هيئة الحقيقة والكرامة: قراءة في بيان المصالحة


2017-11-29    |   

هيئة الحقيقة والكرامة: قراءة في بيان المصالحة

في نهاية الشهر التاسع من سنة 2017، أعلن أربعة من أعضاء مجلس هيئة الحقيقة والكرامة تمردهم على رئيستها سهام بن سدرين التي اتهموها بالتفرد بالرأي والتلاعب في توزيع العمل باللجان . فردت على تحركهم بأن اتهمت زعيمة التمرد بالتآمر على مسار العدالة الانتقالية ولوحت بطردها من الهيئة كما طردت من سبقها لذات الفعل. فاجأ المعارضون رئيستهم بوحدتهم التي عجزت عن اختراقها وأنهكوا جهدها بعد أن سربوا وثائق لناشطين سياسيين ولإعلاميين ترجح[1] ما يدعون من سوء تصرف مالي[2] وإداري[3] ينسب لها وللمقربين منها. ردّت الرئيسة الهجوم بذات الأسلوب كاشفة أن هدف التمرد هو تعطيل جلسة الاستماع العلنية المخصصة لسماع أحداث الرش بسليانة خدمة لمصالح حزب حركة النهضة، الذي يخشى أن تدين السماعات قياداته التي كانت في السلطة حينها[4]. وادّعت أن الوثائق المسربة اجتثت من سياقها. بدت موازين القوى بين الشقين متكافئة، وكان ينتظر أن تؤدي لانهيار داخلي لهيئة نجحت في التصدي لكل محاولات استهدافها من الخارج من معارضي عملها.

خلافا لكل التوقعات، انتهت الأزمة ببيان صدر عن مجلس الهيئة بتاريخ 17-10-2017 أعلن نهاية خاطفة للحرب المدمرة، بعدما أكد  تجاوز أعضاء الهيئة لما أسموه “اختلاف وجهات النظر” وتوافقهم على “دفع كل التهم الموجهة للهيئة ورئيستها”. ووعد موقعو البيان بمواصلة عمل الهيئة إلى حين تحقيق كل أهدافها طبق القانون والدستور. ومن المشروع تاليا التساؤل حول صلابة الصلح الذي تم من جهة وحول قدرة هيئة منهكة على النجاح في تجاوز الصعاب التي ستعترضها.

صلح لا يكشف الحقيقة

قام مسار العدالة الانتقالية وفق تصوره التونسي على شعارات ثلاثة متلازمة هي: كشف الحقيقة فالمحاسبة فالمصالحة. ووفقا لمبادئه تلك، تصدّى مؤيدوه وفي مقدمتهم أعضاء هيئة الحقيقة والكرامة لكل الأطروحات التي تدعو للمصالحة خارج نطاقه بدعوى أنها لا تحقق شرطي كشف الحقيقة والمحاسبة. اختار في مقابل هذه الشعارات أعضاء الهيئة -كما يؤكد بيانهم ذلك- أن يعالجوا اتهامات “تضارب المصالح” و”سوء الإدارة” و”الاستبداد” و”إهدار المال العام”، التي واجهوا بها بعضهم البعض بمصالحة شرطها الوحيد التوافق على تبييض صورتهم لدى الرأي العام دون كشف الحقيقة وبمنأى عن أي محاسبة.

زبائنية الضحايا

التزمت الأحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني التي كانت تصنف عادة في خانة أنصار مسار العدالة الانتقالية الصمت حيال الأزمة. وقد يكون هذا الصمت نابعا عن الخلفيات الحزبية لتلك الأزمة أو تعاظم شبهات الفساد وسوء الإدارة داخل الهيئة. في المقابل، انتفضت جمعيات ضحايا الانتهاكات دفاعا عن الهيئة دون إيلاء أي اعتبار لموقف الأحزاب الذي ينتمي إليها ناشطوها. ويبدو أن تدخل تلك الجمعيات على مسار الأزمة كان له دور فاعل في إيجاد توافق بين أطرافها بداية وفي جعل الهيئة تظن تاليا أن الضحايا يظلون بحكم حاجتهم أوفياء لها بما يمكنها من معاودة حشدهم كمؤيدين لها خلافا للحلفاء السابقين من السياسيين الذين قد تكون اشتراطاتهم أكبر.

انطلاقا من ذلك، بدا منطقيا أن تختار الهيئة أن يكون الحيّز الأكبر من بيان المصالحة مخصصا لإعلام ضحايا الحقبة الاستبدادية بكون “التعويض ورد الاعتبار” يظلان أولوية عملها وأنها تنتظر صدور الأمر الحكومي المحدث لصندوق الكرامة لتعلن البرنامج الشامل في الغرض “الذي تظل الجهة الوحيدة المخولة لإعداده”. ويؤشر هذا الخطاب الموجه إلى أن ملف التعويضات ورد الاعتبار سيكونان عنوان حملة الهيئة الدعائية التي تهدف لإصلاح صورتها وأن استعادة ثقة ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان سيكون هدفها. فرضت الدعاية تاليا أن تقدم  الهيئة وعودا للضحايا في عدالة مكتملة الشروط والأركان، مع التعتيم التام على الصعوبات التي تعترضها.

تعهد النجاح: العزم لا يكفي

تعهدت الهيئة في بيانها “بمواصلة عملها وتحقيق جميع أهدافها بإنجاز المصالحة الوطنية بعد كشف الحقيقة وإصلاح المؤسسات وجبر الضرر ورد الاعتبار”. وانتهت إلى القول بكون مسار العدالة الانتقالية “رغم الصعوبات والعراقيل… يتقدم بثبات لإتمام المهام وتحقيق الأهداف في الآجال القانونية”. وفيما كانت بيانات إعلامية وتصريحات صحفية تصدر من حين إلى آخر عن الهيئة تؤكد تقدمها  في معالجة الستين  ألف ملف الذي تعهدت بنظرها، فإن ثمة مخاوف جدية بشأن مدى قدرتها على إنجاز أعمالها ضمن المهل المحددة في قانون العدالة الانتقالية (المادة 18).

ففيما يتعلق بالمصالحة والتحكيم، ظل خلافا لما تروج له الهيئة هذا الملف يراوح مكانه لسببين خارجين عن نطاقها: أولهما عدم تعاون مؤسسة المكلف العام بنزاعات الدولة مع مطالب الصلح حال أنه الطرف المعني بأغلبها وثانيهما عدم تقديم عديد المعنيين ممن تقدموا بملفات مصالحة ما طلب منهم من وثائق لإتمام ملفاتهم.

وفيما يتعلق بالمحاسبة، كان نائب رئيسة الهيئة محمد بن سالم التزم في تصريح لوكالة تونس أفريقيا بتاريخ 01-02-2016 بإحالة ملفات انتهاكات لحقوق الانسان للهيئات القضائية المتخصصة في العدالة الانتقالية مع بداية الشهر الرابع من ذات السنة[5]. كما كان ينتظر أن تتولى الهيئة سحب ملفات شهداء وجرحى الثورة من القضاء العسكري وإحالتها لذات الدوائر. إلا أنها لم  تلتزم بالمواعيد التي حددتها كما اختارت أن تصمت كلما تمت مطالبتها بممارسة صلاحية سحب قضايا. وينتظر ألا تنجح مستقبلا في إنجاح تعهدها الجديد بإتمام المحاسبة قبل نهاية ولايتها لكون تفعيل الهيئات القضائية المتخصصة يثير إشكاليات دستورية تسعى الهيئة للتعتيم عليها. فالقانون الأساسي للعدالة الانتقالية نص على كون تلك الهيئات ذات درجة واحدة وهو أمر يخالف أحكام الدستور التونسي الذي يعد الحق في الاستئناف من شروط المحاكمة العادلة[6].

فيما تعلق بتشخيص الفساد، يحمّل قانون العدالة الانتقالية الهيئة مسؤولية صياغة تصور استراتيجي يضبط التوصيات والاقتراحات المتعلقة بالإصلاحات السياسية والإدارية والاقتصادية والأمنية والقضائية والإعلامية والتربوية والثقافية وغربلة الإدارة وغيرها من التوصيات والاقتراحات التي تراها لتجنب العودة إلى القمع والاستبداد وانتهاك حقوق الإنسان وسوء التصرف في المال العام. وكانت رئيسة الهيئة قد تعهدت عند بداية عملها بأن تخصص سنة كاملة من عمل مجلسها وخبرائه لهذا العمل الكبير. وإن كان من شبه المؤكد أن تنجح الهيئة في خاتمة عملها في تقديم التقرير المطلوب منها، فإن السؤال سيطرح حتما حول قيمة توصيات إصلاح ديموقراطي يصدر عن هيئة حكم عملها التخويف والترهيب[7] وتحكم فيها فرد واحد حسبما يُشيّع أعضاؤها أنفسهم. ويبدو عند هذا الحد عمل هيئة الحقيقة والكرامة وبقطع النظر عن جديته ضحية لسوء إدارتها التي أفقدته كثيرا من قيمته وهو أمر يؤمل أن يتم تجاوزه فيما تبقى من عمل الهيئة.

نشر هذا المقال في العدد 9 من مجلة المفكرة القانونية في تونس.

 


[1]  تعد الوثائق التي نشرها الناشط السياسي ياسين العياري بتاريخ 09-09-2017 بموقعه تحت عنوان “أين الحقيقة في هيئة الحقيقة .. لنتحدث عن هيئة الحقيقة” والتي يرجح أنها سربت في إطار النزاع من أهم ما نشر في المجال وقد تناقلها الإعلام التونسي.
[2] ذكر ياسين العياري في مقاله الاستقصائي أنه اتصل بسهام بن سدرين وبسؤالها عن لجنة الانتدابات بهيئة الحقيقة وما ذكر من وقائع فساد في شأنها. “أعلمتنه أن “الآخرين” دون تخصيص، يريدون لجنة الانتدابات، باش يحطوا جماعتهم، و يعطوهم الشهريات والكراهب” ( يعني الأجور والامتياز العيني المتمثل في السيارة الوظيفية) وأضاف “نفس الإتهام وجهه بعض أعضاء المجلس لسهام بن سدرين”.
[3] يراجع مقال عضو بهيئة الحقيقة والكرامة ل”الصباح نيوز”: سهام بن سدرين غيرت الإطار المشرف على الضحايا من أجل تغيير تصريحاتهم لحماية بعض أصدقائها، نشر بموقع الصباح نيوز بتاريخ 20-09-2017 – لصباح الشابي والذي قال فيه عضو هيئة الحقيقة صلاح الدين راشد  “أنه يتهم سهام بن سدرين مباشرة بأنها هي من تريد التأثير على أعمال الهيئة وهناك حجج ثابتة حسب قوله آخرها تعمدها أمس تغيير الإطار المشرف على الضحايا من أجل تغيير تصريحاتهم والتأثير عليهم، وحماية بعض أصدقائها من منظومة القمع والبوليس السياسي وعديد المؤسسات.  وأكد أن ليس لديهم أية غاية ما عدا حقوق المواطنين والضحايا وجدد محدثنا اتهامه لسهام بن سدرين بأنها هي من تريد أن تؤثر على ملفات الضحايا وعلى سيرها ومعالجتها بما يضرب مصداقية الهيئة وأعمالها”. كما ورد فيه قوله: “أنهم سيرفعون شكاية ضد بن سدرين الى المفوّض السّامي لحقوق الإنسان بخصوص الإنتهاكات التي تقوم بها ضد العاملين بالهيئة بما في ذلك هرسلتهم والضغط عليهم وجعلهم يعيشون تحت الرعب والترهيب “.
[4]ذكر ياسين العياري في مقاله في المرجع السابق لما تحدثت مع السيدة سهام، أخبرتني أن “الأخرين” نهضاويون، يريدون الانقلاب عليها لأنها تريد جلسة علنية حول الرش في سليانة إبان حكم النهضة”.
[5] إحالة ملفات العدالة الانتقالية على القضاء في أفريل القادم   – صحيفة الشروق -01-02-2016
[6] -محمد العفيف الجعيدي – الدوائر المتخصصة للعدالة الانتقالية: تخصص باهت لمحاكم استثنائة متخفية– موقع المفكرة القانونية 25-08-2014
[7] ادعت ابتهال عبد اللطيف عضو هيئة الحقيقة والكرامة أنها تعرضت لتهديدات بالعنف من أحد المقربين من رئيسة الهيئة، يراجع تصريحها للصباح نيوز في المرجع السابق.

انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكمة عادلة وتعذيب ، مقالات ، تونس ، عدالة انتقالية ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني