أبعد من مكافحة العبودية الحديثة، حكمٌ بتطوير الدور الإجتماعيّ للقاضي

أبعد من مكافحة العبودية الحديثة، حكمٌ بتطوير الدور الإجتماعيّ للقاضي

بتاريخ 13/3/2017، أصدر قاضي الأمور المستعجلة في بيروت جاد معلوف قراراً بعدم قبول طلب استرداد حيازة عاملة أجنبية. فهذا الطلب يهدف وفق ما جاء في ختام الحكم إلى استصدار حكم قضائي بنقل حيازة شخص، الأمر المرفوض إنطلاقا من عدد من المبادئ والإتفاقيات الدولية و”لإنطوائه على اعتبار الشخص المعني، موضوع حق ملكية، وهو ما يشكل وجهاً من وجوه الإسترقاق الحديث لا يمكن للقضاء المساهمة فيه أو حمايته”. وكان أحد الأشخاص ادّعى بتاريخ 21/2/2017 بأن حفيدته التي كانت استقدمت عاملة بإسمها، بناء على طلبه وعلى نفقته، لكي تخدمه في المنزل، عادت وأخذت لاحقا العاملة بسبب خلاف نشأ بينهما حول أحد العقارات ورفضت إعادتها له، رغم حاجته هو الكبير في السن لمن يخدمه في المنزل. وإذ برر قيام حفيدته بالمعاملات لصالحه بتعذر انتقاله إلى الدوائر الرسمية لإنجاز المعاملات المطلوبة، خلص إلى القول بأن أخذ العاملة على هذا الوجه، بعدما كان تكبد مصاريف استقدامها وسدد رواتبها وتكاليف إقامتها، يشكل تعديا واضحا على حقوقه. وقد طالب بالنتيجة من القضاء المستعجل التدخل لإلزام حفيدته بإعادة العاملة إليه. وفيما كان بإمكان القاضي أن يعلن عدم قبول الطلب لعدم قانونيته على اعتبار أن الحق المدعى به غير مشروع بداهة، فإنه آثر أن يضع الدعوى في إطارها الإجتماعي، ليوجّه من خلال حيثيات الحكم مجموعةً من الرسائل في اتّجاه المجتمع عامة. وإلى جانب أهمية ما تضمنته هذه الرسائل من نقد وتقييم للأنماط الإجتماعية، فإنّها تفتح في الواقع أفقاً جديداً أمام الوظيفة القضائية، في اتجاه تعزيز طابعها الريادي، بما يتجاوز الإلتزام الضيق بما يضعه المشرع. ومن هذه الزاوية، تشكّل الحيثيات رسالة موجهة ضمنا ليس فقط للمجتمع ككل، بل بالأخص للمهن القضائية، وفي مقدمتهم القضاة والمحامين.   

رسائل نقدية للأنماط الإجتماعية

بالإمعان في حيثيات القرار، نرى أن القاضي معلوف لم يكتفِ بوضع الدعوى في إطارها القانوني، ولكن أيضاً في إطارها الإجتماعي.

فالدعوى وهي “فريدة من نوعها”، تطرح “مسألة أساسية” قوامها “مدى إمكانية قبول دعوى موضوعها تسليم إنسان بناء على علاقة مالية وتعاقدية”. وما أن حدّد طبيعة المسألة، حتى انطلق القاضي في تعداد الأسس القانونية التي لا تجيز ذلك. ومنها، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي نص في مادته الرابعة أنه لا يجوز استرقاق أو استعباد أي شخص، وأنه يحظر الإسترقاق وتجارة الرقيق بكافة أوضاعهما والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي ذهب في الإتجاه نفسه. ولتحديد مفهوم الإسترقاق الوارد في هاتين الوثيقتين، لم يجد القاضي معلوف مانعا أمام اعتماد التعريف الوارد في المادة السابعة من الإتفاقية التكميلية لإبطال الرقّ وتجارة الرقيق والأعراف والممارسات الشبيهة بالرقّ (الذي هو نفسه التعريف الوارد في الإتفاقية الخاصة بالرق 1926) بأنه حال أو وضع أي شخص تمارس عليه السلطات الناجمة عن حق الملكية (كلها أو بعضها)، حتى ولو لم يصادق لبنان على الإتفاقية المذكورة. ويلحظ أن القاضي آثر أن يستخدم في متن حكمه أدبيات الإسترقاق، من دون الإكتفاء بالنظرية العامة لقانون الموجبات والعقود لجهة مشروعية موضوع التعاقد أو سببه وبالتعريفات الواردة في الإتفاقية الدولية لمكافحة الإتجار بالبشر والتي كان أثارها المحامي محمد المغربي، وكيل الحفيدة المدعى عليها. وكأنه بذلك يدق ناقوس الخطر مشدداً على خطورة ما تكشفه هذه الدعوى من رجوع إلى زمان الرقّ الذي اعتقد كثيرون أنه انتهى إلى غير رجعة، أقله في لبنان.

ولإعطاء حكمه (أو بالأحرى تحذيره) البُعد الذي يستحقّ، عمد القاضي معلوف بعد الإنتهاء من درس قانونية الدعوى، إلى وضعها في إطارها الإجتماعي. فرغم أنها “فريدة من نوعها”، فإن خطورتها لا تقتصر عليها ولكن على ما تكشفه من أنماط إجتماعية. وبهذا المعنى، تناول الحكم ضمناً الدعوى المقدمة على أنها كاريكاتور يظهّر بشكل مكبّر وجليّ خطورة ما وصلت إليه العوائد والأعراف الإجتماعية في مقاربة عاملات المنازل والتمييز الذي يستهدفهن حصراً. وإذ استعاد معلوف هنا الأسناد المستخدمة منه سابقا في حكمين سابقين اتصلا بالإحتفاظ بالأوراق الثبوتية للعاملات، لجهة توفر حالة التمييز العنصري وفق تعريف الإتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري[1]، فإنه ذهب أبعد من ذلك في اتجاه مقاربة التمييز ضدهن أيضا في إطار التمييز الجندري القائم على فكرة تدنّي أو تفوّق أحد الجنسين وعلى أدوار نمطية للرجل والمرأة، وفق مفهوم إتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة.

وهو بذلك وجه رسالة نقدية فائقة الأهمية إلى الفئات الإجتماعية كافة، ولا سيما الذين يلجؤون إلى استخدام عاملات منازل، محذّرا إياهم من مغبّة الإنزلاق في التمييزين العنصري والجندري، وصولا إلى استعادة أساليب استرقاق وفق التعريف القانوني لهذا المفهوم. وقد أتبع القاضي معلوف هذه الرسالة النقدية لأنماط المجتمع بالتذكير بمضمون المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (والتي نكاد ننساها جميعا) ب ” أن الناس يولدون أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء”. وكأنه بذلك يضمن رسالته تلك تصوره أو طموحه لما يجب أن يكون المجتمع عليه.

آفاق جديدة أمام وظيفة القاضي

بالإضافة إلى ما تقدم، تضمّن الحكم حيثيات ذات أبعاد وانعكاسات تكاد تكون ثورية على صعيد الوظيفة القضائية. وقد تمثلت هذه الحيثيات ليس فقط في كيفية مقاربة المسألة كوضع الدعوى في إطارها الإجتماعي وصولا إلى استشراف الأنماط والأعراف الإجتماعية التي تظهّرها، ولكن أيضاً في تطوير تقنيات قانونية من شأنها أن توسّع بقدر كبير هامش تدخّل القاضي في مسائل إجتماعيّة عدة وتاليا أن تدفش مبدأ فصل السلطات لمصلحة القضاء. وقد نتج ذلك عن تفسير مفهوم “الدولة” الوارد في إتفاقيتين أساسيتين من إتفاقيات الأمم المتحدة، وهما إتفاقيتي القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري وضد المرأة. ففي الإتفاقية الأولى، التزمت الدولة ب “تعديل الأنماط الإجتماعية والثقافية لسلوك الرجل والمرأة بهدف تحقيق القضاء على التحيزات والعادات العرفية وكل الممارسات الأخرى القائمة على فكرة الدونية أو تفوق أحد الجنسين أو على أدوار نمطية للرجل والمرأة” (مادة 5). وفي الإتفاقية الثانية، التزمت الدولة ب “شجب التمييز العنصري وبانتهاج، وبكل الوسائل المناسبة ومن دون أي تأخير، سياسة للقضاء على التمييز العنصري بكافة أشكاله وتعزيز التفاهم بين الأجناس، وبعدم إتيان أي عمل أو ممارسة من أعمال التمييز العنصري ضد الأشخاص أو جماعات الأشخاص أو المؤسسات وبضمان تصرف جميع السلطات العامة والمؤسسات العامة، القومية والمحلية، طبقاً لهذا الإلتزام، وبعدم تشجيع أو حماية أو تأبيد أي تمييز عنصري يصدر عن أي شخص أو أية منظمة” (مادة 2). فما هي الدولة التي يتعيّن عليها القيام بهذين الدورين الإصلاحيين فائقي الأهمية؟ وأكثر تحديداً، هل يشمل هذا التعريف السلطة التشريعية وحدها، أم أنه يشمل أيضاً السلطة التنفيذية والقضاء بوصفهما من السلطات الدستورية؟ في الحالة الأولى، يتعين على القاضي إنتظار التشريعات التي يضعها المشرع والعمل بموجبها حصراً، وهذا ما يسمى بالتطبيق غير المباشر للإتفاقيات الدولية. وفي الحالة الثانية، يكون القاضي ملزماً بتطبيق الإتفاقيتين مباشرة من خلال الأحكام التي يصدرها، مما يوليه هامشا واسعا للتدخّل وعمليا لاتخاذ مبادرات من شأنها وضع حدّ لهاتين الآفتين الإجتماعيتين. وقد أجاب القاضي معلوف على هذه المسألة ضمناً على نحو يخرج “القاضي” من ثنائية التطبيق المباشر والتطبيق غير المباشر للإتفاقيات الدولية، ويحمّله مسؤولية فصل الدعاوى العالقة أمامه على هدي المبادئ والتوجهات المنصوص عليها فيها. وهذا ما فعله القاضي من خلال التعبير عن إلتزامه بجوهر إتفاقيتي القضاء على التمييز العنصري والتمييز على أساس الجنس وتاليا بمحاربة “التحيزات الإجتماعية” والآراء النمطية المسبقة في هذين المجالين، مع ما يستتبع ذلك من هامش واسع للتدخّل والإجتهاد. وهذا ما عبّر عنه ببلاغ كليّة من خلال الإستفاضة في تعليل القرار وصولا إلى تضمينه دروساً ذات طابع بيداغوجي ضد هاتين الآفتين.  

وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا الحكم يأتي ليستكمل توجّهاً كان اعتمده القاضي نفسه عند النظر في دعوى تتصل بحرية التعبير وتحديداً بحرية نشر المعلومات المتصلة بالفساد. وهذا ما نقرؤه بوضوح في القرار الصادر عنه في 19/11/2016 برد دعوى تقدم بها مسؤول في وزارة الإتصالات وشركة خاصة لمنع وسيلة إعلامية من نشر تحقيق يوحي أنهما ضالعان في الفساد. فإلى جانب تذكيره بمبادئ حرية التعبير وتحذيره إزاء مخاطر ممارسة الرقابة المسبقة على حرية الإعلام، أحال القرار إلى المادة 13 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد والتي وضعت على عاتق الدولة تأمين مشاركة القطاع الخاص في منع الفساد ومحاربته وضمان وصول المعلومات المتعلقة بالفساد إلى الناس، على اعتبار أنّ من شأن ذلك أن يشكل إحدى الوسائل المجدية والوحيدة في بعض الحالات في فضح الفساد ومكافحته. واللافت أن القاضي برر هنا استناده إلى المادة المذكورة بأن القضاء “يشكل السلطة الثالثة في الدولة” (التي التزمت بالإتفاقية من خلال المصادقة عليها) وأنه يكون تاليا ملزما بصفته المذكورة ب “تطبيق الإلتزامات الناتجة عن الإتفاقية المشار إليها متى دخل ذلك ضمن صلاحياته ومتى لم تحدد الإتفاقية طبيعة التدبير أو الإجراء المطلوب من الدولة الملتزمة”. من النافل القول أن هذه الحيثيات تشكّل في عمقها نقدا مبطّنا لتوجّهات معاكسة لمحاكم المطبوعات في لبنان[2] وتشكل سلاحا قانونيا في معركة فضح الفساد ضدّ مساعي الطمس والقمع.

نشر هذا المقال في العدد 49 من مجلة المفكرة القانونية

 


[1]  المرصد المدني لاستقلال القضاء وشفافيته، قرار ثانٍ ضد التمييز العنصريّ: جوازات عاملات المنازل وحريّاتهن ليست لنا، المفكرة القانونية، العدد 14، تشرين الثاني 2016. وسارة ونسا، ضربة قضائية في صميم نظام الكفالة: قاضي الأمور المستعجلة يلزم صاحبة العمل بإعادة جواز سفر العاملة، المفكرة القانونية، العدد 19، تموز 2014.
[2]  رنا صاغية، لمحة سريعة حول قضايا المطبوعات: مقتطفات من دراسة عن أحكام المطبوعات في المنتصف الأول من سنة 2014، المفكرة القانونية، العدد 37، آذار 2016.

انشر المقال



متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، محاكمة عادلة وتعذيب ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، مجلة لبنان ، لبنان ، حقوق العمال والنقابات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني