بداية تواصلية لرئاسة النيابة العامة في المغرب: أي آفاق للاستقلال؟


2017-11-07    |   

بداية تواصلية لرئاسة النيابة العامة في المغرب: أي آفاق للاستقلال؟

النيابة العامة في المغرب كانت تابعة للسلطة التنفيذية منذ استقلال المغرب عن فرنسا واسبانيا سنة 1956 إلى تاريخ 07-10-2017 وهو التاريخ الذي انتهت فيه الفترة الانتقالية التي حددها القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة [1] ،وتم نقل السلطة فيه فعليا  بين وزير العدل والوكيل العام لمحكمة النقض المغربية باعتباره رئيسا جديدا للنيابة العامة .

وقد سبق القانون المذكور جدلٌ ثار عقب دستور 2011 في الأوساط السياسية والحقوقية والمهنية حول الجهة التي يجب أن تتبع لها النيابة العامة. هل تبقى خاضعة للسلطة التنفيذية باعتبار أن الدستور المغربي الجديد لم يحسم بنص واضح في وضعها  أم يجب أن تتبع  للسلطة القضائية تبعا للوضع الجديد الذي أضحت عليه هذه الاخيرة؟ [2] الآن، وقد تمّ حسم هذا النقاش وانتقلت سلطة رئاسة النيابة العامة بشكل فعلي إلى السلطة القضائية في المغرب ، نتساءل عن آفاق هذا الاستقلال، من خلال رصد الإمكانات التي وضعت تحت تصرف المؤسسة الجديدة أولا، ثم عن الدور الذي من المكن أن تقوم به النيابة العامة في المشهد القضائي والحقوقي بالمغرب ثانيا؟

الإمكانات المواكبة لاستقلالية النيابة العامة:

منذ أن تم الحسم في استقلالية النيابية العامة سنة 2016 بمقتضى القانون التنظيمي المشار اليه أعلاه، طفت إلى السطح تخوّفات تتعلق بالإمكانات المادية والبشرية التي سوف تشتغل بها النيابة العامة  لكون النيابة العامة الجديدة لم ترث أي شيء عن وزارة العدل، وكان التحدي الأبرز في هذا المجال هو عدم توفر الإطار القانوني المهيكل لعملها الإداري والمالي. ولمعالجة هذا التحدي، قدّم وزير العدل والحريات السابق مصطفى الرميد اقتراح حل بتخصيص مادة في مشروع قانون التنظيم القضائي تحيل على صدور مرسوم حكومي ينظم عمل النيابة العامة الهيكلي والمالي[3]، إلا ان هذا القانون الذي كان من المتوقع أن يصدر قبل الانتخابات البرلمانية ليوم 07-10-2016 تعثر بالغرفة الثانية بعد المصادقة عليه في الغرفة الاولى للبرلمان المغربي ولم ير النور إلى الآن .

وقد شكل هذا التعثر في صدور قانون التنظيم القضائي الجديد والفراغ الذي واجهته النيابة العامة الجديدة ، حافزاً أمام التخلي  عن فكرة المرسوم الحكومي واستبداله  بسنّ قانون خاص بتنظيم النيابة العامة إداريا وماليا، بحيث تمّ اخراج هذا القانون بشكل مفاجئ وتمت المصادقة عليه من طرف البرلمان في وقت وجيز جدا ولم يحظ بنقاش عام كبير  على خلاف الجاري به العمل في المغرب[4].

كما تم بناء على تعليمات شخصية من الملك في المجلس الوزاري الذي يرأسه[5] توفير  مقر كبير  ملائم في أحد أرقى أحياء العاصمة الرباط، وهو أفضل بكثير حتى من مقر المجلس الأعلى للسلطة القضائية غير المناسب للمجلس بحسب بيان صادر عن أربع جمعيات مهنية للقضاة بالمغرب[6]. كما تم توفير العنصر البشري من خلال إلحاق عدد من الموظفين والقضاة الذين كانوا يعملون بإدارة الشؤون الجنائية والعفو بوزارة العدل وكذا من المحاكم وتم تخصيص ميزانية خاصة بالنيابة العامة وأعطيت للوكيل العام صفة الآمر بالصرف[7] حتى يتمكن من تلبية الحاجيات التي تخص مؤسسته دون حاجة لأن يطلبها من أي جهة أخرى  تحقيقا لاستقلاليته التامة.

الدور القضائي والحقوقي المنتظر من النيابة العامة في حلتها الجديدة:

يتبن مما سبق ذكره أعلاه أنه كانت هناك إرادة لتجاوز كافة الصعوبات القانونية والمادية التي واجهت النيابة العامة  المستقلة حديثا عن وزارة العدل. كما أن الإعلان عن هذا الاستقلال أخذ طابعا غير مسبوق بحيث تم تنظيم حفل كبير لتسليم السلط يوم 06-10-2017 بين وزير العدل ورئيس النيابة العامة الجديد بحضور أعضاء الحكومة وأعضاء من البرلمان ورؤساء مؤسسات دستورية وتغطية إعلامية كبيرة وفعاليات حقوقية ومهنية وألقى رئيس النيابة العامة خطابا مطولا عبارة عن خطة عمل أشار فيه إلى أن النيابة العامة في حلتها الجديدة لن تكون في يد أي جهة بل فقط في يد القانون وحده. وقد بدأت رئاسة النيابة العامة الجديدة اشتغالها بشكل مختلف تماما عن منطق اشتغال المسؤولين القضائيين بالمغرب، بحيث يقوم رئيسها حاليا بالتواصل مع الإعلام ويحاضر في أكبر الجامعات المغربية بتغطية إعلامية كبيرة حول فوائد استقلال السلطة القضائية ومنه استقلال النيابة العامة. كما أجرى عدة حوارات صحفية وهي خطوات يبدو أن الهدف منها هو  طمأنة الاتجاه الذي أعلن عن تخوفه من خطوة استقلال النيابة العامة واعتبرها خطوة نحو المجهول[8] ، كما تم إصدار مجلة ورقية خاصة تصدر عنها  تحت تسمية "منبر النيابة العامة".

وإذا كانت هذه البداية التواصلية مهمة، إلا أن الرأي العام المغربي سيحكم على النيابة العامة في شكلها المستقل والتابع للسلطة القضائية من خلال عملها وتعاطيها مع مجموعة من الملفات التي من المؤكد أنها سوف تعرض عليها وكذا طريقة تدبير  قراراتها وعلاقة السلطة الرئاسية لها مع أعضاء النيابة العامة بمختلف المحاكم. إذ من المؤكد جدا أنها ستتعامل مع قضايا تتعلق بالحقوق الفردية والشخصية  والحقوق الجماعية ومن ثم سوف يحكم الرأي العام على طريقة تعاطيها مع هذه المواضيع وكيف طبقت القانون فيها والمرجعيات التي استندت عليها وكذا سلطة الملاءمة التي تملكها. كما سوف تتعامل مع قضايا الفساد المالي والإداري بكل تأكيد، لأن المجتمع المغربي شأنه بذلك شأن أي مجتمع آخر لا بد وأن يعرف مثل هذه القضايا. وبالتالي، سوف يلاحظ المتتبعون مدى جدية النيابة العامة في  التعامل بكل حزم وتجرد واستقلالية في محاربة هذه الظواهر، ما دام أن  مؤسسة النيابة العامة الآن هي متجردة من أي انتماء سياسي أو غيره. كما ننتظر كمتتبعين أن تتسم إجراءات النيابة العامة في علاقتها بأعضائها أولا في مختلف المحاكم  بالعلنية والشفافية وأن تكون التعليمات الموجهة لهم إذا دعت الضرورة كتابية كما ينص على ذلك الدستور المغربي وأن تعتمد في عملها على المعايير الدولية والاقليمية مثل توصيات مجلس أوروبا رقم 19 لسنة 2000 بشأن دور النيابة العامة في نظام العدالة الجنائية والتي تنص من بين ما تنص عليه ضرورة  أن لا يُقيد عمل النيابة العامة عندما يتعلق الأمر بملاحقة المسؤولين العموميين قانونيا عن الجرائم المرتكبة ولا سيما جرائم الفساد واستغلال النفوذ والانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان.

إذن هذه تحديات كبيرة أمام رئاسة النيابة العامة الجديدة في المغرب وأعضائها الممارسين بالمحاكم بمختلف درجاتها. وقد وفرت الدولة المغربية السبل المادية الكبيرة  لها كما سبق القول. والرهان معقود بشكل كبير  على هذه التجربة الجديدة في المنطقة العربية برمتها ، وربما بعد سنة أو سنتين سيتم تقييم عملها لكن ليس فقط بمعيار النجاح أو الفشل ولكن بمعيار المقارنة مع ما كان، بمعنى سيتم حتما طرح سؤال: أين كان الأداء أفضل؟ حين تولى السياسي الإشراف مباشرة على النيابات العامة أم حين نقلت مهمة الإشراف إلى قاضٍ؟

 

 


[1] – القانون التنظيمي رقم 106-13 متاح في الموقع اليكتروني لمجلس النواب المغربي على الرابط الآتي : http://www.chambredesrepresentants.ma/sites/default/files/loi_organique_n_106.13.pdf تاريخ المشاهدة 20-10-2017.
[2] – استمر النقاش حول وضع النيابة العامة في المغرب من سنة 2012 إلى 2016 بين قائل ببقائها تحت وصاية وزارة العدل ضمانا لمحاسبتها من طرف البرلمان كممثل للشعب ، وبين من قائل بكون الدستور لم يفرق بين قضاة النيابة العامة وقضاة الاحكام وأن النيابة العامة يجب ان تكون مستقلة حتى لا يتحكم فيها السياسي على اعتبار أن وزير العدل ينتمي لحزب سياسي له اغلبيته برلمانية وأجندته الحزبية ، وأن وسائل محاسبة النيابة ممكنة مع استقلالها من خلال المجلس الاعلى للسلطة القضائية والرقابة المجتمعية فضلا عن أن الرقابة البرلمانية ستضل حاضرة من خلال التشريع .
[3] – نصت المادة 15 من مشروع القانون رقم 15-38 المتعلق بالتنظيم القضائي على المقتضيات الآتية: " تتوفر رئاسة النيابة العامة على بنية هيكلية لمساعدتها في ممارسة مهامها يحدد تنظيمها الداخلي وكيفية سيرها بمرسوم يتخذ باقتراح من رئيس النيابة العامة"- يراجع نص مشروع  قانون التنظيم القضائي في الموقع  الالكتروني لوزارة العدل المغربية : http://www.justice.gov.ma/lg-1/documents/doccat-4.aspx  تاريخ التصفح هو 14-07-2017 .
[4] – للتفاصيل: عبداللطيف الشنتوف : مشروع قانون مستعجل ينظم عمل النيابة العامة في المغرب – مقال منشور بموقع المفكرة القانونية على الرابط الىتي : https://legal-agenda.com/article.php?id=3788.
[5] – بلاغ الديوان الملكي بالمغرب يوم 25-06-2017
[6] – بيان  مشترك صدر بتاريخ 14-10-2016 انتقدت فيه هذه الجمعيات وهي نادي قضاة المغرب والودادية الحسنية للقضاة وجمعية النساء القاضيات والجمعية المغربية للقضاة ، اختيار مقر غير لائق بالمجلس الاعلى للسلطة القضاء وطالبت باستبداله بشكل فوري.
[7] – المادة الخامسة من القانون رقم 33-17 المتعلق بنقل اختصاصات السلطة الحكومية المكلفة بالعدل إلى الوكيل العام لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة – منشور بالجريدة الرسمية عدد 6605 بتاريخ 2017/09/18، ص 5155.
[8] – انظر مثلا موقف الوزير السابق والبرلماني لحسن حداد في موقع الايام الاخباري  على الرابط الآتي : http://www.alayam24.com/articles-41121.html تاريخ المشاهدة 23-10-2017

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، استقلال القضاء ، المغرب



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني