قايد السبسي يفتح معركة المساواة الكاملة (على هامش ذكرى 61 لمجلة الأحوال الشخصية)


2017-08-15    |   

قايد السبسي يفتح معركة المساواة الكاملة (على هامش ذكرى 61 لمجلة الأحوال الشخصية)

أشاد رئيس الجمهورية التونسية باجي قايد السبسي في الكلمة التي ألقاها يوم 13-08-2017 في سياق الاحتفالات الرسمية بالذكرى الواحدة والستين لإصدار مجلة الأحوال الشخصية التونسية بالقانون الأساسي  الخاص بالقضاء على العنف ضد المرأة. ورأى السبسي أن المصادقة عليه بإجماع أعضاء المجلس التشريعي "خطوة عملاقة على درب الانتصار لِلنَّفَسِ الإصلاحي التحرّري سيذكرها التاريخ كحلقة وصلٍ كبرى مع مجلة الأحوال الشخصية ونقطة فصلٍ مع ما سبِق من مُهادنة للعنف المسُلّطِ على النساء الذي يُمثّل وصمة عارٍ على دولـة ما بعد الثورة ودستورها الذي أتى مُبشِّرًا بالمساواة وبالحرية والكرامة".

ولم يكتف الخطاب الرئاسي بالافتخار بما تحقق من منجزات وطنية على صعيد المساواة، بل سارع للبناء على هذه الخطوة للإعلان عن استحقاقات أخرى لتحقيق المساواة الكاملة في مسائل لا زالت موضع نقاش على خلفيات عقائدية. وهذه المسائل تتصل أساسا في تحجير زواج المسلمة بغير المسلم والمساواة بين الجنسين في الإرث.

تكريس حق المرأة في اختيار زوجها دون قيد:

لم ينص قانون الأحوال الشخصية على اختلاف الدين كمانع من موانع الزواج. إلا أن هذا المنع تكرس بمنشور صادر عن وزير العدل  بتاريخ 15-11-1973 يحجر على ضباط الحالة المدنية إبرام عقود زواج غير المسلمين على المسلمات. وقد التزم إلى حد اليوم ضباط الحالة المدنية بتنفيذ المنشور الوزاري  دون اهتمام بتعارضه مع القانون وبمخالفته لحق اختيار الزوج المكرس في اتفاقية نيويورك للقضاء على الميز العنصري. وتبدو بالتالي دعوة رئيس الجمهورية وزير العدل لإلغاء هذا المنشور خطوة هامة ستنهي  متى تمت خرقا للقانون فرض بترتيب إداري وتضع حدا للمس بحق المرأة في اختيار زوجها.

أي تصورات مقبولة للمساواة بين الجنسين في مجال الإرث؟

انطلق السبسي في حديثه عن الإرث من واقع المجتمع التونسي الذي استخلص منه أمرين:

الأول، أن النساء أصبحن رائدات في المجتمع بفضل تفوقهن الدراسي والمهني[1]،

والثاني، أن المرأة تساهم أكثر من غيرها في تطوير القطاع الفلاحي في إطار الملكية العقارية العائلية. لكن هذه المساهمة تظل من دون مقابل بفعل التمييز في التملك عن طريق الإرث[2].

واستخلص الرئيس من ذلك أن تطور المجتمع وحاجياته يفرضان البحث عن تصورات تحقق المساواة في الإرث الذي يعد من المسائل الدنيوية[3] دون أن تصطدم بمعتقدات الشعب التونسي. وكشف أنه لتحقيق هذه الغاية، كلف لجنة من القانونيين عهد لها مسؤولية دراسة الموضوع بغاية التوصل  للمطلوب[4].

ويبدو التوجه نحو ربط المساواة في الإرث بالاجتهاد الديني[5] خيارا ينسجم مع الموروث التشريعي التونسي في الإصلاحات التشريعية في مادة الأحوال الشخصية. فقد استندت السلطة السياسية عند سنها لمجلة الأحوال الشخصية سنة 1956 لقراءة اجتهادية تعتبر أن النص الشرعي وإن أجاز ظاهريا التعدد، فإنه حجره فعليا بأن جزم بعدم إمكان العدل بين الزوجات المتعددات. ولقد كان لهذا التأصيل دوره في أن باتت أحكام المجلة من ثوابت المجتمع يتفق حولها العلمانيون كذوي المرجعية الدينية في تفكيرهم[6] .

وتأمل المفكرة القانونية أن يكون النقاش حول الحاجة للخطاب الديني المستنير فيما تعلق بأحكام الأسرة موسعا ولحاجتنا اليوم في مجتمعاتنا لمعالجات لقضايا أسرنا تلائم واقعنا الاجتماعي ولا تصدم معتقدات شعوبنا. وقد يكون كما قال رئيس الجمهورية التونسية باجي قايد السبسي في إلغاء العبودية خير محفز لنا على ذلك[7].

 


[1] ذكر أنّ " الإحصائيات الأخيرة أكّدت التفوق العددي النسبي للإناث في تركيبة المجتمع التونسي (50,2%) إضافة إلى نتائج باهرة في مجالات هامة واختصاصات رائدة حققت فيها النساء نسبة النصف. ولقد فاقت حصّة الحاصلات على شهادات عليا 60% من المجموع العام وهذا مؤشّر على الكفاءات العالية التي أضحت تتمتع بها المرأة التونسية ممّا أسهم في ضمان حضورها في كافة المجالات الحيويّة والقطاعـات المهنيّة وحتّى الميادين التي كانت حكرا على الرّجالففي الطبّ بلغت نسبة حضور النساء 60,52% بما فيها الطبيبات المقيمات والداخليات. وفي طبّ الأسنان والصيدلة بلغت النسبة 75,93% من المجموع العام للأطباء في هذه الاختصاصات. أمّا في الهندسة فلقد بلغت حصّتهن 35% وشهدت في الخمس سنوات الأخيرة استقرارا بنسبة 50% وهناك تفوق للنساء من حيث العدد في ميدان الهندسة الفلاحيّة والنسيج إذ بلغن 65% من العدد الجملي للمهندسين في هذين المجالين. ويعُدّ القضاء العدلي 41,67% من النساء القضاة بينما بلغت نسبتهن في قطاع المحاماة 43%. في حين بلغت نسبة الأستاذات الجامعيات   49.8 ."
[2] ذكر في كلمته" أنه بالنسبة  للقطـاع الفلاحي فقد بلغت نسبة النساء العاملات في الملكية العائلية 62% ويشكو هذا الصنف من غياب الأجر وما يتبعه من انعدام امتيازات وحقوق على غرار التغطية الاجتماعية رغم ما يوفره من دخل للعائلة وتنشيط للميدان الفلاحي خصوصا وللاقتصاد الوطني عموم. في المقابل فإنّ نسبة النساء المستثمرات في نفس القطاع لا تتجاوز 6, 6% هذا الخلل في علاقة بالقطاع الفلاحي وطرق الوصول إلى تملُّك النساء للأرض باعتباره يسهّل الحصول على القروض بما يوفّره من ضمانة لدى البنوك".
[3] ورد بالكلمة " إنّ موضوع الإرث لهو من مسائل الدنيا الفانية التي تركها الله الحكم العادل لاجتهاد خلقه، يتخيّر من خلالها منهم الصالحين والمُصلحين، لذلك وجـب الحديث والاعتقاد والجرأة والاجتهاد في المساواة بين الرجل والمرأة بل وإقرارها إذ أن مشروعية المساواة ثابتة دينيا ودستوريا وسبق أن تمّ إقرار توريث البنات مباشرة بإلغاء الحجب الذي كان لا يمنح حق إرث البنت لوالدها مباشرة. إنّي لمتيقّن أنّ العقل الإيماني الاصلاحي القانوني التونسي سيجد الصيغ الملائمة التي لا تتعارض لا مع الدّين ومقاصده ولا مع الدستور ومبادئه والتي ستضيف لبنة أساسية في اتجاه المساواة الكاملة "
[4] لجنة الحريات الفردية والمساواة التي تم إحداثها لدى رئاسة الجمهورية ستثبت حسبما ورد بإعلان تكليف أعضائها في  أن " العقل الإيماني الإصلاحي القانوني التونسي سيجد الصيغ الملائمة التي لا تتعارض مع الدين ومقاصده ولا مع الدستور ومبادئه وستضيف لبنة أساسية في اتجاه المساواة الكاملة "
[5] ورد بالكلمة "لقد لاحظنا بارتياح بروز توجّه جديد في العائلات التونسية للأخذ بمبدأ المساواة في تقسيم الأملاك بالاعتماد على الهبة في قائم حياة الوالدين وعلينا التفاعل مع هذا التوجّه وتشجيعه وفقا للمنهج المقاصدي الحاثّ على الاجتهاد . وقد برز منهج اجتهادي يؤكّد على أنّ قاعدة للذكـر مثل حظّ الأنثيين هي إذا ما تجنّبنا إقفال قلوبنا وعقولنـا وقرأناها وفق المقاصد الحكيمة وتاريخية النّزول إنّما ترمي إلى تحديد السّقف الذي لا يمكن النزول عنه في واقع قبلي كان يتميّز وقتئذ بإقصاء النساء من الميراث باعتباره مقتصرا على الرجال بغرض الحفاظ على ملكيّة الأرض للقبيلة وعدم تشتيتها بتوريث النساء. ونفس هذا التوجّه الاجتهادي المحمود يدفعنا نحو القبول بالمساواة على اعتبـار أنّ تحديد السقف الأدنى لا يمنع من المُضيّ إلى الحدّ الذي يليه طلبا للمساواة وأخذا بتطوّر سُنن الحياة وشروطها واعتبارا لارتفاع حصّة مساهمة النساء في تكوين ثروة الأسرة وقوامتها ولزاما عليه أصبح اليوم من المطلوب ومن الممكن تعديل قانون الأحوال الشخصيّة المتعلّق بالإرث بصورة مرحليّة مُتدرّجة حتّى بُلوغ هدف المساواة التامّة بين الرجل والمرأة. وإذا ما نظرنا إلى الفصل 2 من الدستور الذي ينصُّ على أنّ تونس دولـة مدنيّة تقوم على المواطنة وإرادة الشّعب وعلويّة القانون، فإنّ أحكام الميراث أصبحت تمثل الجزء الشاذّ في مجلة الأحوال الشخصية لأنها خارجة عن الفلسفة التحرّرية العامة المجسّدة في جلّ المسائل الأخرى الواردة في المجلة والمبنيّة أساسا على السّعي نحو الحدّ من التمييز بين الجنسين، ونحن اليوم نريد أن نرتقي بها حتى تواكب العصر وتتناغم مع رؤيتنا التحررية في الإصلاح والمساواة "
[6]  أصدرت حركة النهضة الإسلامية بداية  الثمانينات من القرن الماضي موقفا رسميا يعتبر مجلة الأحوال الشخصية اجتهاد إسلامي بما في ذلك التطليق القضائي ومنع تعدد الزوجات 
[7] ورد بالكلمة " فالإيمـان ومبادئه وتعاليمه ثابتة فيما الواقـع الاجتماعي مُتحوِّل ممّا يجعل من القراءة المُتحجّرة للنّص القرآني خروجا عن الروح الحقيقية لدين انتصر وسَادَ بين الناس بالعدل وأثبت التصاقه بتطوّر الواقع وبالمحيط الذي يعيش فيه ولنا في إلغاء أحكام العبودية خير مثال إذ لا توجد اليوم دولة تقبل التشريع لاستعباد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا "

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، استقلال القضاء ، تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني