ضرورات مكافحة الإرهاب في مصر تقلص ضمانات المحاكمة العادلة


2017-05-23    |   

ضرورات مكافحة الإرهاب في مصر تقلص ضمانات المحاكمة العادلة

كان تفجير كنيستين في طنطا والإسكندرية، في التاسع من شهر أبريل 2017،  دافعاً لإصدار تعديلات جوهرية على قانون الإجراءات الجنائية وقانون حالات وإجراءات الطعن أمام محكمة النقض وقوانين مكافحة الإرهاب، وهي تعديلات تضمنها القانون رقم 11 لسنة 2017([1]).

بداية، نؤكد أن التعديل الشامل لقانون الإجراءات الجنائية الصادر سنة  1950  كان دوما مطلباً فقهياً وقضائياً ملحاً منذ عدة سنوات. فقد تعددت التعديلات الجزئية على القانون منذ ثورة 1952، إلى درجة قضت على تناسق القانون عند صدوره ومزقت وحدته وقللت من فاعليته في مواجهة الإجرام بالسرعة الواجبة تحقيقاً للردع. لكن، يسجل أن هذه التعديلات لم تهدر الضمانات اللازمة التي تمثل الحد الأدنى لكل محاكمة عادلة منصفة طبقاً للدستور المصري والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي صدقت عليها مصر، وارتفع بها الدستور المصري الجديد إلى مصاف القواعد الدستورية، التي لا يجوز لأي تشريع أدنى من الدستور أن يخالفها.

القانون رقم 11 لسنة 2017 جاء بتعديلات ثلاثة أساسية، قلصت من ضمانات المتهم بجناية، سواء كانت جناية إرهابية أو عادية، وهي تعديلات أقل ما يقال عنها أنها غيرت ثوابت قانونية وتقاليد قضائية راسخة، استقرت في الواقع التشريعي والدراسات الفقهية والممارسة القضائية المصرية منذ بدأ القضاء الجنائي في مصر الحديثة في أواخر القرن التاسع عشر. وقبل أن نحكم على ضرورة وفاعلية هذه التعديلات، نعرض لها ونقارنها بما كان عليه الحال قبل صدور القانون رقم 11 لسنة 2017.

أولاً: أحكام القانون 11 لسنة 2017

أهم ما جاء به القانون يتمثل في تعديلين على قانون الإجراءات الجنائية([2])، وتعديل على قانون حالات وإجراءات الطعن أمام محكمة النقض([3]). يضاف إلى ذلك تعديلات على قانوني مكافحة الإرهاب والكيانات الإرهابية.

سلطة المحكمة الجنائية التقديرية المطلقة في سماع الشهود:
كانت المادة 277 من قانون الإجراءات الجنائية تلزم المحكمة الجنائية بالإستجابة لطلب دفاع المتهم مناقشة شهود الإثبات، وتجيز حضور الشاهد في الجلسة بغير إعلان بناء على طلب الخصوم. وكانت المادة 289 إجراءات تجيز للمحكمة الإكتفاء بتلاوة الشهادة التي أبديت في التحقيق الإبتدائي أو في محضر جمع الإستدلالات أو أمام الخبير إذا تعذّر سماع الشاهد لأي سبب من الأسباب أو إذا قبل المتهم أو المدافع عنه ذلك. ومعنى ذلك أن محكمة الجنايات كانت ملزمة بقبول طلب الدفاع الحاضر مع المتهم بمناقشة شهود الإثبات، وإلا كان حكمها مستوجباً للنقض بسبب الإخلال بحقوق الدفاع.

وبموجب تعديل 2017، تضمنت المادة 277 إجراءات نصاً جديداً يقضي بأن: "يحدّد الخصوم أسماء الشهود وبياناتهم ووجه الإستدلال بهم. وتقرر المحكمة من ترى لزوم سماع شهادته. وإذا قررت المحكمة عدم لزوم سماع أي منهم، وجب عليها أن تسبب ذلك في حكمها". هذا النص المستحدث يقضي على حق المتهم في التمسك بسماع شهود النفي أو مناقشة شهود الإثبات. فمن يسمع من الشهود هو من تقرر المحكمة لزوم سماع شهادته. وقد تقرر وفقاً لسلطتها التقديرية المطلقة عدم لزوم سماع شهادة أي شاهد ممن حددهم الخصوم، ولا تثريب عليها في ذلك متى أوردت أسباباً تقبلها محكمة الطعن لرفض سماع الشهود.

أما المادة 289 إجراءات بعد التعديل، فهي تجيز للمحكمة الإكتفاء بتلاوة الشهادة التي أبديت في التحقيق الابتدائي أو في محضر جمع الإستدلالات أو أمام الخبير إذا تعذر سماع الشاهد لأي سبب من الأسباب، ودون أن يتوقف ذلك على قبول المتهم أو المدافع الحاضر معه أو عنه. فإذا تعذر إعادة سماع الشاهد الذي شهد في التحقيق الابتدائي أو في محضر جمع الاستدلالات أو أمام الخبير، وقررت المحكمة عدم لزوم سماع أي شاهد آخر غيره حدده الخصوم، كان لها أن تكتفي بتلاوة الشهادة التي أبديت في المراحل السابقة على المحاكمة، ولو اعترض المتهم أو دفاعه على ذلك، وتمسك بضرورة سماع الشهود الجدد. ولا يكون فى ذلك إخلال بحق الدفاع يعيب الحكم ويستوجب نقضه.

جواز حضور وكيل أمام محكمة الجنايات عن المتهم بجناية الغائب:
كانت المادة 384 إجراءات تنص على أنه "إذا صدر أمر بإحالة متهم بجناية إلى محكمة الجنايات ولم يحضر يوم الجلسة بعد إعلانه قانوناً بأمر الإحالة … يكون للمحكمة أن تحكم في غيبته، ويجوز لها أن تؤجل الدعوى وتأمر بإعادة تكليفه بالحضور". وكانت المادة 388 تنص صراحة على أنه: "لا يجوز لأحد أن يحضر أمام محكمة الجنايات ليدافع أو ينوب عن المتهم بجناية الغائب. ومع ذلك يجوز أن يحضر وكيله أو أحد أقاربه أو أصهاره ويبدي عذره في عدم الحضور. فإذا رأت المحكمة أن العذر مقبول، تعين ميعاداً لحضور المتهم أمامها". ونظمت المواد 390 إجراءات وما بعدها أثر الحكم الغيابي الصادر من محكمة الجنايات وأحكام إعادة إجراءات المحاكمة الجنائية إذا حضر المحكوم عليه غيابياً أو قبض عليه قبل سقوط العقوبة بمضي المدة.

أما بعد تعديل المادة 384 إجراءات، فيجوز حضور وكيل عن المتهم بجناية الغائب للدفاع عنه أمام محكمة الجنايات. ويكون الحكم الذي يصدر في غيبة المتهم الذي لم يحضر أي جلسة من جلسات المحاكمة الجنائية حضورياً متى حضر وكيله الخاص. أما إذا لم يحضر المتهم بجناية أمام محكمة الجنايات، أصالة أو بالوكالة، وصدر الحكم في غيبته، فإنه يكون حكماً غيابياً. لكن لا يلزم في ظل القانون رقم 11 لسنة 2017 حضور المحكوم عليه أو القبض عليه قبل سقوط العقوبة بمضي المدة لإعادة إجراءات محاكمته بعد سقوط الحكم الغيابي. ذلك أن التعديل الجديد للمادة 395 إجراءات أجاز للوكيل الخاص أن يباشر إجراءات إعادة محاكمة المتهم بجناية المحكوم عليه غيابياً، من دون حضوره أو القبض عليه، ويكون الحكم الصادر في هذه الحالة حضورياً من دون حضور من صدر ضده الحكم أي جلسة من جلسات المحاكمة الجنائية. وبدهي أنه لا يجوز لمحكمة الجنايات في هذه الحالة التشديد عما قضى به الحكم الغيابي، تطبيقاً لقاعدة ألا يضار الطاعن بطعنه، أو بعد التعديلات الجديدة ألا يضار المتهم الغائب بطعن وكيله الخاص. أما المادة 388 إجراءات جنائية، فقد نصت المادة الثامنة من القانون 11 لسنة 2017 صراحة على إلغائها لعدم جدواها، حيث يجوز بعد نفاذ القانون الجديد للوكيل الخاص عن المتهم أن يحضر أمام المحكمة لكى يدافع عنه فى غيابه، وهو ما كان يحظره النص الملغي، الذي كان يجيز فقط حضور الوكيل أو أحد أقارب المتهم الغائب أو أحد أصهاره لإبداء عذر المتهم في عدم الحضور. فلم يكن متصورا قبل صدور القانون محل التعليق أن يحاكم متهم فى غيابه، ويكون الحكم الصادر ضده حضوريا. لكن مالم يكن متصورا قبل الإرهاب، صار قانونا وضعيا نافذا بسبب الإرهاب فى الجرائم الإرهابية، كما فى غيرها من الجنايات. وبدهي أنه يجوز في ظل القانون الجديد حضور الوكيل الخاص عن المتهم الغائب، لا ليبدي عذره، كما كان يحدث من قبل، لكن ليدافع أو ينوب عنه في إجراءات المحاكمة أو إعادة المحاكمة، حتى لا تتعطل الإجراءات بسبب غياب المتهم أو هربه داخل البلاد أو خارجها.

تحول محكمة النقض إلى محكمة موضوع بعد نقض الحكم:
القاعدة المستقرة في الطعن بالنقض أن محكمة النقض باعتبارها محكمة قانون تنظر الطعن بالنقض، فإذا وجدت سبباً لنقض الحكم من الأسباب المنصوص عليها في المادة 30 من قانون حالات وإجراءات الطعن أمام محكمة النقض، نقضته وأعادت الدعوى إلى المحكمة التي أصدرته لتحكم فيها من جديد بهيئة مشكلة من قضاة آخرين، ويجوز عند الإقتضاء إحالة الدعوى إلى محكمة أخرى (م 39 من القانون). وإذا طعن مرة ثانية في الحكم الصادر من المحكمة المحالة إليها الدعوى، تحكم محكمة النقض في الموضوع، وفي هذه الحالة تتبع الإجراءات المقررة في المحاكمة عن الجريمة التي وقعت (م 45 من القانون).

مفاد ما تقدم أن محكمة النقض لا تتحوّل إلى محكمة موضوع إلا بعد نقض الحكم المطعون فيه للمرة الثانية، أي الحكم الصادر من المحكمة المحالة إليها الدعوى بعد نقضها للمرة الأولى. وتلك ضمانة هامة للمحكوم عليه في جناية، تتيح له أن يحاكم مرة ثانية أمام دائرة جديدة غير التي أصدرت الحكم المطعون فيه، وهي ضمانة تعوض المتهم في جناية عن عدم وجود طعن بالإستئناف في الجنايات. فالمتهم بجناية يحاكم أمام محكمة الجنايات فى مصر على درجة واحدة، بينما المتهم بجنحة يحاكم على درجتين([4]). فمن حيث الموضوع المتهم بجنحة يحاكم أمام محكمة الجنح، وله أن يستأنف الحكم أمام محكمة الجنح المستأنفة، التي تنظر الموضوع من جديد طبقاً للأثر الناقل للإستئناف، ولا يخل ذلك بحقه في الطعن بالنقض.

لكن الضمانة المقررة فى الجنايات جرت مصادرتها بالقانون رقم 11 لسنة 2017 بعد تعديل المادة 39 من قانون  الطعن بالنقض، التي ألزمت محكمة النقض في حالة نقض الحكم للمرة الأولى، بسبب بطلان في الحكم أو بطلان وقع في الإجراءات أثر في الحكم، أن تنظر في موضوع الطعن، ولا تعيد  الدعوى إلى المحكمة التي أصدرت الحكم لتحكم فيها دائرة مشكلة من قضاة غير الذين أصدروا الحكم المطعون فيه. ويتبع في نظر الموضوع بواسطة محكمة النقض الأصول المقررة قانوناً عن الجريمة التي وقعت. ويكون الحكم الصادر من محكمة النقض بوصفها محكمة موضوع حضورياً في جميع الأحوال، أي سواء حضر المتهم أو لم يحضر أمام محكمة النقض، وسواء كان الحكم الصادر من محكمة الجنايات حضورياً، بحضور المتهم بشخصه أو ممثلاً بوكيله الخاص في المحاكمة الجنائية أو في إعادة الإجراءات، إذا كان الحكم غيابياً وقام وكيل المحكوم عليه غيابياً بطلب إعادة إجراءات المحاكمة أمام محكمة الجنايات فى غيبة المحكوم عليه .

ولم يخطر ببال من صاغ هذه التعديلات أن يستثني الأحكام الحضورية أو الغيابية الصادرة بعقوبة الإعدام من القواعد السابقة لخطورة هذه العقوبة وما تثيره من جدل. فقد أوجب القانون على النيابة العامة أن تعرض القضية على محكمة النقض مشفوعة بمذكرة برأيها في الحكم، وذلك في ميعاد الطعن بالنقض (ستون يوماً). ففي هذه الحالة، إذا كان مبنى الطعن بطلان في الحكم، نقضت محكمة النقض الحكم وحكمت في الموضوع. وهو ما نصت عليه المادة 46 من قانون النقض بعد تعديلها بالقانون رقم 11 لسنة 2017. 

واتساقاً مع الدور الجديد لمحكمة النقض، التي تتحول إلى محكمة موضوع بعد نقض الحكم الجنائي للمرة الأولى، عدلت المادة 12 من قانون الإجراءات الجنائية التي كانت تجيز للدائرة الجنائية بمحكمة النقض، عند نظر الموضوع، بناء على الطعن في المرة الثانية، حق التصدي وإقامة الدعوى إذا رأت أن هناك متهمين غير من أقيمت الدعوى عليهم، أو وقائع أخرى غير المسندة فيها إليهم، أو أن هناك جناية أو جنحة مرتبطة بالتهمة المعروضة عليها، على النحو المقرر لمحكمة الجنايات في دعوى مرفوعة أمامها طبقاً لنص المادة 11 من قانون الإجراءات الجنائية. فالمادة 12 إ.ج. بعد تعديلها بالقانون 11 لسنة 2017 أصبحت تنصّ على أنّه: "للدائرة الجنائية بمحكمة النقض عند نظر الموضوع، إقامة الدعوى، طبقاً لما هو مقرر بالمادة السابقة (المادة 11). ويعني ذلك أن محكمة النقض، عندما تتحول إلى محكمة موضوع بناء على الطعن في المرة الأولى، يكون لها أن تحاكم متهمين لم يحاكموا أمام محكمة الجنايات أو تحاكم المتهمين الذين حاكمتهم محكمة الجنايات عن وقائع جديدة لم تعرض عليها أو عن جناية أو جنحة جديدة مرتبطة بالتهمة الأصلية التي نظرتها محكمة الجنايات. وبذلك تجرى المحاكمة أمام محكمة النقض للمرة الأولى لمتهمين جدد أو لوقائع جديدة لم تعرض على محكمة الجنايات التى أصدرت الحكم المطعون فيه بالنقض. وفي هذه الحالة نرى محكمة النقض، التى هى فى الأصل محكمة قانون، تتحول إلى محكمة أول وآخر درجة فى الموضوع.

ثانيا: تقييم تعديلات القانون 11 لسنة 2017

لا ننكر أن الظروف التي عجلت بصدور هذا القانون، الذي عدل كذلك قوانين مكافحة الإرهاب وتنظيم الكيانات الإرهابية والإرهابيين، هيأت مناخاً ساعد على تمرير هذه التعديلات التشريعية، المقدمة من الحكومة، حسب ما أفاد به أحد أعضاء اللجنة التشريعية بمجلس النواب المصرى، دون مقاومة تذكر من أعضاء اللجنة التشريعية أو غيرهم من أعضاء البرلمان أو رجال القانون أو القضاء الذين انشغلوا أكثر بمشروع قانون تعديل طريقة اختيار رؤوساء الهيئات القضائية، الذي منح رئيس الجمهورية سلطة اختيار رئيس الجهة أو الهيئة القضائية من بين ثلاثة تختارهم مجالس هذه الهيئات، وقد أذعنت فى نهاية المطاف ونفذت القانون، فيما عدا مجلس الدولة الذى حمل منفردا أمانة الدفاع عن استقلال القضاء.

القانون 11 لسنة 2017 لم يقتصر على التعديلات المذكورة أعلاه، لكنه عدل كذلك القانون رقم 8 لسنة 2015 الخاص بتنظيم قوائم الكيانات الإرهابية والإرهابيين في اتجاه التشديد، فرفع الحد الأقصى لمدة الإدراج على أي من القائمين من ثلاث إلى خمس سنوات. كما أضاف إلى المادة السابعة من ذات القانون في فقرتها الثانية بنداً جديداً برقم (5) يحظر على من أدرج على قوائم الإرهابيين "ممارسة كافة الأنشطة الأهلية أو الدعوية تحت أي مسمّى".

وشدد القانون ذاته أحكام ردّ القضاة المنصوص عليها في قانون المرافعات المدنية والتجارية، في خصوص الجرائم الإرهابية، بإضافة نصّ جديد تحت رقم (50 مكرراً) إلى قانون مكافحة الإرهاب رقم 94 لسنة 2015، فألزم طالب الرد عند التقرير به أن يودع مبلغ ثلاثة آلاف جنيه على سبيل الكفالة، وألزم قلم الكتاب تحديد جلسة لنظر الطلب في موعد لا يجاوز 24 ساعة من تاريخ تقديم الطلب، وتطلب توقيع طالب الرد بما يفيد علمه بالجلسة كي لا يعلن بها. وأوجب على القاضي المطلوب رده أن يجيب بالكتابة على وقائع الرد وأسبابه خلال 24 ساعة من إطلاعه على الطلب. وتقوم الدائرة التي تنظر طلب الرد بتحقيق الطلب في غرفة المشورة، ثم تحكم فيه في موعد لا يجاوز أسبوعاً من تاريخ التقرير بالرد.

هذه الأحكام الجديدة هدفها مواجهة التحايل المقصود به تعطيل الفصل في الدعوى، لكن يلاحظ أن قصر المدد المحددة في هذا النص لا يتيح وقتاً كافياً لطالب الرد أو القاضي المطلوب رده أو الدائرة التي تنظر طلب الرد لتمحيصه والتحقق من جديته وتبين وجه الحقيقة فيه.

ضمان العدالة الناجزة وتقصير أمد التقاضي هدف تسعى إليه الإجراءات الجنائية. لكن بشرط ألا يكون ثمن ذلك التضحية بحقوق الدفاع أو بغيرها من ضمانات المحاكمة العادلة المنصفة. وقد تكون التعديلات التي جاء بها القانون رقم 11 لسنة 2017 فعالة في تقصير أمد التقاضي وتحقيق الردع في الجرائم الإرهابية. لكن عندما يكون المقابل لذلك هو الإستغناء عن سماع أو مناقشة الشهود أمام محكمة الجنايات التي يكفيها أن تسبب رفضها ذلك بكفاية الأقوال التي وردت في محضر جمع الإستدلالات (الذي تحرره جهات الأمن) أو التحقيق الإبتدائي أو تقرير الخبير، فإن التضحية بحق المتهم أو وكيله في حالة غيابه تتضمن إهداراً أو على الأقل انتقاصاً من حقوق الدفاع لا يبرره قصر الفترة التي سوف تستغرقها محاكمة المتهم.

عدم حضور المتهم أمام محكمة الجنايات والإكتفاء بحضور وكيله الخاص يجرد المحاكمة الجنائية من جوهرها، ويجعل من محكمة الجنايات محكمة وقائع، بينما الأصل أنها تحاكم أشخاصاً يجب أن يمثلوا أمامها، للتعرف على قدر الخطورة الإجرامية الكامنة في أشخاصهم من خلال مناظرة المتهم وسماع أقواله وتحقيق أوجه دفاعه ودفوعه واستظهار بواعثه ودوافعه والوقوف على ما أحاط بسلوكه من ظروف لازمة لاستظهار الحقيقة. ذكر البعض أن الدافع من وراء تبنّي هذا التعديل هو تمكين رجال الأعمال الموجودين خارج البلاد من الطعن على أحكام الإدانة الغيابية الصادرة ضدّهم دون اضطرارهم للعودة وتحمل المخاطرة. فإذا برئت ساحتهم، عادوا إلى مصر بأموالهم الموجودة فى الخارج، لكن يظل هناك احتمال ألا يعودوا بعد حصولهم على البراءة أو يعودوا وتظلّ أموالهم فى أمان حيث توجد خارج البلاد.

إضاعة فرصة المحاكمة على المتهم بجناية أمام دائرة جديدة غير التي أصدرت الحكم المطعون فيه، في غياب نظام الاستئناف في الجنايات، يناقض مبدأ التقاضي على درجتين وهو من المبادىء الأساسية للمحاكمة العادلة المنصفة. فمحكمة النقض لن تتمكن من النظر فى الموضوع على النحو الذي تفعله محكمة الجنايات عندما تحاكم المتهم للمرة الثانية بعد نقض الحكم. هذا فضلاً عن أن محكمة النقض محملة بعدد كبير من الطعون بوصفها محكمة قانون، والطعن الجنائي أمامها يلزم للفصل فيه سنوات عدة، فماذا سيكون الحال عندما تلتزم بالفصل في الموضوع؟ هل ستظل محكمة قانون وظيفتها توحيد المبادئ القانونية أم تتحول إلى محكمة استئناف للجنايات وتضيع على المتهم إمكانية الطعن بالنقض؟ لأن الحكم الذي سوف تصدره محكمة النقض، عندما تتحول إلى محكمة موضوع، سوف يكون حكماً حضورياً غير قابل للطعن عليه بالنقض. وإذا تصدت الدائرة الجنائية لمحكمة النقض وأضافت متهمين جدداً أو وقائع جديدة، فإن المحاكمة ستكون على درجة واحدة.

وتفاديا لهذه المساوىء أو تأجيلها إلى حين، قررت بعض الدوائر فى محكمة النقض عدم تطبيق التعديلات الجديدة على القضايا المنظورة أمامها، وتطبيقها فقط على ما يصدر من أحكام جديدة من محاكم الجنايات، وهو مالا يتوافق مع الأثر الفوري للنصوص الجنائية الإجرائية. هنا يمكن أن تختلف الدوائر وتتباين المواقف، وهو ما سوف يوجب تدخلا من الهيئة العامة للمواد الجزائية لتحسم الموضوع.

إذن التعديلات الجديدة، على الرغم من مبرراتها الظاهرية، تنتقص من ضمانات المحاكمة العادلة تحت ستار مكافحة الإرهاب وتضحي بالمحاكمة العادلة، في الوقت الذي كان يمكن فيه تصور وسائل أخرى تحقق الغاية ذاتها دون التضحية بمتطلبات المحاكمة العادلة، ومنها ضمان حقوق الدفاع.

الوسائل الأخرى نراها مثلاً في تفعيل النص الدستوري (م 240 من دستور 2014)، الذي يلزم الدولة بتوفير الإمكانيات المتعلقة باستئناف الأحكام الصادرة في الجنايات في أسرع وقت ممكن، لأن الدستور ألزم بذلك في خلال عشر سنوات من تاريخ العمل به، وليس بعد انقضاء عشر سنوات، كما قد يفهم البعض خطأ.

الوسائل الأخرى نراها كذلك في مواجهة التحديات التي تحول دون إتمام الحاكمات الجنائية في مدة معقولة. فسرعة المحاكمة تعد حقا وصدقا من عناصر المحاكمة المنصفة. لكن السرعة لا تعني التسرع في المحاكمة، لأن التسرع ضد الإنصاف. في هذا الإطار يمكن أن نشير إلى ضرورة توفير الكوادر البشرية المؤهلة، بزيادة عدد القضاة، وكذلك إتاحة الإمكانات المادية اللازمة لإنجاز العدالة بشكل جيد. كما يلزم علاج المشاكل التي تواجه أعوان القضاء من كتبة ومحضرين وخبراء في كافة المجالات.

تحديث القضاء أهم التحديات التي تواجه العدالة الجنائية. والتحديث لا يعني فقط الاستعانة بالتقنيات الحديثة لتحسين فاعلية مؤسسة القضاء والإسراع في إجراءات المحاكمة. فلا ينبغى أن نغفل أن كفاءة القضاة عنصر لازم وضروري للتحديث، ولا تتأتى الكفاءة إلا عن طريق اختيار القضاة من أفضل العناصر، دون وساطة أو محاباة من ناحية، وتطوير أساليب إعداد القضاة وأعضاء النيابة العامة قبل ممارسة الوظيفة القضائية وطوال فترة الممارسة من ناحية أخرى. كما يلزم قبل أي شىء وقف التدخل فى الشأن القضائى وتأكيد الاستقلال المؤسسي للقضاء وفق الضوابط التي حددها الدستور وتؤكدها المواثيق الدولية .

 


([1]) صدر هذا القانون معاصراً لقانون تغيير آليات تعيين رؤوساء الهيئات القضائية رقم 13 لسنة 2017 في 27 أبريل 2017 .راجع المفكرة القانونية: تعديل أليات تعيين رؤساء الهيئات القضائية: مسعى لإحكام السيطرة على القضاء.5 مايو2017 .
([2]) هو القانون رقم 150 لسنة 1950 الصادر في 3 سبتمبر 1950، الذي حل محل قانونى تحقيق الجنايات الوطني والمختلط، وهو القانون الساري حتى تاريخه، على الرغم من خضوعه لتعديلات كثيرة، بدأت فور صدوره مباشرة، بقصد تقليص ضمانات المتهمين وتدعيم سلطات الاتهام والتحقيق،  ولم تتوقف حتى يومنا هذا. 
([3]) هو القانون رقم 57 لسنة 1959 في شأن حالات وإجراءات الطعن أمام محكمة النقض، والباب الثاني منه خاص بالطعن بالنقض في المواد الجزائية.
([4]) يلاحظ أن الدستور المصري الجديد نص في مادته 240 على التزام الدولة باستحداث استئناف الأحكام الصادرة في الجنايات خلال عشر سنوات من تاريخ العمل بالدستور، أي قبل عام 2024.

انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكمة عادلة وتعذيب ، مقالات ، مصر



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني