شركة عقارية تحرك الضابطة العدلية: الجزاء كأداة لسحق الضعفاء


2017-06-02    |   

شركة عقارية تحرك الضابطة العدلية: الجزاء كأداة لسحق الضعفاء

تقف "بلطية"، الصيادة الإسكندرانية من الفيلم المصري "بلطية العيمة"، بوجه المستثمر رافضة هدم منزلها. هكذا تدور أحداث الفيلم، حول الإضطهاد الذي تتعرض له مواطنة فقيرة، لحظة مواجهتها لمستثمر يملك من المال والسلطة ما يكفي لهدم المنازل وإقامة مشاريعه على أنقاضها. كثر قد يعتقدون أن قصة "بلطية"، ليست إلا حبكة درامية، ما لم يسمع قصة  عائلة جوزيف ووالدته، وهي قصة حقيقية دارت أحداثها في جبل لبنان.

 وضعت الوالدة، وهي سيدة الستينية، كرسيها عند مدخل العقار الذي يحتوي منزلها، معترضةً طريق جرافة وصلت بمؤازرة عناصر من الدرك، وبقرار من النيابة العامة في جبل لبنان. الهدف كان "تزفيت" (رصفه بالإسفلت) طريق داخلي للعقار، مع ما يستدعيه ذلك من هدم وتكسير. وذلك إنفاذاً لعقد إفراز مطعون بصحته أمام القضاء. إعتراض والدة جوزيف، وإبنها أدى، خلال الأشهر القليلة الفائتة، وحتى اللحظة إلى حماية المنزل الذي تقطن فيه. لكنه لم يفلح في منع الجرافة من الدخول وقتها، وتكسير الأشجار، وصب رقعة من الإسفلت لا تصلح لتسمى طريقاً. منذ ذلك الوقت، تعيش عائلة جوزيف في حالة تأهب مستمر بسبب الضغط الذي يمارس عليها للموافقة على مضمون عقد الإفراز، بالتالي خسارة منزلها.

يتضح لـ"المفكرة" إثر لقائها العائلة ووكيلها القانوني أنها لم تبلغ أي قرار من النيابة العامة يبرر سلوك المخفر تجاهها. وهي بالتالي  لا تعرف من هي الجهة التي تطلب إخراجهم من العقار، ولا تعرف طبيعة النفوذ الذي تملكه لتتحرك الضابطة العدلية ضدها بهذا الشكل الضاغط. وترجح العائلة على ضوء ورود اسم شركة عقارية نافذة في السجلات العائدة للعقار أن تكون هي صاحبة المصلحة فيما يجري، أملا بتنفيذ مشاريع استثمارية في العقار الذي تشغله.

ما قبل "صربا 2015"

لهذه القضية قصتها العتيقة، يسردها جوزيف لـ"المفكرة القانونية" مدعّماً إياها بالمستندات. تعود في بداياتها الى زمن هجرة اللبنانيين إلى القارة الأمريكية. الأخوان طربيه هاجرا، أحدهما إلى أمريكا اللاتينية يوسف والآخرميلاد إلى ما أصبح اليوم الولايات المتحدة الأميركية. أما شقيقتهما ماري، فبقيت في لبنان وفي عهدتها 14 عقاراً تعود ملكيتها للأخوين، وهي تحمل وكالة تسمح لها بنقل حصة صلاح من ملكية العقارات في وقت لاحق لأبنائها. ما لبثت ماري أن استخدمت الوكالة لحصر هذه الملكية بأحد أبنائها، وهو ميلاد العضم الذي كان يعمل كموظف عقاري. وبذلك حرمت بقية أبنائها، من بينهم جد جوزيف لوالدته من حصته.

من جهة ثانية، كان زوج إحدى بنات ماري، هو سمعان الهاشم، يعمل كمخلّص معاملات مالية وعقارية. الأخير، على ما يبدو، أراد أن يرد الصاع صاعين لـ"العضم".فسافر إلى الأرجنتين، وعاد يحمل وكالة باسمه واسم شريك له كنيته الخوري. الوكالة كانت من أبناء غير شرعيين لـ "يوسف"، ادّعى الهاشم أنهم ورثته بموجب قرار حصر إرث صادر وفقاً لما ينص عليه القانون الأرجنتيني. وهذا خلافاً لما ينص عليه قانون الإرث اللبناني لغير المحمديين، الذي كان سيمنح للأولاد غير الشرعيين نصف الميراث فقط. بهذا يكون الهاشم قد حجب الإرث عن كل من أم جوزيف والعضم وبقية أشقائهم.

بالنتيجة، باتت العقارات موزعة حصراً بين العضم، والهاشم مع شريكه. وعليه، سارع العضم، في أوائل التسعينات للطلب إلى القضاء اللبناني بإبطال قرار تنفيذ حصر الإرث الأرجنتيني، طالباً تطبيق القانون اللبناني لحصر إرثه وأخوته من خالهم سليم. وبالفعل، صدر قرار حصر الإرث في لبنان، يحفظ للأخوة من جد جوزيف لأمه، حصة من هذه العقارات. القرار الصادر عام 1991 يثبت لوالدة جوزيف حصّتها من الإرث. وهي بالتالي صاحبة حق ثابت في هذه العقارات بموجب قانون الإرث اللبناني.

كما يظهر أن دعوى حصر الإرث لم تكن سوى جولة في معركة مستمرة بين العضم والهاشم على هذه العقارات. ذلك أنهما، ومنذ أن بات لهما صفة ظاهرية تتيح لهم التصرف بهذه العقارات، أجريا عقود بيع صورية متتالية. يقابل هذه العقود وكالات ينظمها المشترون لمصلحة البائعين، أو رهونات، تضمن عدم تصرف المشتري الصوري بالعقار. بالتالي، تمكنا بموجب هذه العقود من التخفي خلف أشخاص آخرين تظهر أسماؤهم على الصحيفة العقارية. هذه العقود، كما سيتبين لاحقاً، تم الطعن بصحتها أمام القضاء ولا تزال الدعاوى بشأنها عالقة.

العقار 78

ما يهمنا من هذا المقال، هو ما أنتجته هذه التلاعبات على العقار 78 من منطقة صربا تحديداً، حيث يقع منزل والدة جوزيف. وهي تقيم فيه بناءً على عقد إيجار قديم وأيضا بناء على صفتها كوريثة شرعية. والحال أن السند الشرعي لدخولها الى العقار وإقامتها فيه، يستبعد أي تبرير لتدخل القضاء  الجزائي في هذه القضية. خلافاً لذلك، يظهر أنه هناك من يحاول الضغط من خلال الإجراءات  الجزائية على الوالدة للتنازل عن حقوقها، وذلك من خلال الضابطة العدلية والنيابة العامة في جبل لبنان. وهذه حكاية جديدة.

تجلس "أم جوزيف" في مدخل الأرض التي يقوم عليها منزلها. وهو بيت قديم الطراز، يظهر أنه يعود لما يزيد عن نصف قرن. ويجمع المقومات المعمارية للبيت اللبناني القروي البسيط. تصل الجرافة إلى مدخل العقار، يؤازرها مجموعة من الدرك. يقول الدركي أنه يحمل قراراً من مدعي عام جبل لبنان، ويسميه. إلا أنه يأبى تبليغ العائلة مضمون القرار تفصيلاً، كما يرفض تسليمهم نسخة عنه. ترد السيدة: "لم نتبلغ هذا القرار. حقنا أن نتبلغه وأن نعترض عليه قبل أن تفعلوا ما ستفعلونه بالعقار". من جهته، يظهر جوزيف مكرراً للدركي كلاماً بنفس المعنى، علّه يتوقف عند حدود القانون. "حطوا بالسيارة" (أي إحجزوا حريته)، يأتي جواب عنصر الدرك مهدداً جوزيف لثنيه عن الإعتراض . في النهاية تتمكن الجرافة من الدخول، ورمي الإسفلت بشكل يشبه الطريق. يقول جوزيف أن الأعمال تمّت في النهاية خلال ساعات الليل، حيث سخرت سيارات الدرك لإنارة الطريق للجرافة. الأخيرة، عبثت في الأرض، فاقتلعت أشجاراً، ونقلت خزاناً من مكانه ورمته في مكان آخر. هكذا بدأت رحلة تجريد عائلة جوزيف من شعورهم بالأمان داخل مكان سكنهم.

لم يتوقف عناصر الدرك عند هذا الحد، بل عمدوا إلى الدخول بسياراتهم الى العقار خلال ساعات الليل. توثق الكاميرات التي وضعها جوزيف في زوايا عدة من العقار، دخول سيارة الدرك اليه عند الساعة ال 11 قبل منتصف الليل. يتجولون داخله، يترجّل أحد العناصر على قدميه في لحظات لا يظهر خلالها ما يفعله بالتحديد. من جهتهم، مستأجرو الغرفة الجانبية يشتكون من قرع قوي على أبوابهم خلال ساعات متأخرة من الليل من قبل عناصر أمن. كذلك، يذهب عناصر الضابطة العدلية أبعد من ذلك، فيتصلون بـ "جوزيف" لدعوته لشرب "فنجان قهوة" في المخفر. "أجلس في المخفر لساعات متواصلة لا تقل عن الثمانية ربما، تحت هواء المكيف، ومن دون أن يهمس لي أحد بكلمة، فالمطلوب واضح".

يجد جوزيف الأمر واضحاً. "العقار، بسبب موقعه القريب من الأوتوستراد، يقدر بقيمة عالية (حوالي المليون دولار). إنتقال ملكية العقار لأي طرف جديد بالشكل القانوني ومن دون مخاطر لاحقة يحتاج لإنهاء الدعاوى القضائية المسجلة حالياً على صحيفة هذا العقار. أهمها دعوى إبطال الإنتقالات الحاصلة بموجب البيوعات الصورية، ودعوى إبطال معاملة الإفراز. والمعاملة الأخيرة يقصد منها تثبيت صحة عقد توافقي بين المالكين الظاهرين للعقار على تقسيمه بينهم ليتحول إلى عقارات جديدة مستقلة عن بعضها. بالتالي، تخطي هاتين الدعويين، يستدعي القفز فوق القوانين، من خلال استخدام أساليب التخويف. يعني بخوفوا أمي، بتتنازل عن الدعوى وبتقبل بمضمون عقد الإفراز، وقتها بتصير بدون بيت وبيقدروا يعملوا معها التسوية لبدن هي… وقت حدن يصير بدون بيت شو بيطلع بإيدو يعمل؟".

فرضية جوزيف تعيدنا الى السؤال الأساس، حول الجهة النافذة التي تقف خلف ما يحصل. وفقاً لجوزيف، فإن سير الأمور يحمل على الشك بشركة عقارية برز إسمها مؤخراً في المستندات. فبمراجعة الأوراق العقارية، يظهر إسم شركة صربا 2015 في عقد بيع ممسوح، بصفة بائع وشارٍ على حد سواء. فجورج نعمة الله البدوي (شريك في شركة صربا)، وبوكالته عن ربيع جورج الخوري وهو "الشاري الصوري من الخوري (شريك الهاشم في الوكالة من الأبناء الأرجنتينيين)، يبيع نصف العقار المذكور لشركته. بموجب العقد نفسه، يتم تفويض أحد الأشخاص بتنفيذ الطريق الخاص بالعقار، والناتج عن إفرازه، بكلام آخر تنفيذ عقد الإفراز المطعون فيه.  يعزز هذا الشك بعدها بأشهر معدودة، تحديداً بتاريخ 25/60/2015 يتم تسجيل قيد إحتياطي بعقد إفراز يتناول العقار. لتكون بهذا المعنى الشركة العقارية صاحبة مصلحة مباشرة بتنفيذ العقد بأسرع وقت ممكن. بعد تسجيل القيد الإحتياطي المذكور بفترة قصيرة لا تزيد عن ثلاثة أشهر، يبدأ دور الدرك بالضغط على أفراد العائلة وسلبهم شعورهم بالأمان من خلال سلوك لا يمت لدور هذه المؤسسة بصلة.

وكيل عائلة جوزيف المحامي عصام نعيم، يوضح مدى فداحة الأخطاء التي يرتكبها عناصر الأمن. ذلك أنه في "الحالات العادية، أي شخص يسكن في منزل لا يمكن لا للدرك ولا للمدعي العام أن يخرجوه". فالجهة الوحيدة التي يعود لها أن تتخذ هكذا قرار هو "قاضي الحكم، في أسوأ الأحوال قد يتخذ قاضي الأمور المستجلة قراراً بهذا الصدد في حالات محصورة". والحال أنه "بمجرد أن تكون طريقة الدخول شرعية، لا يعود هناك دور للقاضي الجزائي". أما عن قرارات المؤازرة، "فحدود سلطة عناصر الأمن بموجبها، هي حماية الموظف العدلي الذي ينفذ القرار في حال التعرض له، ولا يمكن لعنصر أمن أن يطبق قرار القاضي بالقوة بموجب قرار مؤازرة". الأهم، أن "القانون واضح لناحية منع عناصر الأمن من الدخول إلى منزل أي شخص، حتى لو كان متهما بجرم، بعد الساعة السادسة مساءً، إلا في حالة الجريمة الشهودة".

بالنتيجة، هناك عائلة تواجه اليوم إحتمالاً بهدم بيتها لمصلحة شركة عقارية. وذلك خارج أي إطار قانوني، لا بل من خلال القفز فوق كل القوانين. والأسوأ، هو أن هذه القصة تكاد تكون نموذجا عن كيفية تسخير القانون الجزائي في حالات عديدة كأداة تخويف بوجه الفئات الإجتماعية الأضعف، لمصلحة أصحاب الأموال والسلطة والشركات الإستثمارية.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني