اشتباكٌ فلسطينيٌّ بين التنفيذيّة والقضائيّة.. والمحامون يناصرون القضاة في الدفاع عن استقلالهم


2017-07-31    |   

اشتباكٌ فلسطينيٌّ بين التنفيذيّة والقضائيّة.. والمحامون يناصرون القضاة في الدفاع عن استقلالهم

على نحو غير مسبوق،  بدت مظاهر عنيفة بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية في فلسطين عقب إرسال وزير العدل الفلسطيني علي أبو دياك لمجلس القضاء الأعلى مذكرة مشفوعة بمقترح لتعديل قانون السلطة القضائية الفلسطيني رقم 1 لسنة 2002. وقد لاقى هذا الأمر رفضا مطلقا من قبل مجلس القضاء الأعلى في البيان الصادر عنه بتاريخ 19/6/2017، حيث قرر مجلس القضاء الاعلى في اجتماعه بالجلسة رقم 5 لسنة 2017 رفضه لمشروع التعديل على قانون السلطة القضائية المقدم من وزير العدل كونه مشوبا بشبهة عدم الدستورية. وقد قرر المجلس إعادة المشروع لوزير العدل ولمجلس الوزراء مشفوعا برأي مجلس القضاء الاعلى برفضه جملةً وتفصيلاً.

وفي هذا السياق، يبدو جليا أنّ اللغة التي صدر بها بيان مجلس القضاء الأعلى عبرت عن توجه صارم للمجلس القضائي برفض ما تضمنه مشروع وزير العدل برمّته، دون الخوض في تفاصيل ما ورد فيه. وهذا الأمر يشير إلى رد احتجاجي صاخب في مواجهة  آلية اقتراح هذا التعديل، وما تضمنه من نصوص رأى فيها مجلس القضاء أنها غير قابلة للنقاش. وقد انعكس هذا الاقتراح والرد عليه على العلاقة بين الحكومة ومجلس القضاء الأعلى، لاسيما أنّ قانون السلطة القضائية الفلسطيني النافذ قد جعل من مجلس القضاء الأعلى سلطة دستورية موازية لسلطة مجلس الوزراء باعتباره المخول وحده دون غيره بإدارة الشأن القضائي ودون وجود أية صلاحية جدية للحكومة أو وزير العدل في إدارة المحاكم أو أي من شؤون القضاء. وأمام انفتاح هذه المواجهة على مصراعيها، اضطرت الحكومة ومجلس القضاء الأعلى وبتدخل من مكتب رئاسة دولة فلسطين إلى عقد اجتماع مشترك حضره رئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس مجلس الوزراء ووزير العدل والنائب العام ومستشار الرئيس للشؤون أسفر عن الخروج المرحلي من المأزق من خلال الاتفاق على سحب المشروع المذكور، وإعادة تفعيل اللجنة الرئاسية المشكّلة من هذه الأطراف لإعادة دورها في وضع رؤية لإصلاح منظومة العدالة ورفع التوصيات بشأنها للرئيس. كما تم التوافق بين أعضاء اللجنة على الاعتماد على قانون سبق إقراره وإلغاؤه وهو قانون رقم (15/2005) باعتباره الركيزة الأساسية التي سيتم من خلالها تقديم المقترحات عليها.

مقترح التعديل.. تقويض لاستقلال القضاء

ما تضمنه مشروع تعديل قانون السلطة القضائية يمكن وصفه بتراجع كبير في السياسة التشريعية الفلسطينية تجاه السلطة القضائية إذا تمّ إقراره، وذلك لما تضمنه المشروع المذكور من نصوص تجعل من السلطة القضائية بشقيها قضاة الحكم والنيابة العامة تحت سيطرة كاملة للسلطة التنفيذية، وتودي بالعديد من ضمانات وحصانات القضاة إلى الهاوية. على سبيل المثال، يلاحظ أنّ المادة 18 من قانون السلطة القضائية النافذ أوجبت أن يكون تعيين رئيس المحكمة العليا رئيس مجلس القضاء الأعلى بقرار من رئيس الدولة بناء على تنسيب من مجلس القضاء الأعلى. إلا أنّ  مقترح التعديل جاء بنص معدل لهذه المادة مؤداه  استثناء  تعيين رئيس المحكمة  العليا من شرط تنسيب مجلس القضاء الأعلى، بحيث يصبح تعيين رئيس المحكمة العليا وإنهاء خدماته خدماته بقرار من رئيس دوله فلسطين وحده. وهذا ما يخالف في حقيقته ما قضى به حكم محكمة العدل العليا رقم 130/2015 الصادر بتاريخ 13/7/2015 والذي قرر انعدام قرار تعيين رئيس المحكمة العليا آنذاك لصدوره هذا القرار بالتعيين دون وجود تنسيب من مجلس القضاء الأعلى.

من جانب آخر، تضمن المشروع المذكور مسّا خطيرا باستقلال القضاة الذين حظر القانون الأساسي بوصفه الوثيقة الدستورية النافذة في الأراضي الفلسطينية وقانون السلطة القضائية النافذ عزلهم من وظائفهم إلا بقرار مجلس تأديبي، أو إحالتهم إلى التقاعد الذي لا يحصل إلا ببلوغهم سنّ السبعين. فقد تضمن مشروع التعديل نصّا يتيح إحالة القاضي إلى التقاعد المبكر. ومؤدّى ذلك بقاء القاضي تحت تهديد الإحالة المبكرة للتقاعد أثناء إشغاله الوظيفة القضائية، ما يعني انتهاكا خطيرا لأهم ضمانات استقلاله بتصليت سيف التقاعد المبكر على رقاب القضاة أثناء قيامهم بعملهم في الفصل في المنازعات كافة.

وفي سياق متصل، فإنّ قانون السلطة القضائية النافذ قد أعطى السلطة القضائية دون غيرها حق تعيين رئيس دائرة التفتيش القضائي، والذي ينبغي أن يكون عضوا في المحكمة العليا. وهنا أبضا ذهب مقترح التعديل إلى منح هذه الصلاحية لرئيس الدولة، بما قد يؤدي إلى تدخل سافر في شؤون القضاة وترقياتهم وتقييماتهم من قبل السلطة التنفيذية، وبما يؤثر في جوهره على أداء القضاة لجهة المس باستقلالهم وربما فرض عقوبات عليهم أو المساس بتقييماتهم وترقياتهم على ضوء توجهات السلطة التنفيذية وتقييهما لأداء القضاة على النحو الذي جاء به التعديل المقترح.

كما أنّ مقترح التعديل من جهة أخرى قد عمد إلى إدخال صلاحيات جديدة لوزير العدل ورئيس الدولة في إدارة المحاكم وموظفي المحاكم ليست متوافرة في القانون الحالي، وذلك من خلال اقتراح نص يوجب أن يتم تعيين رئيس إدارة المحاكم بقرار من رئيس الدولة بناء على تنسيب مجلس القضاء الأعلى بالتنسيق مع وزير العدل. وهذه صلاحية منوطة في الواقع بمجلس القضاء الأعلى دون غيره في إدارة المحاكم والمسؤولية الإدارية والإشراف على موظفي المحاكم لضمان عدم خضوعهم لأي تأثير، وسعياً لانتظام وسلاسة العمل وتحقيق التكامل بين العمل القضائي والعمل الإداري في المحاكم، وهذا ما جرى به العمل منذ العام 2002 وحتى تاريخه.

أما فيما يتعلق بالنيابة العامة (الادعاء العام) والتي تعتبر شعبة أصيلة من شعب السلطة القضائية، فقد تضمن مقترح التعديل مساساً خطيراً بضمانات استقلالهم في عملهم وتصرفاتهم القضائية في التحقيق وتحريك الدعوى الجزائية. فقد جعل المقترح النائب العام مسؤولاً أمام الحكومة من خلال وزير العدل. ويكون لحكومة بموجبه صلاحية وضع التوجهات العامة لسياسة النيابة العامة في عملها، ما يعني خضوع النائب العام وأعضاء النيابة العامة كافة للسلطة التنفيذية، وتاليّا هدم أساس عملهم الذي يقوم على الاستقلال بوصفهم يمارسون أعمالا قضائية كالتحقيق الذي يمكن أن يطال وزراء ومن في حكمهم. وهذا الأمر يطرح تساؤلات حول كيفية قيام النيابة العامة بعملها على نحو مستقل وشفاف في ظل خضوعها لمن تملك حق التحقيق معهم حال توافر شبهات جزائية موجبة للتحقيق.

وزير العدل: مشروع التعديل ما زال مسودة قيد النقاش

من جانبه أصدر وزير العدل الفلسطيني بياناً صحفيا بعد تصاعد احتجاجات القضاة والمحامين وأعضاء النيابة العامة  قال فيه أنّ مشروع تعديل قانون السلطة القضائية رقم (1) لسنة 2002 ما زال في المرحلة الأولى من النقاش والصياغة والإعداد. وصرح الوزير أبو دياك ما تم تقديمه لمجلس القضاء وغيره من مؤسسات قطاع العدالة ما زال مسودة أولى قيد البحث والتشاور بين الحكومة ومؤسسات قطاع العدالة والمجتمع المدني، وقد تم إرسالها إلى مجلس القضاء الأعلى لأخذ رأيه بها بموجب المادة (100) من القانون الأساسي التي نصت على أن " يؤخذ رأيه في مشروعات القوانين التي تنظم أي شأن من شؤون السلطة القضائية بما في ذلك النيابة العامة". كما تم إرسالها لكافة المؤسسات الرسمية لقطاع العدالة، وإلى المؤسسات الحقوقية الشريكة لقطاع العدالة الرسمي ونقابة المحامين، بهدف التشاور وفتح نقاش وحوار موسع مع مؤسسات قطاع العدالة الرسمية والأهلية ومؤسسات المجتمع المدني حول مسودة التعديل المقترحة، للخروج بأفضل صيغة قانونية من شأنها النهوض بقطاع القضاء والعدالة في فلسطين، بما فيه مصلحة الوطن والمواطن.

أركان العدالة موحّدين في المواجهة

في سابقة هي الأولى من نوعها، وبشراكة وموقف موحّد، انتصب نادي القضاة الفلسطيني ونادي أعضاء النيابة العامة ونقابة محامي فلسطين مدافعين عن استقلال القضاء من خلال الرفض المطلق لمشروع تعديل قانون السلطة القضائية في وفق ما عبّر عنه البيان الصادر عنهم بتاريخ 20/6/2017، وذلك انطلاقاً ً من الدور التكاملي للأجسام النقابية الرئيسية التي تمثل القائمين على منظومة العدالة بدءاً بالقضاء الجالس مرورا بأعضاء النيابة العامة وانتهاء بالقضاء الواقف (المحامين) على حدّ وصف البيان. وقد أكدّ البيان المشترك على رفض مبدأ النقاش حول قانون السلطة القضائية في ظل عدم انعقاد المجلس التشريعي صاحب الاختصاص الأصيل بكل ما يتعلق بالتشريعات الأساسية المرتبطة بالقانون الأساسي كقانون السلطة القضائية، لاسيما أنّ مقترح التعديل المطروح سوف يصدر عن رئيس دولة فلسطين كقرار بقانون وهي صلاحية استثنائية ممنوحة للرئيس الفلسطيني بمقتضى المادة 43 من القانون الأساسي الفلسطيني لسنة 2003 ولا يجوز استخدامها إلا في حالات الضرورة.

 وفي هذا السياق، دعا البيان المشترك مجلس الوزراء إلى سحب مشروع القرار بشكل صريح للاعتبارات المذكورة فيه، كما أكد البيان المشترك على أن إجراء أي تعديل على هذا القانون دون السلطة التشريعية، ودون مراعاة الضوابط الدستورية، يشكل افتئاتاً على مبدأ الفصل بين السلطات، وتعديا على استقلال السلطة القضائية، بوصفها مبادئ دستورية ملزمة للكافة، وبوصفها مبادئ سامية تقتضيها ضرورات الحكم الرشيد، ويُرسيها مبدأ سيادة القانون الذي يعني خضوع الحكام والمحكومين له. كما أعلن البيان عن تشكيل خلية أزمة لتنسيق الجهود النقابية والقانونية للضغط على السلطة التنفيذية لوقف المساس باستقلال القضاء والتدخل في شؤونه خارج إطار القانون.

تصعيد في الأفق .. المواجهة مفتوحة

على الرغم من حالة الحراك القضائي والحقوقي الفلسطيني الرافض لمشروع القانون، إلا أنّ نادي القضاة الفلسطيني لازال يرى أنّ الحكومة ماضية في المساس باستقلال السلطة القضائية، الأمر الذي بدا جليا فيما تضمنه بيان النادي الصادر مؤخرا بتاريخ 18/7/2017، والذي هدّد فيه بالتصعيد. وما فاقم الوضع أن الحكومة قامت بإصدار نظام عملت على تطبيقه بأثر رجعي بغية اقتطاع مبالغ مالية من رواتب عشرات القضاة وأعضاء النيابة العامة، وذلك دون عرضه على مجلس القضاء الأعلى، ودون احترام لأحكام قضائية عديدة قضت بأحقية القضاة في المطالبات المالية التي تمّ حسمها من رواتبهم، وعلى الرغم من صدور عدة قرارات قضائية ألزمت الحكومة بوقف تطبيق هذا النظام. إلّا أنّ الحكومة ووزارة المالية لم تلتزم بتنفيذ هذه الأحكام، واستمرّت في الحسم من رواتب القضاة وأعضاء النيابة العامة.

وحذّر  النادي الحكومة من أنّ الاستمرار في التدخل بالشأن القضائي سيقود النادي من واقع حرصه على استقلال القضاء وصون هيبته ومكانته لاتخاذ إجراءات تصعيدية في وجه كل من تسول له نفسه التغول على هذا الجهاز القضائي الذي هو درع المواطن، وحصنه المنيع للذود والدفاع عن الحقوق والحريات التي كفلها القانون الاساسي على حدّ وصف البيان.

ومع دخول العطلة القضائية حيّز النفاذ بتاريخ 15/7/2017، ومع تهديد  نادي القضاة الفلسطيني بالتصعيد، فإنّ بوادر أزمة ومواجهة قادمة تلوح في الأفق مع بداية العام القضائي مطلع شهر أيلول القادم، وذلك عند عودة القضاة إلى منصات الحكم.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، فلسطين



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني