عندما أضرب القضاة في لبنان: تجارب من سنوات الحرب الأهلية وما قبلها (١٩٧٠ -١٩٩٠)


2017-07-27    |   

عندما أضرب القضاة في لبنان: تجارب من سنوات الحرب الأهلية وما قبلها (١٩٧٠ -١٩٩٠)

فيما اعتكف القضاة اللبنانيون عن العمل هذا الأسبوع للمرة الثانية عام ٢٠١٧[1]، وهو أمر نادر في تاريخ لبنان المعاصر، يعود النقاش حول قانونية ومشروعية هذه الخطوة. فمن المعلوم أن المادة ١٥ من قانون الموظفين العامين تمنعهم من الإضراب. ولطالما استُعمِلت هذه المادة لثني القضاة عن التوقف عن العمل بحجة مخالفة القانون، بالإضافة إلى حجج أخرى تعتبر أن الإضراب لا يليق بالقضاة (وهي حجج تظهر الصورة الطبقية التي يرسمها البعض للقضاء، وكأن الإضراب أمر معيب، ولكن هذا بحث آخر).

وكما في السبعينيات كذلك اليوم، تبقى هذه المسألة ذات أبعاد سياسية أساسية تتعدى النقاش التقني والمهني المحدود. فإذا جُرِّدَ القضاة من أبرز وسائل التحرك أي الإضراب، كيف يواجهون السلطة السياسية عندما تسخّر المحاكم لخدمة مصالحها الخاصة أو تتدخل في أعمالها؟ ونعلم أن لهذه السلطة وسائل عديدة للضغط على القضاة، كالتشكيلات القضائية التي ما زالت تتطلب موافقة الزعماء السياسيين ورضاهم، أو تعيين معظم أعضاء مجلس القضاء الأعلى. وإذا لم يتمكن القضاة من التوقف عن العمل لإعادة التوازن لعلاقة القوة مع الطبقة السياسية، فماذا يبقى لهم غير زيارة السياسيين لتسويق مطالبهم، أو تقديم الخدمات أملا بالمحافظة على رضاهم الذي يُتَرجَم في التشكيلات والامتيازات وغيرها؟ وكيف يحمي القضاة حقوق الناس وحرياتهم الخاصة والعامة في ظلّ معادلة من هذا النوع تكرّس ضعفهم الواقعي أمام أصحاب النفوذ؟ فشيطنة إضراب القضاة هو جزء مهم من سياسات إخضاعهم وتهميش سلطتهم الرقابية لمواقع النفوذ السياسي والمالي.

وقد رافق هذا النقاش القضاة منذ عشرات السنين إنما في بلاد كثيرة، ومنها فرنسا[2] ولبنان. وسنعرض في هذا المقال أبرز الأحداث والنقاشات التي دارت في القضاء اللبناني حول مسألة الإضراب في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، أي زمن الحرب الأهلية التي حضنت أكثر الحراكات القضائية تصادما مع السلطة واستفزازا لها حول مسائل أساسية كضمانات القاضي المعنوية والمادية واستقلاليته[3]. وتظهر هنا اشكاليتان أساسيتان تعبران عن كل الحراكات القضائية في لبنان. الإشكالية الاولى تخصّ مسألة علاقة القضاة المعقّدة مع السلطة: فبقدر ما قد يكونون حلفاءها الطبقيين في إطار بسط سيطرتها على المجتمع، بقدر ما قد يشكلون أحيانا مصدر مقاومة شرسة لها ولمصالحها تصبّ لصالح فئات مستضعفة. أما الإشكالية الثانية فتخصّ علاقة جماعات القضاة بمجلس القضاء الأعلى: فالإضراب برضى مجلس القضاء أو حتى بدعوة منه (كما هو الوضع منذ ١٩٩٠) غير الإضراب ضد المجلس أو على الأقل بشكل يتجاوزه، كما حصل عام ١٩٨٢ عندما كان جزء كبير من القضاة يطالب ويضرب من جهة، والمجلس والحكومة يهددان ويستوعبان من جهة أخرى. ولهذان النوعان من الإضراب نتائج سياسية وقضائية جد مختلفة تساعدنا على فهم ما يحصل اليوم.

تحركات ما قبل 1982: المحاضرات والعرائض والإعلام كبديل عن الإضراب

قلّما لجأت "حلقة الدراسات القضائية"، التي أسسها القضاة اللبنانيون عام ١٩٦٩، إلى وسائل الضّغط على السّلطة، فلا مؤتمرات صحفية ولا بيانات قاسية ولا إضرابات. وغابت المواجهة حتى عند إحالة أحد أبرز قادة الحلقة القاضي نسيب طربيه إلى المجلس التأديبيّ بعدما انتقد في محاضرة له التدخلات السياسية ولاسيما الرئاسية في التشكيلات القضائية، ما أثار آنذاك غضب الرئيس سليمان فرنجية. فمهادنة السلطة كانت المبدأ عند أكثرية قضاة الحلقة آنذاك. وكذلك فعل خرّيجو المعهد عندما وضعوا دراسة "مطلبيّة" عام ١٩٧٩، فقاموا بجولات على قصور العدل، وجمعوا ١٧٢ توقيعا لقضاة عدليين[4] على عريضة تطالب بتحقيق المطالب الواردة فيها، علما أن مجموع القضاة العدليين بلغ آنذاك ٢٧٠ قاضياً. وقد قُدِّمت الدراسة والعريضة لوزير العدل (يوسف جبران) في ٢٧ كانون الأول ١٩٧٩ (وهو كان يحتفظ أيضا بمنصب رئيس مجلس القضاء الأعلى) فيما قدمت نسخة عنها لمجلس القضاء الأعلى، دون أي حديث ظهر إعلاميا حول التوقف عن العمل. أما "اللجنة القضائية المؤقتة" عام ١٩٨٠، والتي أحدثت حراكا مطلبيا مهما داخل قصر العدل، فلم يذهب أعضاؤها (لاسيما كبريال المعوشي ومنيف حمدان) إلى حد الدعوة إلى التوقف عن العمل، بالرغم من النبرة العالية والتصادمية التي اعتمدتها اللجنة لتسويق مطالبها. فقد لجأ القضاة حينها إلىاستخدام الإعلام استراتيجيا لمخاطبة القضاة والرأي العام، دون التطرق الجدي لموضوع الإضراب، إلى أن استعملت السلطة ومجلس القضاء سلاح التشكيلات للاقتصاص من قادة الحراك. والعامل المشترك بين هذه الحراكات الثلاثة قد يكون عدم رضى مجلس القضاء الأعلى أو على الأقل تهميشه من قبل القضاة المجتمعين، الذين حاولوا اختلاق حركة قضائية مستقلة عن المجلس تخاطب القضاة والرأي العام مباشرة، ما جعل ربما خيار الإضراب مكلفا مهنيا ففضّل القضاة تجنّبه.

استثناء ١٩٨٢: الإَضراب كسلاح بوجه السلطة في جناحيها القضائي والسياسي

أما تحرّك ١٩٨٢ الكبير، فقد استعمل سلاح الإضراب بشكل أساسي لتحقيق المطالب. وقد تكون هذه الحالة الوحيدة التي أضرب فيها القضاة ليس فقط ضد السلطة بل أيضا في مواجهة رفض مجلس القضاء، الذي وجد نفسه في مأزق بين القاعدة القضائية المستنفرة والسلطة السياسية المستاءة. بدأ هذا التحرّك في أوائل السنة بمبادرة ممّا سمي "اللجنة القضائيّة المهتمّة بمتابعة مطالب القضاة" وهي لجنة مؤلّفة من ١٢ عضوا[5]، ومن بينهم أبرز ثلاثة أعضاء في اللجنة السابقة وهم كبريال معوشي وحسن قواس ومنيف حمدان. ودعت اللّجنة القضاة إلى جمعية عمومية في ٢٧ آذار ١٩٨٢ وأرفقت بدعوتها توصيّة مفادها الدعوة إلى"استقالة القضاة وتوقّفهم عن العمل فوراً إذا لم تتحقّق مطالب القضاة والمساعدين القضائيّين التي بات الجميع يعرفها"، علما أنّ الدعوة وجهت ليس فقط إلى القضاة العدليين إنما أيضا إلى القضاة الإداريين وقضاة ديوان المحاسبة والمحاكم الشرعية. وقد انعقدت الجمعيّة العموميّة بالفعل في التاريخ المحدد بحضور عدد كبير من القضاة (٣٤٧ قاضياً) فانتخبوا لجنة تمثّلهم وأعلنوا بالإجماع التوقّف عن العمل إذا لم تتحقّق المطالب قبل العاشر من نيسان[6].

وقد ظهر منذ البداية تباينٌ داخل الجمعية العمومية بين الخيارين المطروحين، أي "الاضراب أو تقديم استقالات جماعيّة" على خلفيّة خلاف بشأن مشروعيّة الإضراب. وقد تمّ تجاوز هذا التّباين إلى حدّ ما مع تبنّي التّوجه الآيل إلى إعطاء السّلطة مهلة قصيرة (أسبوعين) لتحقيق المطالب تحت طائلة تنفيذ قرار التوقف عن العمل[7]، دون أن يؤدّي ذلك إلى إنهاء الشائعات بشأن نيّة عدد من القضاة بتقديم استقالات جماعيّة، لعدم اقتناعهم بمشروعيّة الإضراب[8]. وكما في مسألة اللجوء إلى الإعلام، تجاوز هنا الجدل مدى توافق الوسيلة مع المناقبية أو الأعراف القضائية ليتناول مدى توافقها مع القانون ولا سيما على ضوء حظر الإضراب الوارد في قانون الموظفين العامين. فكيف للقضاة أن يخالفوا القانون الذي يحظر صراحة على الموظفين التوقف عن العمل فيما أن وظائفهم هي تحديدا ضمان احترام القانون؟ وألا يرمي تصرفهم في كل الحالات إلى تحقيق مصالح مهنية بمعزل عن المصلحة العامة، بل بمعزل عما يتسبب به من أضرار فيما يتصل بآلاف الموقوفين على سبيل التحقيق؟ وهذا ما لقي مساحة واسعة في الإعلام التي ركزت بعض وسائله على وضع الموقوفين. والواقع أن هذه الاعتراضات لم تصدر فقط عن السلطة او عن نواب أو مواطنين، إنما ايضا عن قضاة في التحرك نفسه.

ولعب مجلس القضاء على هذا الوتر الحساس، إذ أوفد إلى الجمعية العمومية في العاشر من نيسان ممثلاً عنه هو رئيس التفتيش القضائي عبد الباسط غندور الذي سعى جاهدا إلى ثني القضاة عن هذا القرار، الأمر الذي يشكل دليلا إضافيا على حذر المجلس إزاء التحرك المطلبي. فوقف العمل معناه، برأي غندور، "الخروج عن التزام المناقبية والرسالة التي يحملها القاضي، ويكون بالتالي تصرّفاً غير لائق بالقضاء"[9]، مردفا أنه لا يجب أن "يقال أن القضاة توقّفوا عن العمل لأمورٍ ماديّة. نحن لا نريد أن يقال أن القضاة يريدون تركيع الدولة حتى تتحقّق مطالبهم. هذا الأسلوب غير لائق والدولة الآن على ما هي عليه من ضعف. علينا التحلّي بفضيلة الاتزان، والعمل للحصول على حقوقنا بطرق سلمية". وقد أسفرت مداخلته عن جدل واسع داخل القاعة تميّز بحدّته النسبية، مما أدى عمليا إلى إرجاء قرار الإضراب دون التراجع عن التهديد به.

وبالمقابل، فإن اللجنة بررت وسيلة الإضراب بالطابع الاستثنائيّ للظروف الحالية الذي يفرض تخطّي النصوص والأعراف التي تنظّم عمل القضاء والقضاة في الظروف العادية. فهل من المقبول التكلم على المناقبية القضائية بمفهومها الضيق، وعلى موجب التحفظ، في حين أن سلطة القضاء تنهار، وقراراته تستباح من قبل الميلشيات وقوى الأمر الواقع؟ وعليه، تمّ ربط قرار التوقف عن العمل باعتبارات عدة ك "كرامة" القضاء و"استقلاله" و"استحالة القيام بالمهام الدستورية" في الظروف الحالية. كما عمدت اللجنة إلى نشر دراسة قانونية لأحد أعضائها، القاضي السابق فرنسوا ضاهر، اعتبر فيها أن قرار الإضراب شرعي وقانوني نظرا للأوضاع الحالية. لا بل ذهبت اللجنة أخيرا إلى الإشارة إلى تظاهرات القضاة في فرنسا لتستمدّ من هذه المقارنة مع بلد أوروبيّ شرعية أكبر. 

وعلى صعيد آخر، نلحظ سعيا من القضاة إلى التضامن في إضرابهم مع جميع المهن القضائيّة. ففي إثر بدء تحرّك القضاة، بدأ المساعدون القضائيّون تحرّكاً موازياً عبر الدعوة لاجتماعٍ عامّ في قصر العدل لبحث مطالبهم ودعم مطالب القضاة، بحضور القاضيين المعوشي وحمدان اللذين ألقيا كلمتين داعمتين[10]. هذا مع العلم أن المساعدين القضائيين أظهروا أحياناً عزماً أكبر واندفاعاً أقوى، فلم يتردّدوا مثلاً عن إعلان الإضراب أسبوعين قبل القضاة الذين كانوا يرجؤون قرار التوقف عن العمل من أسبوعٍ إلى آخر[11].

مجلس القضاء مع المطالب ولكن ضد الإضراب

عندما فشلت المفاوضات رغم تمديد المهلة مرّتين في اجتماعين لاحقين، ذهب القضاة حقّا، وللمرة الأولى في تاريخ لبنان (وقد شدّدت على ذلك صحيفة النهار التي وضعت الخبر على صفحتها الأولى) إلى تنفيذ ما هددوا به. فقد قرّر القضاة في اجتماع عمومي آخر في ٢٤ نيسان ١٩٨٢ التوقف عن العمل حتى تحقيق مطالبهم. وقد أبدى القضاة حماسة وتصميما مميزين لدى إعلان قرار الإضراب بحيث اتخذوا القرار في الجمعية العامة وقوفا وبإجماع الحاضرين البالغ عددهم ٣٥٦ قاضيا، رافضين الإقتراع السريّ، وقد تعالى في إثر ذلك التصفيق وتبادل القضاة التهاني مشيدين بالوحدة والقرار التاريخي المتّخذ[12].

وعند هذا الحدّ، ظهر الشرخ بين القضاة المجتمعين من جهة ومجلس القضاء والحكومة من جهة أخرى. فأصدر مجلس القضاء الأعلى في ٢ أيار بيانا يتبنى معظم المطالب، ولكن أرفقه بتحذير شديد اللهجة وبأسلوب لا يخلو من الفوقية للقضاة العدليّين والمساعدين القضائيين المتوقفين عن العمل، داعيّا إياهم إلى استئناف العمل فوراً على أن يعدّ أي "عمل مخالف لهذا القرار وكل إعلان أو بيان أو تصريح يصدر عن أحد القضاة إخلالاً جوهرياً بالخلقية القضائية يستوجب تطبيق القانون الرقم ٤٩/٦٥ تاريخ ٦/٩/١٩٦٥"، أي ما يعرف بقانون التطهير[13]. والواقع أن هذا البيان أحدث انقساما داخل التحرّك، بين الذين أرادوا تعليق الإضراب بحجة أن مجلس القضاء الأعلى تبنى المطالب بزخم مرضٍ، وهم الأكثرية، والذين رأوا، على العكس تماما، في تهديدات المجلس إذلالا إضافيّا يدعو إلى مزيد من السخط وهم قلة، علما أن بعض القضاة طالب المجلس بسحب التهديد بالتطهير كشرط لمعاودة العمل[14]. وكان الأعضاء المخالفون لتعليق الإضراب (وأبرزهم المعوشي وحمدان) رأوا في بيان مجلس القضاء الأعلى استفزازا ومحاولة إضافية لإذلال القضاة، مما حداهما إلى الطعن بصفة المجلس التمثيلية وتصعيد المواقف الإعلامية على نحو يذكر بالمواقف التصعيدية في نهاية تحرك 1980. وقد ذهب حمدان إلى حدّ الدعوة إلى مؤتمر صحافي، وهو مؤتمر تم منعه وسط حصار أمني شبه كامل للعدلية.

وكما القضاة، انقسم السياسيون حول الإضراب ومشروعيته. ومن أبرز الداعمين النائب حسن الرفاعي الذي اعتبر أنه "كان من المفروض أن يعلن القضاة الإضراب منذ زمن"، مضيفاً أنه "إذا عرفنا دافع تصرّف الحكومة عموماً ووزير العدل خصوصاً يصبح إضراب القضاة أكثر من مبرّر"[15]. وبرز رأي النائب ألبير مخيبر الذي أعلن مساندته "لمطالب القضاة المحقّة"[16]، وإن أبدى ارتياحه لوضع حدّ للإضراب الذي وصفه ببلبلة "تسيء في النهاية إلى كرامة المؤسسة القضائية"[17]. ومن أكثر المواقف سلبية موقف رئيس لجنة الإدارة والعدل النائب أوغست باخوس. فبالرغم من إعلان دعمه لمطالب القضاة، وجّه كتاباً مفتوحاً إليهم يناشدهم فيه الإقلاع عن فكرة الإضراب "والترفّع عن الانزلاق العاطفي لأن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان"[18]! وبدوره أهاب نائب رئيس مجلس النواب منير أبو فاضل بالقضاة "أن يلاحقوا مطالبهم بالطرق القانونية خصوصاً أن اللجان المشتركة أبدت كل استعداد للدفاع عن قضيتهم المحقة"، كما اعتبر أنه "لا يجوز أن يهدّدوا بالإضراب وهم الذين يحاكمون من يحرّض عليه"[19]، وهي إشارة جديدة للوظيفة الطبقية التي يتوقعها العديد من النافذين من القضاء.

 وقد أدى الجدل الحاصل بالنتيجة إلى تعليق التحرك حتى ٧ حزيران، أي بحدود المهلة التي كان مجلس القضاء قد أعطاها للحكومة لتحقيق المطالب. وقد علق يوسف جبران على هذه الخطوة واصفا اياها بالعظيمة وأنها "تنسجم مع مبدأ الانضباطية القضائية"[20]، مدلياً بأن مجلس القضاء لا يتراجع عن قراره لأنه "يستمد وجوده من الشعب وهو يعمل لمصلحة الشعب فقط [21]". وقد جاء الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان في ٥ حزيران ١٩٨٢ ليقلب المعادلة القضائية، بحيث علق مجلس القضاء الأعلى التحرك "تغليباً للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة"[22].

بعد الإضراب الكبير: إنشاء صندوق تعاضد القضاة وحذر إزاء أي تحرك مماثل

تبعا للإضراب الكبير، تم اتخاذ تدابير عدة تمحورت حول مسألتين: قبول عدد كبير من مطالب القضاة على الصعيدين المادي والمعنوي، في موازاة السعي إلى كبح نشوء تحركات جماعية مستقبلا.

على صعيد المطالب
حدثان كبيران حصلا على صعيد المطالب.

  • الأول، تمثل في إنشاء صندوق تعاضد القضاة الذي كان أحد أبرز مطالب القضاة وذلك بموجب المرسوم الاشتراعي رقم 52 تاريخ 29-07-1983، 
  • الثاني، تعديل النصوص القانونية في اتجاه تدعيم استقلال القضاء في بعض جوانبه المؤسساتية، وخصوصا بما يتصل بعمل هيئة التفتيش القضائي وصلاحياتها، وذلك بموجب المرسوم الاشتراعي رقم 150 تاريخ 16-09-1983 قانون القضاء العدلي،

    وبذلك، بإمكان قضاة تحرك 1982 أن يفاخروا رغم الانتقادات الكثيرة التي وجهها لهم مجلس القضاء الأعلى والسلطة السياسية أن نضالهم أدى إلى تحقيق مكاسب مالية ومعنوية، من أبرزها صندوق تعاضد القضاة، الذي سيشكل خلال التسعينيات خشبة الأمان للكثير منهم.   

على صعيد حراك القضاة: ضبطه من دون منعه
هنا، التعديل الأساسي تمثل في المادة ٤٤ من قانون القضاء العدليّ المعدّل (والتي تنصّ على أنه "مع مراعاة الأحكام الواردة في المرسوم الاشتراعي رقم ١١٢ تاريخ ١٢/٦/٥٩ (أي نظام الموظفين)، كل مطلب جماعي وظيفي يجب أن يمرّ عبر مجلس القضاء الأعلى") قد عُدّلت بموجب المرسوم الاشتراعيّ الصادر بتاريخ ٢٣/٣/١٩٨٥، أي ثلاث سنوات بعد الإضراب الكبير، بشكل يوحي أنّه جاء على خلفية تحرّكات اللجنة القضائية وإضرابها، وما تخللها من تنازع بين القضاة ومجلس القضاء الأعلى.

وأصبحت هذه المادة تضع عائقين أمام أيّ مطلب وظيفيّ جماعيّ للقضاة. العائق الأول هو ضرورة المرور بمجلس القضاء الأعلى، بما يشكله من رادع للتيارات القضائية الأكثر راديكالية وتصادما مع السلطة السياسية، ومن مُهدّئ للحماسة القضائية المطلبية أو الاستقلالية. فضلا عن ذلك، وضعت المادة عائقا ثانيا مفاده وجوب الالتزام بالمرسوم الاشتراعي رقم ١١٢ تاريخ ١٢/٦/٥٩ (قانون الموظفين) الذي يمنع الانضمام إلى منظمات أو نقابات مهنية والإضراب أو التحريض على الإضراب. وإذا عرفنا أن قانون القضاء العدلي نص صراحة في أحد أحكامه الختامية العامة على أن قانون الموظفين يطبق في كل ما لا يتعارض مع نصوصه، يظهر أن تضمين المادة ٤٤ نصا خاصا بهذا الشأن ينم، ليس فقط عن نيّة مضاعفة لدى المشرع في كبح أي تحرك مستقبلي مشابه لتحرّك ١٩٨٢، إنما أيضا عن تحسب إزاء أي تفسير للمادة ٤٤ من شأنه تشريع التوجّهات النقابيّة أو الاضراب أو ما شابه.

إلا أنه ورغم الطابع المقيّد لهذا النص لحرية القضاة، من اللافت أنه أبدى انفتاحا معينا إزاء التحركات المشتركة للقضاة. وهذا الأمر يتحصل من التسليم بحرية القضاة في صياغة مطالب جماعية مما يفرض التباحث والتلاقي والتجمع لهذه الغاية. وهذا ما سيستخدمه القضاة في ظل الظروف الصعبة للعقود التالية لدعوة القضاة للتوحد على مطالب جماعية. ومن أبرز هذه التحركات وأشهرها المطالب التي قدمها أكثر من ٣٠٠ قاضٍ في حزيران ١٩٩٧ ورفعت إلى مجلس القضاء الأعلى سندا للمادة ٤٤ المذكورة، في موازاة نشرها في وسائل الإعلام. وعلى غرار تحركات ١٩٨٢، تضمنت هذه العريضة/المطلب جملة من المطالب المادية (ومن أبرزها تحسين موارد صندوق التعاضد عبر زيادة مساهمة الدولة وفصل القضاء عن الوظيفة العامة والمساواة الكاملة مع السلطتين التشريعية والتنفيذية) والمعنوية (منح مجلس القضاء الأعلى كل ميزات الإستقلال على الصعيدين المالي والإداري، ومنها إجراء المناقلات والتعيينات) لضمان استقلالية القضاء.

وقد اعتبر هؤلاء أن العريضة خطوة أولى تحذيرية تنتهي مهلتها مع بدء السنة القضائية التالية أول تشرين الأول ١٩٩٧ وقالوا إن خطوات لاحقة قد تعقبها إذا لم تنفذ. كما شددوا على احترامهم لسلطة مجلس القضاء الأعلى وأوضحوا أن رفع الصوت من خلال العريضة يتمّ "عبر مجلس القضاء الأعلى وليس ضده أو بغضّ النظر عن رأيه[23]". وقد كان لهذه العريضة أثر كبير. فعدا عن تأييد مجلس القضاء الأعلى لبعض مطالبها، نجح القضاة في انتزاع مضاعفة لرواتبهم في سنة ١٩٩٨ والأهم بتحفيز القوى السياسية على إطلاق ورشة تشريعية لم يشهد لبنان لها مثيلا لها في مجال القضاء، وتمثلت في تقدم العديد من النواب لاقتراحات قوانين لتكريس السلطة القضائية المستقلة.

 

للاطلاع على المقال باللغة الانجليزية، انقر/ي هنا

 


[1] بعد اعتكافهم الأول في آذار الماضي.
[2] أنظر مثلا في حالة نقابة القضاة الفرنسيين عندما أضربوا عام ١٩٧٦:Liora Israël, 2009, “Un droit de gauche ? Rénovation des pratiques professionnelles et nouvelles formes de militantisme des juristes engagés dans les années 1970”, Sociétés contemporaines, num. 73, p. 60.
[3] للاطلاع على دراسة مفصلة حول هذا الموضوع، أنظر: نزار صاغية وسامر غمرون، ٢٠٠٩، "التحركات القضائية في لبنان"، في نزار صاغية (إش.)، حين تجمع القضاة، بيروت: دار صادر. وقد استعملت عدة مقاطع من هذا البحث في المقال الحالي.
[4] تولى تجميع التواقيع بشكل خاص القاضيان عمر الناطور و خضر زنهور.
[5] هؤلاء الأعضاء الجدد هم: عبد الكريم سليم، رشيد حطيط، عدنان عضوم، مختار سعد، نديم عبود، يوسف سعدالله الخوري، نصرت حيدر، شبيب مقلّد، فرنسوا ضاهر والياس الخوري.
[6] النهار, ٢٨/٣/١٩٨٢.
[7]وقد قدم الاقتراح الشيخ حليم تقي الدين (رئيس المحاكم المذهبية الدرزية) بامهال السلطة لأسبوعين، النهار، 27/3/1982 .
[8]النهار، ٢٧/٤/١٩٨٢.
[9] النهار، ١١/٤/١٩٨٢.
[10]النهار، ١/٤/١٩٨٢.
[11]النهار، ١١/٤/١٩٨٢.
[12] كما ورد حرفياً في صحيفة النهار، ٢٥/٤/١٩٨٢.
[13]  أنظر : جويل بطرس، ٢٠١٦، "تطهير القضاء 1965-1966 (1): قانون رفع الحصانة عن القضاة"، المفكرة القانونية، عدد ٣٦.
[14] النهار، ٦/٥/١٩٨٢.
[15] النهار، ٢٩/٤/١٩٨٢.
[16] النهار, ١٠/٤/١٩٨٢.
[17] النهار، ٦/٥/١٩٨٢.
[18] النهار،١٧/٤/١٩٨٢.
[19] النهار، ٢١/٤/١٩٨٢.
[20] النهار، ٨/٥/١٩٨٢.
[21] النهار، ٦/٥/١٩٨٢.
[22]ا لنهار، ٦/٦/١٩٨٢.
[23]  سامر غمرون ونزار صاغية، المرجع المذكور أعلاه، ص. ١٠٤.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني