دراسة معايرة مشروع الدستور: حجر في بركة ماء راكدة


2018-02-22    |   

دراسة معايرة مشروع الدستور: حجر في بركة ماء راكدة

حين أعلنت الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور في 29 يوليو 2017 عن توصلها إلى مشروع، بعث ذلك اهتماما بالدستور بعدما كان الكثير من المراقبين قد خاله انتهى. لقد مضى على انتخاب الهيئة أكثر من ثلاث سنوات، تجاوزت فيها آجالاً متعددة لإنهاء مهمتها، وفشلت مراراً في إيجاد توافق بين أعضائها حول مسودة واحدة، ووصل الخلاف بين هؤلاء إلى ساحات القضاء، وكان من تجلياته أيضاً مقاطعة بعض الأعضاء للهيئة. لقد كان الإعلان عن المشروع مفاجئاً للعديدين إذن. لكن العديدون أيضاً لم يرضهم هذا المشروع، وضمنهم أعضاء في الهيئة ذاتها. فمن أصل 58 عضواً، حضر جلسة التصويت 44 فقط، ورفض واحد من هؤلاء المشروع. كان من الرافضين أعضاء من شرق البلاد رأوا فيه تكريساً لمركزية مقيتة، واستمراراً لتهميش “برقة” وعاصمتها بنغازي، وممثلي أقلية التبو، الذين رأوا المشروع نتاج استحواذ الأغلبية العربية على الهيئة، وهيمنتها على تنظيم أعمالها وآلية إصدار قراراتها. فئة أخرى عابت على المشروع تضمنه مخالفات للشريعة الإسلامية في حين انتقدت فئة ثالثة المشروع لتكريسه مشروع دولة دينية.

 لم يكتف بعض المعارضين بالتعبير عن سخطهم في وسائل الإعلام المختلفة، بل لجأوا إلى ساحات القضاء يتحدون قرار الهيئة باعتماده. استجابت لهم محكمة استئناف البيضاء فحكمت في 16 أغسطس 2018 على نحو عاجل بوقف تنفيذ القرار، وجمدت عملياً، من ثم، المسار الدستوري. وقد تم الطعن فيما بعد على هذا الحكم أمام المحكمة العليا، على أساس أن الهيئة سلطة تأسيسية ليس للقضاء الإداري ولاية النظر في أعمالها. وكانت محكمة جنوب بنغازي الابتدائية قد استندت في حكمها الصادر بتاريخ 7 يناير 2018 إلى هذا التأصيل في الحكم بعدم ولايتها على دعوى أقيمت تحت رقم 877/2017 ضد الهيئة التأسيسية. وفقاً لما أوردته المحكمة: فإن “الهيئة التأسيسية ككيان أنشئ تنفيذاً لأحكام الإعلان الدستوري … هيئة يناط بها التأسيس لسلطات الدولة وهياكلها بإعداد مشروع الدستور وطرحه للاستفتاء، وأعضاء هذه الهيئة منتخبون من الشعب بشكل مباشر وبهذا التوصيف تخرج قراراتها عن ولاية القضاء …”.

بالطبع للجدل القضائي حول الهيئة ومشروعها أهمية كبرى. ففي حال خلص القضاء إلى رفض الطعون ضد قرار اعتماد مشروع الدستور، سيحرك هذا من جديد العملية الدستورية، وهذا يتضمن اخضاع المشروع للاستفتاء، وصيرورته، إذ وافق عليه ثلثا المصوتين، دستوراً دائماً للبلاد ينهي المرحلة الانتقالية، وتنظم وفقاً له انتخابات تشريعية ورئاسية. ولكن هناك شكوك جدية حول إمكانية رفض القضاء هذه الطعون عززها حكم محكمة استئناف البيضاء في 15 يناير 2018 بإلغاء قرار الهيئة. ليس هذا فقط. هناك شكوك، جدية هي الأخرى، حول مدى نجاح المشروع في حيازة موافقة أغلبية ثلثي المصوتين، إذا افترضنا وصوله إلى هذه المرحلة. هذه الشكوك الأخيرة يعززها الاستقبال السلبي، إلى حد كبير، الذي لاقاه مشروع الدستور حين الإعلان عنه. وهو استقبال لم يبن على تقويم موضوعي للمشروع بقدر ما بني على تصورات أسهمت في تشكيلها هجمات المناهضين للمشروع عليه.

من هنا، تأتي أهمية دراسة نشرها حديثاً مركز دراسات القانون والمجتمع بجامعة بنغازي حول مشروع الدستور. تهدف الدراسة إلى تقويم هذا المشروع وفقاً لمعايير موضوعية، وتوعية المخاطبين بأحكامه توطئة لاتخاذهم مواقف وجيهة منه، والإسهام في تحديد أي تعديلات يلزم إدخالها عليه في حال رفضه. وهذه الأهمية تستمدها الدراسة من تكوين الفريق البحثي الذي أجراها، والمنهجية التي اتبعها هذا الفريق في عمله. تشكل الفريق من نجيب الحصادي، أستاذ الفلسفة، وزاهي المغيربي، أستاذ العلوم السياسية، وجازية شعيتير، المتخصصة في القانون الجنائي، وهالة الأطرش، المتخصصة في القانون الدولي وحقوق الانسان، وهم جميعاً من أكاديمي جامعة بنغازي، وعرف عنهم الانخراط في الشأن العام. وقد أسهمت معهم، وأنا أيضاً من منتسبي كلية القانون في ذات الجامعة، بمراجعة مسودة أولية للدراسة. وقد نظم الفريق لقاءات متعددة بخبراء وطنيين وأجانب لنقاش مسودات أولية للدراسة في بنغازي وطرابلس والبيضاء وطبرق وتونس. وقد استند الفريق في عملية التقويم إلى أربعة معايير. أولها هو المشترك الإنساني، ووفقاً له يحدد مدى اتفاق وتباين مواقف المشروع من المسائل المختلفة مع المواقف المتخذة في أغلب دساتير العالم. ولأنه قد تكون هناك مسوغات للنأي عن هذه المواقف، مثل الخصوصيات الثقافية التي تميز المجتمع، والاستحقاقات التي تفرضها المرحلة الانتقالية التي يفترض أن يشكل صدور الدستور نهاية لها، فقد اتخذت الدراسة من الخصوصية الثقافية والظرف الانتقالي معايير أخرى في تقويم المشروع. وأضاف فريق البحث معياراً رابعاً هو مدى دقة الصياغة.

انتهت الدراسة إلى تقويم معظم مواد المشروع تقويما إيجابياً (61.42٪)، ولكن، وهذا ما حرصت الدراسة على تأكيده، لا ينبغي فهم هذا على أنه نجاح للمشروع ككل. تفسير هذا أن المواد التي حازت التقويم الايجابي لم تثر جدلاً مجتمعياً، ولم تتخذ بصددها مواقف استقطابية خارج الهيئة وداخلها. أما تلك التي أثارت هذا الجدل (14.21٪) لتعلقها، على سبيل المثال، بهوية الدولة، ودور الدين فيها، ونظامها السياسي، وقسمة السلطات بين المستويين الوطني والمحلي، فقد أخفقت الهيئة في معالجتها، ونالت مواد المشروع المتعلقة بها تقويماً متدنياً.

تفاوتت ردود الفعل بشأن الدراسة. ففي حين عاب عليها معارضو مشروع الدستور ما رأوه ثناءً عليه، وتجاوزاً عن عيوبه، ودعاية له، انتقد بعض مؤيدي المشروع من أعضاء الهيئة الدراسة ما رأوه فيها من انتقائية في معايير التقويم، وانطلاق من مقدمات غير صحيحة، وتجاهل للمنهج المقارن رغم زعمها أنه أحد معايير التقويم. فريق ثالث رأى في الدراسة خطوة هامة في تقويم المشروع تقويماً موضوعياً.

ومن وجهة نظري، فإن الدراسة كانت ناجحة إلى حد بعيد لأسباب لا تتعلق لزاماً بمدى صحة تقويمها لمشروع الدستور. فهي أولا دراسة علمية في بلد يسوده استقطاب حاد يدفع إلى اتخاذ مواقف مبنية على تصورات وتعميمات مسبقة دون بحث كافٍ. وهي ثانياً بحث في قضية أساسية رعاه مركز جامعي في بلد يشكو من هوة بين مؤسساته البحثية وحاجات المجتمع. وهي ثالثاً بحث يدرك الأبعاد المختلفة لعملية صناعة الدستور، وأنها ليست عملاً قانونياً صرفاً، ولذا ينبغي أن تتضافر في تقويمها تخصصات متعددة: قانون وفلسفة وعلوم سياسية. ولعل الأهمية العلمية لبعض أعضاء الفريق البحثي في تخصصاتهم (الحصادي والمغيربي) أسهم في الاهتمام الذي جنته الدراسة، والذي انعكس اهتماماً بمشروع الدستور وبالنتيجة نجاحا.

نشر في العدد 10 من مجلة المفكرة القانونية في تونس

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، دستور وانتخابات ، ليبيا ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني