شبهات فساد حول “مشروع مياه عين الزرقا”… نموذج لا حالة خاصة


2017-06-02    |   

شبهات فساد حول “مشروع مياه عين الزرقا”… نموذج لا حالة خاصة

30 مليون دولار أميركي هو المبلغ الإضافي الذي صرفه مجلس الجنوب في مشروع مياه عين الزرقا في البقاع الغربي، والذي قدرت كلفته الأساسية ب ـ20 مليون دولار. يتبين من التقرير الذي نشرته جمعية “سكر الدكان” عبر موقعها الإلكتروني وجود “مخالفات فادحة واكبت تنفيذ مشروع مياه عين الزرقا أدت الى قيام شبهات فساد وهدر مال عام طاولت مجلس الجنوب”. ذلك أن دراسة المشروع الأولية “قدرت تكلفته بحوالي عشرين مليون دولار أميركي، إلا أن التكلفة على أرض الواقع تخطت عتبة الخمسين مليون دولار”. هذه الفروقات نتجت عن سلوك “أساليب ملتوية عديدة كانت فاتحتها تقسيم المشروع إلى عدة مراحل، الأمر الذي أوجد وعن قصد إزدواجية في أعمال التحضير والتنفيذ والإشراف حيث تم قبض ثمنها أكثر من مرة”. وفقاً لما يشير إليه تقرر الجمعية.

مخالفات فادحة

يوضح التقرير أنه في 2/9/2002، صــدر عــن مجلــس الجنــوب القــرار رقــم 7517 الذي وافق على تلزيــم أعمــال تنفيــذ مشــروع ميــاه عيــن الزرقــا إلــى المتعهــد “شــركة المــوارد المائيــة والتنميــة (ورد)”. وقد ردّ المجلس قراره الى تقديم “ورد” عرضاً بأدنــى الأســعار. حيث بلغت قيمة العرض حوالي 23 مليار و910 مليون ل.ل. هذا المبلغ كان من المفترض أن يغطي تكلفــة الأشــغال المــراد تنفيذهــا خــلال المرحلــة الأولــى مــن المشــروع. على صعيد الإشراف، أرسى مجلس الجنوب أعمــال الإشــراف علــى المشــروع إلــى «مكتــب المهنــدس بــلال أســعد» علــى اعتبــار أنــه قــدم أدنــى الأســعار فــي عرضــه الــذي بلــغ حوالي 573 مليون و 845 ألف ل.ل.

العمل في المشروع إستمر بين عامي 2003 و2009، فيما كان من المفترض إنجازه خلال عامين، أي أن ينتهي عام 2005. وقد تم تنفيذه على ثلاث مراحل، في كل واحدة منها تلاحظ أعمال مكررة عن المرحلة السابقة، وفقاً لما يبينه تقرير “سكر الدكان”.

المرحلة الأولى، أي “مباشرة في تنفيذ مشروع مياه عين الزرقا”، انطوت على أعمال “وضع الدراسات، القيام بالأعمال المدنية، تمديد الشبكات المائية، التجهيز بالمعدات الميكانيكية والإلكترونية”.

المرحلة الثانية ترمي إلى “متابعة تنفيذ مشروع مياه عين الزرقا”. المفارقة أنها تتضمن نفس الأعمال التي تمت في المرحلة الأولى، أي “وضع الدراسات، القيام بالأعمال المدنية، تمديد الشبكات المائية، والتجهيز بالمعدات الميكانيكية والإلكترونية”. هذا التطابق في عناوين الأعمال يدفع للتساؤل حول المرحلة التي أنجزت بها هذه الاعمال، ولماذا قد يقبض المتعهد عن نفس العمل مبالغ مالية مرتين؟

لهذه الناحية، وفقاً للتقرير، لقد”ثبــت فــي مســتندات الملــف وجــود تداخــل كبيــر بيــن دراســتي المرحلــتين الأولــى والثانيــة مــن المشــروع. أي أن معظــم المعلومــات والتحليــلات قــد وردت مرتيــن، مــن ذلــك أن المتعهــد قبــض  ثمــن الأشــغال والدراســات مرتيــن”.

أما المرحلة الثالثة فتنطوي على أعمال إضافية من نوع “تمديد بعض خطوط الدفع المائية الإضافية”، بالإضافة الى إنشاء محطة تغذية لمحطات الضخ.

المرحلة الأولى إنتهت بزيادة قيمتها ملياري ل.ل، بالإضافة إلى تكلفة الشركة الإستشارية. بالتالي، إنتهت المرحلة الأولى إلى تكليف الخزانة العامة حوالي 27 مليار ليرة، بدل من 24 مليار. هذه التكلفة إرتفعت الى ما يقارب الـ 47 مليار ليرة، في المرحلة الثانية. وذلك بعد إعادة تلزيم شركة ورد نفسها تنفيذ المرحلة الثانية المطابقة ببنودها للمرحلة الأولى، وذلك بقيمة أساسية قدرها حوالي 18 مليار و538 مليون ليرة. إرتفعت الى 20 مليار بسبب زيادات طارئة قيمتها مليار و532 مليون ليرة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن قرار التلزيم لشركة ورد صدر في سنة 2004، أي قبل إنقضاء المدة الأصلية لإنجاز المشروع وكان من المفترض أن تكون عام 2005. أما المرحلة الاخيرة، فقد كلفت حوالي 19 مليار ليرة. وبالنتيجة يكون المشروع قد كلف حوالي 77 مليار و523 مليون ليرة من ضمنها حوالي 11 مليار لتغطية أشغال إضافية غير ملحوظة في عقد التلزيم.

وفقاً لما يبينه التقرير، فإن هذه الزيادات ناتجة عن مجموعة من “العمليات الخلاقة في إرتكاب الفساد”. منها مثلاً إهمال مجلس الجنوب البيانات الموجودة لدى وزارة الطاقة والمياه والتي كانت لتوفر على الخزينة العامة مبالغ كبيرة صرفت في المشروع. وأهم ما يمكن الإرتكاز إليه في هذا المجال كان “الأسعار المعتمدة من قبل الوزارة” والتي تنخفض عن تلك المقدمة من قبل المتعهد. بالإضافة إلى “الدراسات التي قامت بها الوزارة حول المشروع ذاته ما كان من شأنه خفض المصاريف”. هذا مع العلم أن مصاريف بند إجراء الدراسات قد تكرر في المرحلتين.

إلى ذلك يأخذ التقرير على المجلس “عدم القيام بدراسة للمشروع قبل اتخاذ القرار بالتلزيم”، ما يدعو للتساؤل عن المعايير التي اعتمدها مجلس الجنوب للقبول بالسعر المقدم من قبل “ورد”. والأسوأ، أن الدراسات أجريت من قبل المتعهّد نفسه، ما يشكل “مخالفة للمبادئ العامة للتلزيم”. ذلك أن إنجاز الدراسة لمشروع ما من قبل نفس الجهة التي ستحقق أرباحها من تنفيذه لا بد أن يفقدها شفافيته وموضوعيتها. لا تنفصل هذه المخالفة، عن باقي المخالفات المتعلقة بالرقابة على المشروع. فعلى هذا الصعيد، يسجل التقرير مخالفات من نوع “عدم تنظيم كشف مؤقت بالأشغال المنفذة كل شهر كما لحظت شروط وأحكام التنفيذ”، إلى جانب وجود “تجاوز واضح في طول الحفريات من دون مبرر ما زاد من تكلفة المشروع”. إلى ذلك، يشير التقرير إلى أنه “لم يتبين في ملف القضية أي إثباتات لحقيقة وجود الحفريات الزائدة ومدى ضرورتها على أرض الواقع”.

بالإضافة الى ما تقدم من مخالفات يفصلها التقرير بدقة أكبر، ينطوي الملف على “إســتملاكات لم يعد لها لزوم بعــد تغييــر موقــع المشــروع وتنفيذه ضمــن أراضٍ تملكهــا المصلحــة الوطنيــة لنهــر الليطانــي”. مع ذلك “قبض المتعهد ثمن تحضير ودراسة ملف الإستملاكات 17,500,000 ل.ل، فيكــون بالتالــي المتعهــد قــد قبــض مبالــغ عــن غيــر وجــه حــق وبطــرق وأســاليب غيــر قانونيــة” وفقاً لما جاء في التقرير.

إذن يفند التقرير آليات إرتكاب الفساد على الشكل التالي:

  • الإزدواجية في تلزيم الأشغال أدت الى تلزيم الأشغال مرتين في المرحلة الأولى والثانية معاً.
  • زيادة في الأسعار ناتجة عن زيادة في أسعار الحفريات في ملف التلزيم.
  • استدراج عروض على أساس أسعار يقدمها العارض الأمر الذي يفسح المجال لتقديم أسعار لا تتوافق مع الرائجة في السوق.
  • القيام بأعمال دراسية على مرحلتين وهو ما أدى الى قبض ثمن الدراسة مرتين.
  • إصدار جداول مقارنة تهدف إلى تعديل كميات ونسبة وشروط بعض الأشغال التي ينص عليها قرار الإدارة الأساسي في التلزيم أو غيرها من الآليات.
  • لحظ تشييد منشآت ذات تكلفة عالية تتنافى والجدوى الإقتصادية والفنية التي وجدت من أجله.
  • غياب التسعيرة الموحدة لنفس نوع الأشغال بين إدارة وأخرى ما قد يؤدي إلى تجاوز في الأسعار لبعض المشاريع.
  • عدم وجود تسمية موحدة ومحتوى موحد وتسعيرة إفرادية موحدة لنفس بنود الأشغال بين مختلف الإدارات.
  • تجزئة مشروع إلى عدة مراحل ما يؤدي إلى تداخل في الأعمال بين المراحل وقبض الثمن مرتين.

حالة منعزلة أم نموذج لممارسة؟

تلتقي المفكرة القانونية على خلفية هذا التقرير، بكل من رئيس قسم الإقتصاد والمجتمع في جريدة الأخبار الصحافي محمد زبيب، وأمين سر الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية- لا فساد يحيى الحكيم. حيث يوضح كل من زبيب والحكيم، إنطلاقاً من متابعتهما ملفات فساد على إمتداد سنوات مضت، أن الآليات المتبعة في هذا الملف كثيرة التكرار. وهي بالتالي تحولت الى نمط معمم، بدلاً من أن تكون إستثناء يعاقب المتورطون به.

يركز حكيم على “الرقابة” كثغرة أساسية تؤدّي إلى تراكم الفساد: “المشكلة في الرقابة وآلياتها المنسية”. والعثرة الأولى في هذا المجال تتمثل في “النقص الكبير في عدد المراقبين، وعدم إعطاء أهمية كبيرة للتخصص في مجال المراقبة”. مثلاً “يجب أن يكون هناك مراقبون متخصصون بآلية معالجة النفايات الطبية، حيث لا يمكن لعنصر في الدرك أن يقوم بهكذا رقابة”. في الإطار عينه، لا بد من “تفعيل التفتيش المركزي وإدارة المناقصات وإدخال كفاءات الى هذين الجهازين تسمح لهما أن يلعبا الدور الأساسي”. فهذا الواقع  “يشكل عقبة أمام وضع معايير موحدة تتم بموجبها المناقصات، لا سيما في غياب عامل المكننة ومفهوم الحكومة الإلكترونية وما يستتبعه الأمر من شفافية تلقائية ومراقبة سريعة”. إذن، السؤال بالنسبة لحكيم: “لماذا لا تتم المناقصات كلها عبر إدارة المناقصات؟ لماذا تتم عبر مجلس الجنوب ومجلس الإنماء والإعمار ووزارة الدفاع وغيرها من المؤسسات والإدارات؟”.

الإجابة على هذا التساؤل بالإرتكاز الى حديث زبيب يؤدي إلى نتيجة فحواها أنّ النظام المتحكم بتسيير هذه المناقصات يتعمد إنتاج الفساد ومراكمته. ينطلق زبيب من شرح مفصل للمنظومة القانونية التي يفترض أن تتم وفقاً لها المناقصات، بشكل خاص قانون المناقصات العمومية. ليعود ويوضح أن هذه الأحكام “طمست بفعل تراكم المخالفات المكرسة بالأفعال أو بمراسيم وقوانين تمرر من خلال بنود موازنات”. وبالعودة الى القانون، فإنه يكرس مبدأً عاماً يجعل المناقصات بموجبه عامة وعلنية، محدداً بوضوح الإستثناءات عليه. إلا أن هذا الإستثناء تحوّل الى مبدأ، بشكل خاص بعد إنتهاء الحرب اللبنانية. إذ، وبحجة “إعادة الإعمار وتأهيل البنى التحتية بأسرع وقت”، باتت كل المناقصات “محصورة أو بالتراضي بحجة الحاجة للإسراع بتلزيمها وإتمام المشاريع”. أبعد من ذلك، فقد “تمّ ربط هذه الصيغة بالتسويات التي كانت في طور إنعقادها إبان إنتهاء الحرب”. وكان ذلك على مبدأ “شراء السلم الأهلي بالمال”، أي فتح باب المحاصصة على مصرعيه. من هذا المنطلق “خُلقت صناديق ومجالس تمرر السلطة من خلالها المشاريع للمقربين منها والمتمولين”. بالتالي بات كل مجلس او صندوق “محسوباً على جهة نافذة معينة، وتتوزع هذه الجهات المشاريع من خلال هذه الصناديق أو المجالس”. يشير زبيب، الى أنه “على عكس الشائع، فإن نسبة السرقة في العقود الصغيرة أكبر منها في العقود الكبيرة، ليس على صعيد القيمة، بل على صعيد نسبة الهدر مقارنة مع قيمة المشروع الأساسية”. من الأمثلة البارزة الآنية مثلاً “قيمة بند قرطاسية الوزارات في مشروع قانون الميزانية لعام 2017، وهو حوالي ال ـ9 مليارات تقريباً”. بالنتيجة، باتت عموماً “القيمة المعلنة للمشاريع تساوي ثلاثة أضعاف قيمتها الحقيقية”.

الحل من وجهة نظر زبيب يكون بـ “إعادة الإعتبار لإدارة المناقصات وإخضاع الإدارة لأنظمة متشددة تمنعها من مخالفة القوانين، على أن تطبق هذه الأنظمة على القطاع الخاص عند تنفيذه لأي منشأ عام أو تقديمه لأي خدمة عامة”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني