قرار قضائي يفرض على الأمن تحديث معلوماته الجنائية في مصر: إبقاءالاتهام رغم انقضائه هدر لقرينة البراءة


2017-09-20    |   

قرار قضائي يفرض على الأمن تحديث معلوماته الجنائية في مصر: إبقاءالاتهام رغم انقضائه هدر لقرينة البراءة

يسر المفكرة أن تنشر في سياق متابعاتها القضائية حكما مصريا رائدا. الحكم يتصل بظاهرة موجودة ليست فقط في مصر إنما في عدد من الدول العربية، حيث تحفظ الأجهزة الأمنية سجلا بأسبقيات التحقيق مع الأفراد، من دون تحديثها لاحقا على ضوء مآلها لاحقا أمام الجهات القضائية. وعليه، كثيرون الذين تنتهي الملاحقات ضدهم إلى الحفظ أو البراءة، فيما تبقى الأسبقيات وصمة في سجلهم، وصمة قد تعزز الشكوك ضدهم أو تشكل حتى دليلا ضدهم في ملاحقات لاحقة، فضلا عن إمكانية استخدامها كمعلومات لمنعهم من تولي وظائف عامة معينة. وعليه، عبر هذا الحكم لا تنحصر في مصر (المحرر).  

 

ضمن سلسلة الأحكام التي يمكن أن نطلق عليها أحكام المبادئ، التي يصدرها القضاء الإداري في مجال تأكيد وتفعيل الحقوق الدستورية للإنسان، كما وردت في الدستور المصري والمواثيق الدولية، أصدرت المحكمة الإدارية العليا (الدائرة الأولى – فحص الطعون) برئاسة المستشار/ أحمد الشاذلي، حكماً يفعل حقوق المشتبه فيه، ويؤكد أصل البراءة الملازم للشخص، منذ لحظة الاشتباه فيه وحتى صدور الحكم الجنائي بإدانته أو براءته. صدر الحكم  في الطعن رقم 15771 لسنة 53 قضائية عليا، المقام من وزير الداخلية، على حكم محكمة القضاء الإداري بأسيوط في الدعوى رقم 8997 لسنة 16ق بتاريخ 18 أبريل 2007.

 

وقائع الدعوى

وقائع الدعوى التي صدر فيها حكم المحكمة الإدارية العليا – كما أثبتها المقرر المستشار الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجي- تتلخص في أن المطعون ضده اتهم في ثلاث قضايا حيازة سلاح بدون ترخيص. صدر في إحداها حكم محكمة أمن الدولة العليا طوارئ بالبراءة في سنة 1996، وصدر في الثانية قرار النيابة العامة في سنة 1997 بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية لعدم معرفة الفاعل، وصدر في الثالثة قرار من النيابة العامة في سنة 2001 بالحفظ. وعلى هذا النحو، لم تثبت إدانة المطعون ضده في أي من القضايا المذكورة. ورغم ذلك، أدرجت وزارة الداخلية اسمه ضمن المسجلين جنائياً، باعتباره متهماً في تلك القضايا، فيما يسمى "كارت المعلومات الجنائية"، الذي يشمل الاتهامات بارتكاب جرائم الجنايات بغض النظر عن نتيجة التحقيق أو الحكم الصادر فيها.

تقدم المواطن المذكور بطلب إلى وزارة الداخلية لمحو اسمه من سجل المعلومات الجنائية. ولما لم ترد الجهة الإدارية على طلبه بالقبول أو الرفض، طعن المواطن أمام محكمة القضاء الإداري بأسيوط في قرار إدراجه في سجل المعلومات الجنائية دون وجه حق، مطالباً بإلغائه، استناداً إلى أن إدراج اسمه ضمن المسجلين جنائياً باعتباره متهماً في قضايا يخالف الواقع، ويخل بحقه الدستوري في التمتع بأصل البراءة، طالما لم تثبت إدانته بحكم قضائي في أي من القضايا التي اتهم فيها.

قضت محكمة القضاء الإداري بأن استمرار جهة الإدارة في تسجيل تلك القضايا أمام اسم المواطن، وامتناعها عن محوها من سجلاتها وأجهزتها، يشكل قراراً إدارياً مخالفاً لأحكام الدستور والقانون، ولا يستند إلى سبب صحيح.

طعنت وزارة الداخلية (الجهة الإدارية) في حكم محكمة القضاء الإداري أمام المحكمة الإدارية العليا، التي أصدرت حكمها بإجماع الآراء برفض الطعن، لمطابقة الحكم المطعون فيه للقانون، وألزمت الجهة الإدارية الطاعنة المصروفات.

 

حيثيات حكم المحكمة الإدارية العليا

دفعت الجهة الإدارية الطاعنة بعدم قبول الدعوى لانتفاء القرار الإداري. ورغم أن المحكمة الإدارية العليا ردت على هذا الدفع في العديد من أحكامها، فإنه ما يزال يتكرر في كافة القضايا التى ترفع ضد الجهات الإدارية فى الدولة، بقصد تعطيل الفصل فيها. وقد عادت المحكمة الإدارية العليا لتؤكد في هذا الطعن، أن القرار الإداري، بالنظر إلى طبيعته يمكن استخلاصه من تصرفات جهة الإدارة وسلوكها حيال موقف أو طلب من أحد المواطنين. ولا ريب في أن القيد في سجل المعلومات الجنائية يعتبر قراراً إدارياً، قوامه إفصاح الجهة الإدارية المختصة عن إرادتها، بما لها من سلطة، في إدراج اسم شخص ما في سجل المعلومات الجنائية، اقتناعاً منها باعتوار مسلكه وانحراف سلوكه ورجحان النزعة الإجرامية لديه. وهي بذلك تستند إلى ما ارتكبه من جرائم وصدور أحكام بإدانته فيها، أو بقصد إحداث أثر لا ريب فيه ولا جحود له، وهو أن يكون المدرج اسمه في ذلك السجل في صدارة من تحوم حولهم الشبهات وتشير إليهم أصابع الاتهام عند وقوع جريمة من نوع الجرائم التي أدرج تحتها، وأن يوضع في موطن الريبة حيثما يتطلب الأمر الرجوع إلى جهات الأمن للوقوف على رأيها بشأنه. وعليه، يضحي الامتناع عن محو اسم شخص من هذا السجل قراراً إدارياً سلبياً متكامل الأركان، يخول ذا الشأن الحق في الطعن عليه أمام مجلس الدولة، دون أن ينال من ذلك ما تعتصم به الجهة الإدارية من أن تلك المعلومات المسجلة لا يجري استخدامها أو الاستفادة منها إلا في أعمال التحريات والبحث الجنائي.

وقد استندت المحكمة الإدارية العليا إلى نصوص دستورية وقانونية قطعية الدلالة لرفض الطعن وتأييد حكم محكمة القضاء الإداري، هي:

1- المادة 94 من الدستور التي تنص على أن: "سيادة القانون أساس الحكم في الدولة، وتخضع الدولة للقانون …".

2- المادة 95 من الدستور، ونصها: " العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون".

3- المادة 96 من الدستور التي تنص على أن:" المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة، تكفل له فيها ضمانات الدفاع…".

4- المادة 454 من قانون الإجراءات الجنائية، وتنص على أن: تنقضي الدعوى الجنائية بالنسبة للمتهم المرفوعة عليه والوقائع المسندة فيها إليه بصدور حكم نهائي بالبراءة أو بالإدانة".

واستخلصت المحكمة من جماع هذه النصوص، أن الأصل في الإنسان البراءة، ولا يجوز نقض هذه البراءة إلا من خلال القانون وبحكم قضائي، يكفل فيه للمتهم كافة ضمانات الدفاع عن نفسه. وأضافت أنه إذا كان القانون الخاص بهيئة الشرطة قد خولها اتخاذ الإجراءات والتدابير التي تكفل لها سرعة التعرف على من اعتاد ارتكاب جرائم معينة، ومن تخصص في سلوك إجرامي بذاته، وتسجيل هؤلاء في سجلات محددة ورصد بياناتهم والجرائم التي ثبتت في حقهم على أجهزة الحاسب الآلي الخاصة بها، إلا أنها في هذا السبيل لا يجوز لها التضحية بأصل البراءة الذي تكفله القواعد الدستورية والقانونية، الوطنية والدولية. ولا يقبل منها أن تشوه الأهداف المرجوة من تلك التدابير، بإساءة استخدامها أو بالإنحراف بها عن أغراضها. ويعد من هذا القبيل إجراء التسجيل الجنائي لشخص بريء، لم يحكم القضاء بإدانته، بما يحول مجرد الاتهام إلى أصل يستوجب التسجيل، رغم أنه اقتصر على مجرد إفراغه في محضر شرطة، حفظ بعد ذلك، أو أمرت النيابة العامة بعدم إقامة الدعوى الجنائية عنه، أو قدم المتهم للمحاكمة وبرأ القضاء ساحته مما نسب إليه فيه.

ورأت المحكمة أنه إذا كان التسجيل الجنائي أو ما يطلق عليه (كارت المعلومات الجنائية) يشمل الاتهامات بغض النظر عن نتيجة التحقيق أو الحكم الصادر فيها، فإن الحفاظ على حريات المواطنين، واحترام الأحكام القضائية الصادرة لصالحهم، أو القواعد القانونية الحاكمة التي تمنح لهم حقوقاً، يفرض على الجهة الأمنية واجبا بأن تراعي التحديث المستمر للبيانات التي قامت بإدراجها، ومتابعة ما يتم بشأنها لدى النيابة العامة أو المحاكم الجنائية، لرصد ما صدر منها من استبعاد الشخص من الاتهام، سواء عن طريق الحفظ أو الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية أو أحكام البراءة أو سقوط الدعوى أو العقوبة بمضي المدة أو الحكم برد الاعتبار. ومن ثم يتعين لسلامة التسجيل الجنائي أن يتضمن حقائق جنائية ثابتة ومبنية على قرارات أو أحكام قضائية فاصلة فى موضوع الاتهام، وأن تراجع تلك البيانات دورياً، لتحديثها وتصحيح الأخطاء الواردة بها، واستكمالها حتى لا يؤاخذ صاحبها بغير حق، أو تدمغ سمعته بالباطل، أو تضفي ظلالاً من الشك حول سيرته. فإذا كان المشرع قد حدد قواعد ومدداً لانقضاء الدعوى الجنائية أو لسقوط العقوبة الصادرة بشأنها، فإن ذلك يكون أولى بالاتباع إذا كان محل التسجيل الجنائي مجرد اتهام، يحتمل الصحة والخطأ، ويتحول بعد مضي سنوات انقضاء الدعوى الجنائية أو سقوط العقوبة الصادرة بشأنها إلى لغو لا يؤبه به، بحيث يكون التمسك به والاستناد إليه عدواناً على حرية المواطنين، وإهداراً لحجية الأوامر والأحكام القضائية النهائية.

وبالعودة إلى القضية، رأت المحكمة أن المطعون ضده لم تثبت إدانته في القضايا المذكورة، وإن إدراج اسمه ضمن المسجلين جنائياً، باعتباره متهماً في تلك القضايا، إنما يخالف الواقع، ويخل بحقه الدستوري في التمتع بأصل البراءة، طالما لم تثبت إدانته بحكم قضائي. كما أن استمرار تسجيل اسمه، على الوجه المشار إليه، يجعله محل شبهة من جانب جهة الإدارة القائمة على الأمن العام، على وجه ينال من حريته الشخصية ويؤثر على سمعته ومستقبله وأقاربه وذويه، ويتعين محوه.  وعليه، يكون استمرار جهة الإدارة في تسجيل تلك القضايا أمام اسم المطعون ضده، وامتناعها عن محوها من سجلاتها وأجهزتها، يشكل قراراً إدارياً مخالفاً لأحكام الدستور والقانون، ولا يستند إلى سبب صحيح.

 

خلاصة

مما تقدم، نرى أن الحكم الصادر من المحكمة الإدارية العليا يقيم توازناً عادلاً بين أمرين، لا يغني أحدهما عن الآخر:

 الأول: هو حق الجهات الأمنية في الحفاظ على الأمن العام، بما يتضمنه ذلك من استخدام الوسائل التقنية الحديثة في رصد تحركات المجرمين، لمنع الجريمة قبل وقوعها، وإيجاد الوسائل  للحيلولة دون تحول ما يثبت في التسجيل الجنائي من سلوكيات إجرامية إلى مخاطر تضر بالمجتمع، باعتبار ذلك من الغايات السامية التي يجب أن تسعى إليها الجهات القائمة على الأمن فى كل مجتمع.

الثاني: – الذي لا يقل في أهميته عن الحفاظ على الأمن العام – هو حماية حريات المواطنين، واحترام الأحكام القضائية الصادرة لصالحهم أو القواعد الدستورية والقانونية الحاكمة، التي تمنحهم حقوقاً لا يجوز إهدارها، وتفرض على الجهات الأمنية قيودا لا محيص عنها، للحفاظ على حقوق وحريات المواطنين الأبرياء، الذين تأكدت براءتهم بقرارات أو أحكام قضائية حازت الحجية، وصارت واجبة الاحترام من كافة سلطات الدولة.

 كما يؤكد الحكم أن التسجيل الجنائي للخطرين على الأمن العام هو محض إجراء وقائي احترازي، تمارسه جهة الإدارة لغايات محددة، لا تشمل النيل من حقوق الأفراد وحرياتهم، ولا ينبغي أن يكون وسيلة للتنكيل بالمواطنين الأبرياء.

 ويندرج هذا الحكم، وما سبقه من أحكام القضاء الإداري، وما سوف يصدر عنه لاحقاً، كما عهدناه دائماً، ضمن سلسلة الأحكام التى تحمي الحقوق والحريات الأساسية للإنسان. وهو ما يثبت دائما أن هذا القضاء المبدع الخلاق، يعد بحق صمام الأمن والأمان للمواطن المصري ضد كل تعسف من جهة الإدارة، أو افتئات على حقوقه وحرياته الأساسية، تحت ستار حماية الأمن العام. فحماية الأمن لا تتعارض مع الحفاظ على الحقوق والحريات التي كفلها الدستور والقانون، بل إن احترام هذه الحقوق والحريات هو السبيل لضمان استقرار الأمن والنظام في المجتمع، لأنه يثير الشعور بالمسؤولية الوطنية إزاء المجتمع لدى كافة أفراده.

 وقد سبق للمحكمة ذاتها أن أكدت مرارا على وجود رابطة قوية لا تنفصم عراها بين احترام سيادة القانون وحماية حقوق الإنسان من ناحية، وبين حماية الأمن وضمان استقرار المجتمع من ناحية أخرى، وهو ما يجعلهما توأمين لاغنى عن تعاصرهما دوما فى سبيل مكافحة الجريمة ومواجهة الخارجين على القانون.

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، محاكمة عادلة وتعذيب ، مصر



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني