إشكالية تحكم السلطة التنفيذية في الخريطة القضائية بالمغرب (تعليق على مشروع قانون التنظيم القضائي)


2017-07-19    |   

إشكالية تحكم السلطة التنفيذية في الخريطة القضائية بالمغرب (تعليق على مشروع قانون التنظيم القضائي)

قانون التنظيم القضائي في المغرب هو القانون الذي يهتم بتنظيم عمل الهيئات القضائية وتأليف المحاكم وتنظيمها وتحديد اختصاصاتها وتفتيشها وتدبيرها إداريا وماليا.

ويعتبر مشروع القانون  رقم 15-38 المتعلق بالتنظيم القضائي المعروض حاليا على الغرفة الثانية للبرلمان المغربي[1]، رابع مشروع رئيسي منذ قرن من تواجد المحاكم العصرية بالمغرب. فبعد ظهير(قانون) 12 غشت 1913 في فترة الحماية ثم المرسوم الملكي المؤرخ في 3 يوليوز 1967 عقب قانون التوحيد والتعريب والمغربة[2]، فظهير(قانون) 15 يوليوز 1974 إثر ما عرف بالإصلاح القضائي[3]، جاء المشروع الحالي في ظرفية خاصة تميزت بارتقاء دستور 2011 بالقضاء كسلطة قائمة الذات ومستقلة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية. وقد تضمن المشروع خلاصة توصيات جلسات الحوار الوطني حول الإصلاح الشامل والعميق لمنظومة العدالة. كما سعى إلى إعادة النظر في تنظيم تشريعي أرهقته كثرة التعديلات وأخرجته عن روحه بسبب جملة من التجارب التي كان التنظيم القضائي المغربي حقلا لها.

ويلحظ أن المشروع الجديد تضمن حوالي 110 فصلا مقابل 28 فصلا في القانون الحالي، بمعنى أن الفصول تضاعفت ثلاث مرات، وحملت هذه الطفرة الكمية تغييرا على مستوى الشكل والمضمون.

فمن ناحية الشكل، أصبحنا الآن أمام مدونة متكاملة للتنظيم القضائي تم الدمج في طياتها كل النصوص المتفرقة هنا وهناك كالأحكام المتعلقة بتنظيم قضاء القرب والمحاكم الإدارية ومحاكم الاستئناف الإدارية  والمحاكم التجارية ومحاكم الاستئناف التجارية. ويحتاج هذا المشروع إلى أكثر من قراءة متخصصة للوقوف على الجوانب الإيجابية فيه وكذا ما حمله من سلبيات على مستوى المواضيع التي ينظمها.

وسوف نقف في هذا المقال على موضوع واحد من المواضيع التي ينظمها قانون التنظيم القضائي، يتعلق  بالخريطة القضائية، متسائلين في البداية عمن يضع هذه الخريطة  في القانون الحالي وفي المشروع الجديد، وما إذا كان ذلك ينسجم مع الوضع الجديد الذي أضحت عليه السلطة القضائية بالمغرب.

وضع الخريطة القضائية من خلال مشروع قانون التنظيم القضائي

ينص القانون المتعلق بالتنظيم القضائي لسنة 1974 الذي لا زال العمل جاريا به حتى الآن في الفصل الأول منه على أن الخريطة القضائية التي تشمل تعيين دوائر المحاكم التي يشملها التنظيم القضائي وتحديد مقارها يكون بمرسوم صادر عن رئيس الحكومة. بل أكثر من ذلك، نص الفصل الثاني من ذات القانون على أنه "يمكن تكليف قاض أو أكثر من قضاة هذه المحاكم (المقصود المحاكم الابتدائية) بمزاولة مهامهم بصفة قارة في أماكن توجد داخل دائرة نفوذها وتحدد بقرار لوزير العدل". وهذا الأمر يعني أن لوزير العدل وحده أن يتحكم في الخريطة القضائية داخل حدود دائرة اختصاص المحاكم الابتدائية التي تتسم بالشساعة أحيانا في المغرب.

وقد حافظ مشروع قانون التنظيم القضائي الجديد على هذا الوضع  وأضاف إليه بعض المقتضيات والمعايير الجديدة المتعلقة بضرورة استطلاع رأي المجلس الأعلى للسلطة القضائية والهيئات المهنية المعنية ومراعاة حجم القضايا والمعطيات الجغرافية والديمغرافية والاجتماعية وكذا التقسيم الإداري عند الاقتضاء، وكذا المعطيات الاقتصادية والمالية إذا تعلق الأمر بإحداث محاكم تجارية.

وهكذا نصت المواد 1 و2 و42 و43 و67 على أن دوائر ومقار المحاكم الابتدائية والاستئنافية وأقسام القضاء المتخصص التابعة لهما تحدد بمرسوم حكومي. وقد أضاف المشروع الجديد في مادته الثالثة على إمكانية إحداث ملحقات استئنافية تابعة لمحكمة استئناف معينة داخل دائرة اختصاصها بمرسوم كذلك. كما أن احداث المراكز القضائية التابعة للمحاكم الابتدائية التي كانت تحدث بقرار لوزير العدل صارت هي الأخرى تحدث بمرسوم حكومي.

هل ينسجم تحكم السلطة التنفيذية في الخريطة القضائية مع الوضع الجديد للسلطة القضائية بالمغرب؟

ظلت الخريطة القضائية في المغرب من اختصاص السلطة التنفيذية منذ استقلال المغرب سنة 1956 إلى الآن وفق القوانين الجاري بها العمل ومنها قانون التنظيم القضائي لسنة 1974 الذي لا زال ساريا. ومن الناحية الواقعية، كانت وزارة العدل تشرف على جميع المؤسسات القضائية من المحاكم والمجلس الأعلى للقضاء الذي كان وزير العدل يرأسه نيابة عن الملك. كما كانت ولا زالت تهيئ مسودات القوانين المختلفة وتقدمها للبرلمان من خلال  تقنية مشاريع  القوانين الممنوحة للحكومة وتدافع عليها داخل البرلمان من خلال أغلبيتها الحكومية.

وإذا كان وضع الخريطة القضائية بالمغرب بالشكل المشار أعلاه مستساغا في مرحلة معينة ضمن إطار دستوري وقانوني معين، فإنه كان ينبغي على المشرع  المغربي في ظل دستور 2011 أن يضمن لكل سلطة ممارسة اختصاصاتها بشكل واضح تجنبا لهيمنة سلطة على أخرى مهما كانت الأسباب. أما وأنه اتجه فيما يخص وضع الخريطة إلى إعطاء صلاحيات مطلقة للحكومة في إحداث المحاكم جغرافيا وتركيزها  بمدن معينة  بل وخلق مراكز قضائية وملحقات لمحاكم الاستئناف داخل دوائر هذه الاخيرة، فإن ذلك يدخل في باب التعدي على سلطة التشريع الني يبقى لها الحق وحدها في اتخاذ مثل هذه القرارات الكبرى[4] بعد النقاش وتقدير الأمور حق قدرها والاستناد إلى معطيات موضوعية[5] بهدف تقديم خدمة قضائية ذات جودة كبيرة وضمان استعمال موارد الدولة في محلها وعند الحاجة اليها.

ويجدر بنا في هذا المقام التساؤل عن نتائج الممارسة السابقة للحكومة في وضع الخريطة القضائية بالمغرب طيلة عقود من الزمن وما مدى فعاليتها؟

الواقع أنه من خلال الإطلاع على المراسيم  الحكومية المحددة لدوائر الاختصاص المكاني للمحاكم الابتدائية والاستئنافية والمحاكم المتخصصة وتحديد مقارها وكذا عدد مراكز القضاة المقيمين[6]، فإنه يتضح أن الخريطة القضائية بالمغرب وعلى مدى عقود لم تكن تخضع لمعايير موضوعية تستجيب لحاجيات المتقاضين من الناحية الجغرافية والمصلحة العامة من الناحية المادية. ونحن نلقى على سبيل المثال أن إحداث بعض المراكز والمحاكم لم تكن تمليه ضرورة المصلحة العامة وإنما اعتبارات مغايرة. ولو لم يكن الأمر كذلك، فكيف لنا أن نفسر وجود محاكم متخصصة (إدراية وتجارية) في مدينتين متجاورتين لا تزيد المسافة بينهما عن 50 كيلومتر تقريبا، هما مدينة مكناس وفاس وسط المغرب، بينما تصل المسافة الفاصلة بين محاكم متخصصة في مناطق أخرى إلى مئات الكيلومترات (مثال مدن: الداخلة والعيون مع اكادير ومدينة الحسيمة والناضور مع وجدة وبني ملال مع الدار البيضاء) مع أن بعض هذه المدن تعرف نشاطا اقتصاديا وبحريا أفضل من مدينة مكناس مثلا التي تتواجد بالداخل.

كما أن بعض المراكز القضائية (مركز القاضي المقيم هي التسمية الرسمية) التابعة للمحاكم الابتدائية والتي يبلغ عددها حوالي 180 مركزا[7] غير مشغل دون مبرر (مثلا مركز مدينة الفنيدق قرب تطوان حيث تعاني المحكمة الابتدائية بتطوان من تكدس للقضايا والمركز التابع لها مغلق مند سنوات مع أن المنطقة تعرف كثافة سكانية كبيرة جدا). كما أن بعضها الآخر لا يسجل عددا هاما من القضايا، مثل مركز طهر السوق التابع للمحكمة الابتدائية بتاونات. والسبب كما هو معروف واقعيا هو ان بعض هذه المراكز تم فتحها لغاية انتخابية أحيانا أو إرضاء لرغبات محلية من دون الاستناد إلى معطيات ديمغرافية واقتصادية واجتماعية.

هذا فضلا عن عدم التوازن بين بعض دوائر اختصاص محاكم الاستئناف: فبعض المحاكم الاستئنافية تتبع لها محكمة ابتدائية واحدة، فيما يتم إغراق محاكم أخرى بعدة محاكم ابتدائية وأحيانا بمحاكم لمدن بعيدة عنها (مثلا مدينة ميدلت هي قريبة من مدينة الراشدية التي تتواجد بها محكمة استئنافية وتتبع لها محكمة واحدة. وعوض أن تتبع لها محكمة ميدلت، تم إلحاقها بمدينة مكناس البعيدة عنها والتي تعاني أصلا من تكدس القضايا نتجة شعاعة دائرة اختصاصها).

والخلاصة من كل ذلك أن الخريطة القضائية المغربية الحالية غير فعالة وغير معقلنة، مما يشكل سببا إضافيا لرفع يد السلطة التنفيذية عنها، حيث يقتضي أن تترك لجهة التشريع مع أخد رأي المجلس الأعلى للسلطة القضائية وفق ما يقتضيه الفصل 113 من الدستور والمادة 112 من القانون التنظيمي للمجلس.

 


[1] – للاطلاع على النسخة المعروضة على البرلمان انظر موقع وزارة العدل والحريات المغربية : http://www.justice.gov.ma/lg-1/documents/doccat-4.aspx  تاريخ التصفح هو 14-05-2017 .
[2] – يقصد بقانون التوحيد والتعريب والمغربة قانون صدر سنة 1965 قام من خلاله المشرع بإزالة المظاهر  التي خلفها الاستعمار  من القوانين والمحاكم المغربية بحث جعل المحاكم موحدة ملغيا بذلك التفرقة بين المحاكم العصرية وغيرها وجعل اللغة العربية هي لغة المرافعات بالمحاكم كما قام بتعين قضاة مغاربة للبت في القضايا المعروصة على هذه المحاكم.
[3]– يتعلق الامر بالظهير بمثابة قانون رقم 1.74.338 يتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة المنشور بالجريدة الرسمية بتاريخ 17 -07- 1974 الذي لا زال ساريا حتى الآن.
للاطلاع على هذا القانون انظر موقع وزارة العدل والحريات المغربية: http://adala.justice.gov.ma/production/organisation/ar/338-74-1.htm تاريخ التصفح هو 14-05-2017
[4] – نظر مثلا الفصل 71 من الدستور الذي جعل التشريع فيما له علاقة بالتنظيم القضائي من اختصاص البرلمان ، ونعتبر أن الخريطة القضائية من مشتملات  التنظيم القضائيي وبالتالي لا يجوز استنادها للحكومة .
[5] – تراجع مذكرة نادي قضاة المغرب حول  مسودة  مشروع قانون التنظيم القضائي المقدمة الى وزارة العدل والحريات المغربية  بتاريخ : 14-12-2014  متاحة على الموقع الالكتروني للنادي  :   www.club-magistrats-maroc.com.
[6] – مركز الاقضي المقيم هي تسمية مغربية تطلق على مركز قضائي يكون تابعا للمحكمة الابتدائية  عندما تكون دائرة اختصاص هذه الاخيرة شاسعة ن بحيث قد يتبع لها اكثر من مركز قضائي ن كما هو الحال مثلا للمحكمة الابتدائية بمدينة تاونات – وسط المغرب- التي يتبع لها اربع مراكز.
[7] – احصائيات متوفرة بالموقع الرسمي لوزارة العدل والحريات http://www.justice.gov.ma .

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، استقلال القضاء ، المغرب



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني