ماذا تعلمنا قضية الحاجة خديجة؟ (1) الخطاب الشعبوي يشرّع أبواب التدخل في القضاء


2017-05-08    |   

ماذا تعلمنا قضية الحاجة خديجة؟ (1) الخطاب الشعبوي يشرّع أبواب التدخل في القضاء

في أواخر الأسبوع المنصرم، أخذت قضية احتجاز الحاجة خديجة حيّزاً معبّراً في وسائل التواصل الإجتماعي والخطاب الإعلامي عموماً. وقد أخذت القضية أبعاداً إجتماعية فائقة، بالنظر لما تخلّلها من معطيات إنسانيّة مثيرةً للتعاطف والشفقة، وفي الآن نفسه للنقمة ضد النظام اللبنانيّ السّائد. فالحاجة المحتجزة مسنّة (78 سنة) وهي مصابة بمرض عضال (السرطان) ولديها جلسة للمعالجة لن تتمكّن من حضورها لعلّة إحتجازها، والأهم أن إحتجازها تم على خلفية إشادة "خيمة" على سطح مبناها تمكيناً لأبنائها من الإنتقال من الطابق السفلي الرطب إلى مكان أكثر ملاءمة للسكن، كل ذلك في بلد ترتكب فيه معاصٍ هائلة في نهب أموال الدولة وأملاكها العامة من دون حسيب. هذه هي الصورة التي تناقلتها وسائل الإعلام وهي شكلت، بمعزل عن مدى صحتها، منطلقاً للنقاش العامّ في هذا الخصوص.

وفيما اتجهت غالبية التعليقات إلى تعظيم قرار الإحتجاز بالنظر إلى عمر الحاجة ووضعها الصحيّ، في موازاة تسفيه المخالفة المرتكبة منها، ذهبت الخلاصات إلى الطعن بالقضاء الذي يستقوي على الضعيف ويتشدّد في قمع المخالفات الصغيرة من دون أي اعتبار إنسانيّ، فيما هو يغضّ الطرف عن الجرائم الكبرى كجرائم الفساد. وبفعل هذا الخطاب، باتت قضية الحاجة خديجة قضيّة إنسانية شعبية تعبّر عن نقمة إزاء تواطؤ قضاة في مواقع مسؤولية مع النظام السائد وتحوّله إلى أداة لقمع الضعفاء بقسوة مهما صغرت أخطاؤهم وتبييض صفحة الأقوياء والنافذين مهما ارتكبوا وأضرّوا بالصالح العام. وقد عبّرت محطة الجديد في مستهلّ نشرتها في 5/5/2017 عن هذا الشعور العامّ: فبعد إستعادة كمّ من جرائم الفساد التي بقيت من دون ملاحقة، استعملت المحطة صورةً مجازيةً مفادها اعتبار الحاجة خديجة مسؤولة عن كل الفساد وهبوط النمو في لبنان.

وفيما اتضح فيما بعد أن ثمة مبالغة واجتزاء كبيرين في وصف وقائع القضية وخصوصاً لجهة حجم المخالفة أو مدى مسؤولية النيابة العامة عن القرار (وهو أمر نعود إليه لاحقاً)، فإنّ ما يهمّنا هنا هو المسار الذي أخذته مشاعر السخط إزاء هذه القضية وكيفية تفاعل السّلطات العامة معها. فبدل أن تشكّل مشاعر السخط، وهي حقيقية ومبررة بالنظر إلى الوضع العام أيا تكن وقائع هذه القضية، مناسبة لفتح نقاش واسع حول العوامل المسببة لها (وأبرزها إنتقائية العدالة وإفلات الجرائم الكبرى من الملاحقة والعقاب)، تمّ استغلال هذه المشاعر من قبل وجوه معبّرة عن النظام الحالي بدهاء وبأساليب لا تخلو من الشعبوية، للتطبيع مع هذه الإنتقائية، بل لتدعيم مقوّماتها وتعزيزها وتاليّا التمهيد لمزيد من المظالم. فمع تدخّل رموز في السلطة السياسيّة السائدة للإفراج عن الحاجة خديجة، ظهر هؤلاء مظهر المصلح الحريص على حقوق الناس في مواجهة القضاة الذين يخطؤون. بفعل هذا الخطاب، تمّ تحجيم القضيّة وتفريغها من أبعادها الحقيقيّة وصولاً إلى تحويلها إلى قضية خطأ قضائي، نجحت وزارة العدل فور علمها به في تصويبه. فانتهت القضية ومعها أسباب السخط.

وما عزز توجيه النقاش في هذا المنحى هو الحملة التي شنّت على النائبة العامة الإستئنافية في النبطية غادة أبو كروم وأخذت طابعا شخصيا "بشعاً" غير مسبوق، من دون أن يصدر أي دفاع عنها من أي من المؤسسات القضائية أو وزارة العدل أو نقابتي المحامين أو اي مجموعة ممثلة للقضاة أو للحقوقيين.  

هذا هو الخطاب الذي سنحاول توضيحه في سلسلة مقالات تهدف إلى إعادة تصويب النقاش العامّ. فيشكل التفاعل الإجتماعي حول هذه القضية إضاءة على أسباب الإنتقائية في النظام السياسي القضائي، ومناسبة لمعالجتها، وليس سبباً جديداً لتعزيز مجمل أدوات الهيمنة الحالية (وأبرزها التدخل في القضاء والذكورية والتطبيع مع مخالفات البناء)، مع ما يستتبعها من تعميق للإنتقائية واللامساواة، وفق المنحى الذي اتجهت إليه الأمور.   

الخطاب الشعبوي يشرع أبواب التدخل في القضاء

بتاريخ 5/5/2017، أي بعد ساعات من الإفراج عن الحاجة خديجة، أطلّ وزير العدل سليم جريصاتي على شاشة الجديد تبعاً لتقريرها بهذا الخصوص. وبكلمات واثقة، أوضح الوزير جريصاتي مجريات الإفراج عن هذه الأخيرة: "تم التواصل معي البارحة مساء أمس وصباح هذا اليوم بموضوع الحاجة. واستقبلت إبنها في وزارة العدل. تواصلت مع القاضيين … (قاضي الحكم) و… (قاض في النيابة العامة). وطلبت منهما تحديدا التواجد في الدوائر بعد الدوام، لأن القاضي ليس له دوام حين يكون هنالك حجز للحرية بالمبدأ، وطلبت من الشاب الإبن الذي تواصل معي في الوزارة التوجه مع المحامي/ة بطلب إخلاء سبيل، وطلبت منهما (أي من القاضيين) دون أن أتدخل في الوظيفة القضائية، ولكن وظيفتي هي السهر على الأداء القضائي السليم، طلبت منهما النظر في طلب تخلية السبيل واتّخاذ الإجراء المناسب وتم هذا الأمر". وقد ذهب الوزير جريصاتي في تتمة مداخلته إلى تبديد أي شك بشأن طبيعة تدخله وهدفه. فوفقه، قامت وزارة العدل فور علمها بالقضية "بواجبها كاملا في سبيل الإستفسار عن ملف هذه المخالفة واتخاذ التدابير التي من شأنها الإفراج عن هذه السيدة "الليلة" (نضع القوسين نقلا لتشديد الوزير اللفظي على كلمة الليلة والتي تعني بلاغة فورا ومن دون أي تأخير) خارج الدوام بالتأكيد لأن الحريات لا تنتظر دواماً من قضاة أو غير قضاة". وإذ أكدت مقدمة النشرة إشادتها بما قام به، تحمّس الوزير جريصاتي ليعلن بلجهة لا تخلو من الزهو بالذات أنه "ساهر على حق كل إنسان في لبنان"، وأنه "معني بكل حجز حرية، بل بكل قرار قضائي". مع ما يتأتى عن ذلك من تشريع للأبواب أمام التطبيع مع تدخل الوزارة في أعمال القضاء. ولم ينس الوزير في خضم حماسته أن يشكر كل الذين تدخلوا لديه من نواب ووزراء سابقين والإعلام للإضاءة على قضية الحاجة وإعلامه بها.

وما أن ختم كلامه بوجوب احترام هيبة القضاء واحترامه (رغم إعراضه عن أي دفاع عن بو كروم رغم العبارات الشائنة بحقها)، حتى سارعت مقدمة الأخبار إلى القول أن المحطة من أول الساعين إلى سلطة مستقلة لا سلطة عليها لأحد، من دون أن يمنعها ذلك من تكرار الإشادة بموقف الوزير وغيره من السياسيين لتدخلهم لوضع حدّ للخطأ القضائي.

وبالتدقيق في مداخلة الوزير كما أوردناها أعلاه، نتبين الأمور الآتية:

  • أن الوزير عمد إلى سلخ قضية توقيف الحاجة خديجة عن سبب السخط الشعبي إزاء هذا التوقيف. فقد خلا حديثه من أي إشارة إلى الإنتقائية أو الإفلات من العقاب اللذين كانا محور مقدّمة نشرة أخبار الجديد، ليركز على كيفية معالجة الخطأ القضائي المرتكب في هذه القضية، ضماناً للأداء القضائي السليم. وبذلك، نجح الوزير في تحويل القضية المطروحة من مسألة سخط شعبي إزاء الإنتقائية والإفلات من العقاب، وهي مسائل تدين بشكل كبير النظام السياسي الذي تشكل وزارة العدل جزءا منه، إلى مسألة إرتكاب قاضٍ خطأً من شأن تدخل الوزير أن يضع حدّا له مع ما يستحق ذلك من إشادة.
  • أن الوزير بدا وكأنه يستغل شعبية القضية، ليفاخر مجاهرة بتدخله فيها. ففيما تحصل التدخلات في العمل القضائي في الكواليس عادة ويشوبها تقييم سلبي، فإن شعبية التدخل في هذه القضية سمحت له بالخروج عن "دائرة الصمت الكبرى" وصولا إلى المفاخرة به، في موقف قلما يحصل. فالقضاة يخطؤون، وعلى وزير العدل، بصفته "الساهر على السلطة القضائية والمرفق القضائي" أن يتدخّل تصويباً لأعماله، وتحقيقاً للعدالة. وعليه، بدا الوزير وكأنه لا يسعى فقط إلى قطف ثمار تدخّله، بل إلى استخدام هذه القضية لإبراز دوره (مرجعيته) في تحقيق العدالة تمهيداً لتكريس حقه بالتدخل في القضايا المستقبلية وسط التصفيق والتأييد العامّين. وإذ دعا الوزير لفظاً إلى مراجعة هيئة التفتيش القضائي عند وجود أي خطأ في عمل القضاء، فإن نجاحه الباهر في الإفراج "الليلة" عن الحاجة خديجة سيجعله من دون ريب بمثابة محجّة لمراجعات المتقاضين على أمل نصرتهم في قضاياهم. وهو بذلك يكون حوّل ممارسة اعتمدها عدد من وزراء العدل سرّا وبخفر، إلى صلاحية يصح ممارستها علنا وتحظى بتأييد شعبي. وما يعزز من مرجعية الوزير المكتسبة، هو التعاطف العارم الذي عبر عنه الرأي العام مع توقيف الحاجة خديجة، قبلما يكتشف فاعلية وزير العدل في الإفراج عنها. وتبعا لذلك، يصبح  التدخل في عمل القضاء مباحا ومطلوبا، وسط إنهيار كامل لثقافة استقلال القضاء وتطبيع مع ثقافة التدخّل في أعماله.
  • أنّ هذا التصرّف يؤدّي حكماً إلى التأثير على سلوكيّات القاضي ومنعته إزاء التدخلات السياسية، بعدما تحوّل تدخّل وزير العدل في القضاء من مذمّة لفاعلها إلى صلاحيّة تلقى قبولاً وتأييداً وإشادة. ففي منظومة قيم كهذه، من المرتقب أن تنقلب صورة القاضي الناجح لدى مراكز السلطة ومعها تدريجيا تصور القاضي لذاته: فعليه أن يتمتع بقدرة على التواصل مع المسؤولين والإستماع إليهم وما إلى ذلك من مواصفات كشرط مسبق لتمتّعه بأي مركز كبير. فالسلطة "الصالحة" لا تجازف بتنصيب قاضٍ لا ينصت لها في مركز له تأثير على حقوق الناس، لاحتمال ارتكابه أخطاء فيه. وعليه، وبدل أن تكون إستقلالية القاضي وصدّ أي تدخل في عمله وسام شرف على صدره، فإنها تصبح بمثابة ناقصة. وتكثر إذ ذاك المرادفات للتقليل من شأن القاضي(ة) المستقل(ة) كأن يقال رأسه كبير (عن القاضي الذكر)، أو مرجّلة أو معقدة (عن القاضية المرأة)، أو أيضا ما بيرد على حدا. وكلها مرادفات رائجة ترد من باب التهكم والتحقير على ألسنة سياسيين وأكثر القضاة قربا منهم.

ومن المرتقب إذ ذاك أمام حدث كهذا أن يصبح عموم القضاة أكثر ميلاً للحد من صلاحياتهم وتجنّب أي مواجهة مع أي من القوى النافذة وأقل منعة للصمود في وجه تدخلاتهم، مع ما يستتبع ذلك من تعزيز للإنتقائية ومضاعفة لحالات الإفلات من العقاب.

وكخلاصة، أمكن القول أنه تحت غطاء التجاوب مع السخط الشعبيّ إزاء ممارسات الإنتقائية والإفلات من العقاب، أدت تصرفات الوزير، بمعزل عن نواياه، إلى تكريس ممارسات من شأنها مفاقمتهما. فأن يكون لوزير العدل أو أي شخص آخر سلطة التدخل في العمل القضائي يعني، أقله نظرياً، تعزيز قدرة النظام السياسي الحاكم على إخضاع القضاة لحساباتهم السياسية، وعمليا تجريدهم من إمكانية محاسبة أعيان هذا النظام. ولا يرد على ذلك أن وزير العدل والقوى التي تدعمه لا تتوخى إلا حقوق الناس: فعلى فرض صحّة ذلك (وثمة خطورة في التسليم بعصمة أي مسؤول عام)، يبقى أن ثمة خطورة في إرساء سابقة التدخل التي لن يتوانى أي خلف له أقلّ صلاحا منه من إستخدامها لتعزيز نفوذه ومعه نفوذ جميع القوى التي يمثلها أو يدين لها بمركزه.  

وبالطبع، لا نقصد بحال من الأحوال أن علينا أن نغمض العين على الأخطاء القضائية (في حال وجودها) رفضا للتدخل أو أن للقضاة أن يفعلوا ما شاؤوا باسم الإستقلالية. لكن، المقصود أن من غير المقبول معالجة أيّ خلل موضعي أو مؤسساتيّ، بأفعال من شأنها أن تتسبب بخلل أكبر مستقبلا. وهذا هو تماما الموقف الذي ذهب إليه الوزير. فاقتضى التوضيح والإعتراض، تمهيداً لإطلاق تفكير جدي بكيفية معالجة مشاعر السخط لدى الناس والتي يقتضي في مطلق الأحوال إيلاءها ما تستحق من اهتمام. وهذا ما سنسعى إلى مناقشته في المقالات القادمة حول هذه القضية.  

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، استقلال القضاء ، محاكمة عادلة وتعذيب ، لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني