلس الأعلى للتنظيم المدني تشكيل لجنة اتكون مهمتها متابعة تنفيذ الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية وتطويرهاب، الأمر الذي لم يجرِ أبداً. وتقع مسؤولية هذا الإخفاق بالأخص على الرئيس الحالي للمجلس الأعلى الياس الطويل الذي استلم مركزه في العام 2010 وما زال حتى اليوم.

بل ما جرى هو معاكس لذلك. فمنذ صدور الخطة الشاملة، تم تصديق 42  تصميماً توجيهياً وتفصيلياً، وتم تعديل 69، ولم تذكر سوى 5 منها الخطة الشاملة. أمّا باقي المراسيم فلم تستخدم حتى مفردات الخطة الشاملة، مثل الحديث عن شبكة المساحات طبيعية، ثروات طبيعية، مناطق زراعية ذات أهمية وطنية، مناطق معرضة لخطر تلوث المياه الجوفية، أو غيرها.

اليوم، تجاهُل المديرية العامة للخطة الشاملة بشكل فاضح، وكسلها في تنظيم المناطق، ونشاطها في إصدار الاستثناءات والقرارات العبثية لا ينتج سوى تكرار وتفاقم لأوجه عدم المساواة، فضلاً عن الحفاظ على هيمنة قلة من النافذين على الأراضي اللبنانية.

  المدراء العامون للتنظيم المدني
المدراء العامون للمديرية العامة للتنظيم المدني هم من الفئة الأولى من موظفي الدولة، مما يعني أنهم يحتاجون تصويت ثلثي مجلس الوزراء لكي يتم تعيينهم. وهناك نوعين من التعيين: أصالة (تستمر مدى الحياة) ووكالة (مدّتها سنة واحدة).
الأصالة تعني حصانة. فمثلاً، خلال عهد الرئيس لحّود، تم تعيين جوزيف عبد الأحد بالأصالة. استمر  عهده حوالي 7 سنوات، استطاع خلالها التصدّي لضغوطات – ثم تقاعد عام ٢٠٠٥ في ظلّ انقسام سياسي حاد. طرح حينها وزير الأشغال محمد الصفدي اسم برج هتجيان، وتمّت الموافقة عليه من قبل فريقي ٨ و١٤ آذار، فتمّ تعيينه رئيساً للمجلس الأعلى بالوكالة لمدّة سنة. عندما رفض برج التجديد، عيّن الصفدي فادي النمر بالتكليف، ممّا يعني أنه لم يتم الرجوع إلى مجلس الوزراء كما تنص القوانين.
عام ٢٠١٠، في عهد غازي العريضي كوزير الأشغال، أُبعد النمّار وعيّن مكانه بالأصالة الياس الطويل، الذي كان سابقاً مسؤول دائرة التنظيم في الشوف، بالتكليف.

الاستنتاج الثالث:  فراغ تشريعي يتفاقم منذ العام ٢٠٠٤

كريم نمّور    يخضع تشييد الأبنية على اختلاف أنواعها للحصول على رخصة مسبقة، وهنا يميز قانون البناء بين حالتين وفق ما إذا ما كانت المنطقة المعنية منظمة أو غير منظمة. في المناطق المنظمة تكون رخصة البناء مشروطة باحترام عوامل الاستثمار المحددة في التصاميم التوجيهية والتفصيلية الصادرة للمنطقة. أما إذا تعلقت رخصة البناء بمنطقة غير منظمة، فقد نصت المادة الرابعة من قانون البناء أنه تُحدد بموافقة المجلس الأعلى للتنظيم المدني شروط البناء على العقار المعني، دون أن تتجاوز هذه الشروط تلك المعمول بها بموجب أحكام المادة 17 من قانون البناء بالنسبة لعامل الاستثمار العام. هذا يعني عملياً أن المجلس الأعلى يصدر قراراً يحدد فيه الشروط المذكورة للمنطقة المعنية وضمن السقف القانوني. وبالتالي تصبح تلك الدراسات التنظيمية وشروط البناء مُلزمة للسلطة المُكلفة بمنح تراخيص البناء، وذلك في كل ما لا يتجاوز شروط الأنظمة المصدقة، على أن يصدر مرسوم تنظيمي فيها خلال مهلة ثلاث سنوات من تاريخ صدور قرار المجلس الأعلى، وفق ما نصت عليه المادة 13 من قانون البناء.

ومن هذا المنطلق، تتفرع إشكاليتان: الأولى، ماذا إذا لم يكن هنالك أنظمة مصدقة لضبط قرار المجلس الأعلى، كما هي حال المناطق غير المنظمة؟ والثانية، ماذا لو لم يصدر مرسوم تنظيمي خلال ثلاث سنوات من إصدار قرار المجلس؟ وهذا ما سوف نتطرق إليه تفصيلياً أدناه في عرض الإجراءات المعمول بها حالياً لدى الإدارة العامة في هذا الإطار.

الإجراءات المعمول بها حالياً لدى الإدارة العامة: قرارت المجلس الأعلى ومدى قانونيتها: فلنشر بداية، وباختصار، إلى حالة منطقة منظمة بموجب نظام مصدق بمرسوم. ففي حال صدر قرار بشأن تلك المنطقة من قبل المجلس الأعلى، تشدد أكثر من النظام المصدق بمرسوم، يُشار الى المنطقة المعنية بـامنطقة ملحوظةب (وفق رطانة المجال) ويكون هذا القرار مُلزماً للسلطة المُكلفة بمنح ترخيص البناء٤. ومن هنا، إما يصدر مرسوم يصدق االنظام الملحوظب خلال مهلة ثلاث سنوات فتصبح المنطقة المعنية االمنطقة المصدقةب، وإما لا يصدر مثل هذا المرسوم، فيسقط وفق القانون قرار المجلس الأعلى ويُعاد تطبيق النظام الأساسي المصدق بمرسوم والمذكور في بداية هذه الفقرة. الأمور تصبح أكثر تعقيداً بالنسبة للمناطق غير المنظمة:

ففي حال لم يصدر أي قرار عن المجلس الأعلى بشأنها، نصبح أمام وضع من اثنين وفق بعض موظفي الإدارة العامة العاملين في المجال:

– الأول، يتم العمل بالسقف المحدد في المادة 17 من قانون البناء وفق المادة 4 من القانون نفسه. إلا أنه وفي حين كانت تلك المادة تحدد معدل الاستثمار السطحي الأقصى بنسبة 40% وعامل الإستثمار العام الأقصى ب ـ0.80 (قانون سنة 1983)، جاء المشرع في سنة 2004 ٥ ليعدلها بالنسبة للمناطق اغير المنظمةب مجرداً إياها من أي ضوابط قانونية. فبموجب هذا التعديل، وبانتظار تنظيمها، أخضع القانون هذه المناطق الأنظمة بناء وفقاً لطبيعتها […] تحدد بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بعد موافقة المجلس الأعلى للتنظيم المدنيب. وعليه، وطالما لم يصدر أي مرسوم إلى حينه، فإن هذه القراءة تقودنا إلى تحرير الإدارة من أي ضوابط في هذا الخصوص.

الثاني، يتم العمل بقرار المجلس الأعلى الصادر سنة 2005٦ والخاص بنظام البناء والفرز والإستثمار في المناطق غير المنظمة، حيث حدّد أن معدل الإستثمار السطحي الأقصى قدره 25% وعامل الإستثمار العام الأقصى قدره 0.50. وهذا هو بالفعل موقف الإدارة العامة المختصة التي تواصل العمل به رغم انقضاء ثلاث سنوات، تجنباً للفراغ تشريعي. وهو حلّ مشكوك بقانونيته على ضوء المادة 13 من قانون البناء التي تعتبر القرارات المماثلة بحكم الساقطة قانوناً في حال عدم تصديقها بمرسوم ضمن المهلة تلك، كما سبق بيانه.

وفي ظل الجمود التشريعي في هذا الإطار، من البديهي إعادة التفكير بكيفية توجيه عمليات البناء في المناطق غير المنظمة بأسرع وقت ممكن والى حين صدور مراسيم في مجلس الوزراء، تجنباً لحالات الفراغ التشريعي.   

 

نشر في العدد 53 من مجلة المفكرة القانونية، للاطلاع على العدد انقر/ي هنا “الإعلام والقضاء وحروب النرجسيات المهنية”

١  راجعوا المقال «الإطار التشريعي للتنظيم المدني: منعرف التاجر شو بده، البنك شو بده، البلدية شو بدها، بس ولا مرة حدا سأل الناس شو بدها!»، المفكرة القانونية، العدد 52، كانون أول 2017

٢  راجعوا دراسة أجراها كل من جهاد فرح وخالد غوش وفيكان أشكاريان، «العمران والتخطيط والحوكمة على المستوى المناطقي»، أطلس لبنان، 2015. فيها، نشروا خريطة وجدول اعتماداً على قاعدة بيانات متوفرة في مركز CEDRA في الجامعة اللبنانية Centre d’étude et de Recherche en Développement et Aménagement. ستجدون اختلافاً في نتائج دراستهم والدراسة التي نحن في صدد نشرها هنا، وذلك لأسباب تتعلق باختلاف في منهجية تحليل البيانات. 

٣ استناداً الى مقابلة أجريناها مع أحد أعضاء المجلس الأعلى للتنظيم المُدني.

٤ وفق أحكام المادة 13 من قانون البناء.

٥  القانون رقم 646 المذكور أعلاه.

٦  القرار رقم 7 الصادر بتاريخ 23/2/2005.

المزيد على الروابط ادناه

قراءة المزيد عن موضوع العمران والقانون في لبنان

قراءة المزيد عن الإطار التشريعي للتنظيم المدني في لبنان  

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، بيئة وتنظيم مدني وسكن



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني