بيان للمفكرة القانونية دعماً لقضاة لبنان: التعرض المنتظم لاستقلالية القضاء تقويض لأسس الدولة


2017-07-20    |   

بيان للمفكرة القانونية دعماً لقضاة لبنان: التعرض المنتظم لاستقلالية القضاء تقويض لأسس الدولة

للمرة الثانية خلال هذه السنة، أصدر مجلس القضاء الأعلى بتاريخ 19/7/2017 بياناً أعلن فيه اعتكاف القضاة عن العمل. الحدث هامّ رغم حصوله في العطلة القضائية: فلم يحصل يوماً أن كرّر مجلس القضاء الأعلى اعتكاف القضاة عن العمل مرتين في السنة نفسها، وهو يعبر عن مدى الاستياء الذي يشعر به القضاة من جراء ما وصلت إليه أوضاعهم المعنوية كما المادية، ولا سيما على ضوء ما تضمنه قانون تعديل سلسلة الرتب والرواتب من تعديلات بحقهم. اللغة المستخدمة أيضا لم تكن اعتيادية: فالمجلس اتّهم المجلس النيابي من دون لبس ب "تكرار عدم التجاوب مع الطروحات المحقة التي كان قد أبداها" وعدم "التعامل مع القضاء وفقاً للدستور على أنه سلطة". والأهمّ، رأى المجلس أن القانون الذي تم إقراره يشكل مسا بالمقومات اللازمة لنهوض السلطة القضائية بدورها ومنها صندوق تعاضد القضاة ووجوب عدم تجاوز راتب الموظف راتب القاضي". وقد ناشد البيان الرؤساء الثلاثة التدخل الفوري لإجراء معالجة تشريعية للقانون الذي أقره مجلس النواب من دون توضيح شكل هذه المراجعة أو مداها. ويلحظ أن البيان صدر بعد ست ساعات من الاجتماع المتواصل وأن حوالي 50 قاضيا من مختلف الدرجات تداعوا من خلال مجموعة الواتساب للاجتماع في قصر العدل في بيروت وأنهم انتظروا قرار مجلس القضاء الأعلى لأكثر من خمس ساعات. تعليقا على ذلك، وعطفا على بيانها الصادر في 14/3/2017، يهمّ المفكرة القانونية أن تبدي الملاحظات الآتية:

1- أن تكليف الحكومة بإعادة النظر بسياسات الدعم القطاعية بما فيها مساهمات الدولة في صندوق تعاضد القضاة، مخالفة لمعايير استقلال القضاء المالي وتاليا للدستور، من زاويتين اثنتين:

  • الزاوية الأولى، أن القضاة سيجدون أنفسهم في جانب آخر من مساراتهم المهنية، تحت رحمة السلطة التنفيذية التي ستتحكم بفعل هذا التكليف بإحدى ضماناتهم الحياتية الأساسية،
     
  • أن هذا التكليف سيفتح الباب أمام تجريد القضاة من إحدى الضمانات الدستورية، وهي ضمانة الإستقلالية المالية، من دون إعطائهم ضمانات رديفة مماثلة، مما يشكل إخلالا بالدستور عملا بمبدأ عدم جواز تخفيض أي من الضمانات الدستورية من دون إيجاد بدائل موازية لها،
     

2- أن جعل رواتب موظفي الفئة الأولى أعلى من رواتب القضاة يشكل منعطفاً خطيراً في النظام الدستوري والقانوني اللبنانيين، وهو يتعارض كليّا مع مبدأ فصل السلطات ومع المادة 20 من الدستور اللذين كرّسا القضاء كسلطة، الأمر الذي يفرض إعمال الموازاة بين رواتب القضاة والنواب أو الوزراء. وهو يتعارض أيضاً مع قانون 284/1993 الذي كان فصل سلسلة رواتب القضاة عن سلسلة رواتب موظفي الدولة بموجب القانون 284/1993، وذلك بهدف إعادة النظر فيها بما يتفق مع كون القضاء إحدى السلطات الثلاث. وقد ورد في الأسباب الموجبة للقانون آنذاك اعتبارات عدة، منها تأمين استقلالية القضاء وضمان صفاء ذهن القاضي واستقطاب العناصر الجيدة والكفؤة إلى سلك القضاء. فضلا عن ذلك، تعكس هذه الانعطافة تقييماً تشريعيّاً دونيّاً للقضاء ودوره الإجتماعيّ. فكأنما يراد القول بأن مقام القاضي أقلّ شأناً من موظف الفئة الأولى في الإدارات العامة، الأمر الذي يبرّر أن يكون راتبه أدنى من راتب هذا الأخير. وهو يشكل من هذه الزاوية رسالة إحباط للقضاة مؤدّاها فرض تصوّر دونيّ لوظيفتهم، ويدفع في الوقت نفسه، أصحاب الكفاءة إلى تفضيل العمل في الإدارة العامة على العمل في القضاء. ومن شأن كل ما تقدم أن يُضعف أيّ جهد مستقبليّ لاستقطاب أفضل خرّيجي الجامعات في القضاء، وبخاصة في ظل التعديات المستمرة على استقلال القضاء والمساعي المتواصلة لاستتباعه.
 

3- أن إقرار هذا القانون يأتي تبعا لممارسات مزمنة ومتكررة تقوم بها السلطات العامة والقوى السياسية والنافذة بانتظام وتؤدي إلى إضعاف القضاء والمس بجميع جوانب استقلاله وترسيخ ثقافة التدخل في القضاء على أنقاض ثقافة استقلال القضاء. وخير دليل على ذلك هو التعطيل المستمر لمراسيم التشكيلات والمناقلات القضائية منذ 2010 فضلا عن ممارسات أخرى لا يتسع هنا الحديث عنها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن أي ملاحظات توجّه إلى أداء القضاء اليوم لا تبرر إطلاقا الخطوات التشريعية المتخذة: فالنتيجة العملية الوحيدة لتخفيض ضمانات القضاة المالية هي تحميل جميع القضاة وزر أخطاء أو إهمال بعضهم (وهي عقوبة جماعية) وإرغام القضاة الأكفاء والنزهاء (والذين يشكلون ثروة وطنية حقيقية) على الاستقالة وثني أي عنصر كفؤ ونزيه عن توسّل الدخول إلى القضاء مما يحرم القضاء من أي إمكانية للحفاظ على طاقاتها وتطويرها. الحل يكمن على العكس من ذلك تماما في إطلاق ورشة إصلاحية يكون عنوانها الأساسي تعزيز ضمانات استقلال القضاء وجاذبيته. فيشجع ويكافأ من يستحق؛ وتحاسب الأخطاء محاسبة فردية وليس جماعية.

وتبعا لذلك،

– وإذ تؤكد المفكرة أن بناء الدولة لا يستقيم من دون تعزيز استقلال القضاء ومنعته،

– وأن أي تعرض لاستقلال القضاء هو تهديد لحق كلّ مواطن باللجوء إلى قاض مستقل وكفؤ، فضلا عن كونه مخالفة دستورية،

– وأن المسألة المطروحة ليست مسألة فئوية تخص القضاة أو كرامتهم وحسب، بل هي مسألة وطنية ودستورية تتصل بجميع المواطنين وحقهم بالكرامة والعدالة والحرية. 

فإنها:

  • تدعو رئيس الجمهورية ميشال عون إلى إطلاق ورشة حوار وطني واسع بالتنسيق مع مجلس القضاء الأعلى وبمشاركة المحامين والجامعيين والنواب والمنظمات الحقوقية والهيئات القضائية لاستشراف الإصلاحات التشريعية والتنظيمية الضرورية لشؤون القضاء ولتعزيز استقلاليته وشفافيته. فقد آن الأوان للتعامل مع استقلال القضاء وإصلاحه على أنه أولوية اجتماعية،
     
  • تدعو النواب اللبنانيين الرافضين لهذا القانون إلى تقديم طعن أمام المجلس الدستوري بالبند المتصل بتكليف مجلس الوزراء إعادة النظر في صندوق تعاضد القضاة على أساس مبدأ عدم فصل السلطات والمادة 20 من الدستور، على أن يقدموا في حال رد طعنهم قانونا معجلا لصون الضمانات المالية للقضاة،
     
  • تدعو نقابتي المحامين في بيروت والشمال ومجمل القوى الاجتماعية ووسائل الإعلام إلى دعم جهود مجلس القضاء الأعلى والقضاة في ضمان حقوقهم المالية لما يصب في مصلحة المواطنين كافة،
     
  • وأخيرا تدعو صدقا جميع القضاة إلى تشكيل هياكل قضائية داعمة للهيئات القضائية وقادرة على الدفاع عن مصالحهم المعنوية والمادية، وتاليا عن استقلالهم، وذلك تيمنا بالتجارب الرائدة التي قادها نخبة من القضاة اللبنانيين أبرزهم الراحلين نسيب طربيه وعبد الباسط غندور.
انشر المقال

متوفر من خلال:

استقلال القضاء ، لبنان ، مقالات ، حريات عامة والوصول الى المعلومات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني