أبحاث المفتشية حول ثروات القضاة بالمغرب: استراتيجية تخليق أم حملات إنتقائية؟


2017-04-07    |   

أبحاث المفتشية حول ثروات القضاة بالمغرب: استراتيجية تخليق أم حملات إنتقائية؟

تداولت عدد من المنابر الإعلامية بالمغرب أنباء عن تحركات لجهاز المفتشية العامة التابع لوزارة العدل والحريات بهدف التحقيق في ثروات قضاة وأفراد عائلاتهم، على خلفية وشايات توصلت بها الوزارة ضد عدد من القضاة وموظفي المحاكم، على بعد أيام قليلة من موعد تشكيل الحكومة الجديدة[1].

ويطرح هذا الموضوع في كل مرة عند إثارته، سؤال طبيعة التحريات التي تقوم بها المفتشية العامة في مجال التخليق ومحاربة الفساد، وما اذا كانت تقوم على استراتيجية واضحة المعالم، أم مجرد حملات موسمية إنتقائية يتم تحريكها بين الفينة والأخرى والتسويق لها إعلاميا كلما دعت الضرورة "السياسية" إلى ذلك.

تحريات المفتشية العامة حول ثروات القضاة تفعيل لقانون: من أين لك هذا؟

تظهر المعطيات التي نشرتها جريدة المساء مؤخرا أن المفتشية العامة تلقت أزيد من 30 شكاية[2]، وتوصلت بأوامر بإجراء أبحاث صادرة عن وزير العدل والحريات، وذلك بشكل متزامن مع قضية "شبهة" الرشوة التي هزت محكمة النقض مؤخرا[3].

وأشارت المصادر ذاتها أن تفعيل قانون "من أين لك هذا؟" مع عدد من القضاة أسفر عن الكشف على ثروات طائلة في حسابات البعض منهم وذويهم. وهو ما اقتضى إحالة أربعة منهم مؤخرا على أنظار المجلس الأعلى للسلطة القضائية في انتظار تنصيبه، في الوقت الذي سبق فيه للمجلس الأعلى للقضاء المنتهية صلاحيته أن اتخذ عقوبات بالعزل أو الاحالة على التقاعد في حق عدد آخر من القضاة بسبب عدم تبرير مصادر الثروة.

تحريات المفتشية العامة حول ثروات القضاة بين جهود التخليق والإنتقائية

تحرص وزارة العدل والحريات على تقديم خطاب منوه بالجهود التي تبذلها في ورش تخليق منظومة العدالة، من خلال إشرافها على جهاز المفتشية العامة، فالأبحاث التي باشرتها مؤخرا حول ثروات بعض القضاة أسفرت عن فتح ملفات تأديبية لعدد منهم[4]، إلا أن المتتبع لطبيعة الأبحاث التي باشرتها المفتشية العامة بهذا الخصوص يلحظ أن غالبيتها جاءت بناء على وشايات، بعضها بخلفية انتقامية أو لتصفية حسابات، ولم تكن بطريقة تلقائية، علما بأن النظام الأساسي لرجال القضاء الذي ما يزال معمولا به خصص مقتضيات قانونية واضحة ودقيقة كما وضع آليات دائمة لمعالجة هذا  الموضوع، بعيدا عن أي توظيف سياسي.

وهكذا ينص في فصله 17 على أنه: "يحق لوزير العدل بعد موافقة المجلس الأعلى للقضاء أن يقدر ثروات القضاة بواسطة التفتيش".

وينص الفصل 16 منه على أنه: "يتعين على القاضي أن يصرح داخل أجل أقصاه الثلاثة أشهر الموالية لتعيينه بمجموعة أنشطته المدرة لدخل والممتلكات التي يملكها أو يملكها أولاده القاصرون أو يديرها وكذا المداخيل التي استلمها بأية صفة من الصفات خلال السنة السابقة للسنة التي تم تعيينه فيها. وإذا كان الزوجان معا ينتميان إلى هيأة القضاء يجب على كل منهما أن يدلي بتصريحه على انفراد وأن يقدم الأب التصريح المتعلق بالأولاد القاصرين. يجب على القاضي في حالة انتهاء مهمته لأي سبب آخر غير الوفاة أن يقوم بالتصريح المنصوص عليه أعلاه داخل أجل أقصاه ثلاثة أشهر تحتسب ابتداء من تاريخ انتهاء المهمة المذكورة. تشمل الممتلكات الواجب التصريح بها العقارات والأموال المنقولة. يدخل في عداد الأموال المنقولة الودائع في حسابات بنكية والسندات والمساهمات في الشركات والقيم المنقولة الأخرى والممتلكات المتحصل عليها عن طريق الإرث والعربات ذات محرك والاقتراضات والتحف الفنية والأثرية والحلي والمجوهرات. يحدد بنص تنظيمي الحد الأدنى لقيمة الأموال المنقولة الواجب التصريح بها. يتعين الإدلاء بتصريح تكميلي وفق نفس الشروط بخصوص كل تغيير يطرأ على ثروة المعني بالأمر أو المعنيين بالأمر. يحدد نموذج هذين التصريحين بنص تنظيمي ينشر في الجريدة الرسمية. تجدد التصريحات لزوما كل ثلاث سنوات في شهر فبراير".

ويتبين من هذه المقتضيات أن وزير العدل مكلف بتتبع ثروات القضاة، ويتعين على القضاة التصريح بممتلكاتهم بشكل دوري، وهناك لجنة يترأسها وزير العدل بصفته نائب رئيس المجلس الأعلى للقضاء تتألف من الأعضاء المعينين بحكم القانون بهذا المجلس، فضلا عن كاتب المجلس المذكور بصفته مقررا، تتولى هذه اللجنة الفحص المنتظم لتطور التصريحات بالممتلكات والمداخيل، وبإمكان هذه اللجنة عند الاقتضاء أن تطلب من أي قاض التصريح بممتلكات ومداخيل زوجه.

كما أن هذه اللجنة تقدم تقريرا عن أعمالها أمام المجلس الأعلى للقضاء خلال كل دورة لاتخاذ الاجراءات اللازمة في حق المخالف.

ويبدو أن أثر هذه المقتضيات القانونية يبقى معطلا. فتصريحات القضاة بممتلكاتهم تبقى مجرد اجراءات روتينية يتم القيام بها بشكل دوري ويحتفظ بها داخل أظرفة مغلقة برفوف مكاتب المفتشية العامة. ولا يتم تحريك البحث للتأكد من مضمونها إلا عند الاقتضاء، في حالة وجود وشايات أو شكايات موجهة في حق قضاة أو فتح ملفات تأديبية لهم.

كما أن لجنة فحص ثروات القضاة المنصوص عليها قانونا تبقى غير مفعلة عمليا. وحتى في حالة وجودها فإن نشاطها يبقى صامتا غير معلن عنه للرأي العام[5]، ولا يظهر من خلال نشاط المجلس الأعلى للقضاء الذي يتم نشره.

لا للرشوة وتكسير التابو

أشارت العديد من التقارير الدولية لوجود الفساد داخل منظومة العدالة بالمغرب، بسبب ضعف آليات المراقبة[6]. وفي الوقت الذي ظل فيه بعض القضاة المحافظين يرفضون اتهامات الفساد التي تطال الجسم القضائي بهدف تدنيس قداسته[7]، شكل تأسيس نادي قضاة المغرب منعطفا حاسما في طريقة التعامل مع هذا الموضوع. فقد رفع القضاة أنفسهم لأول مرة شعارات رافضة للفساد الذي يعتري الجسم القضائي من خلال مبادرة فريدة من نوعها وهي حملة "لا للرشوة"[8]، وقدم القضاة في أجهزة النادي مبادرات عملية للإنخراط في جهود التخليق، من بينها لجوؤهم للتصريح العلني بممتلكاتهم، ومطالبتهم الجهات المسؤولة بتفعيل قانون "من أين لك هذا؟"، وفتح تحقيق في جميع قضايا الفساد دون أي انتقائية[9].

وفي إنتظار تفعيل المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ودخول القوانين التنظيمية الجديدة حيز التطبيق، ونقل الإشراف على المفتشية العامة للشؤون القضائية من وزارة العدل والحريات إلى سلطة المجلس الجديد، ومراجعة قانون التصريح بالممتلكات الذي تعتريه عيوب كثيرة، تبقى الإتهامات بالإنتقائية ومحاولات التسييس تخيم بقوة على تدبير وزارة العدل والحريات لملف الأبحاث التي تباشرها حول ثروات القضاة.

 


[1]– لمزيد من التفاصيل يرجى مراجعة الروابط التالية: المفتشية العامة تطارد ثروات قضاة وتحيل مسؤولين على – …المجلس التأديبي
المفتشية العامة لوزارة العدل تطارد ثروات قضاة – 60 دقيقة
المفتشية العامة لوزارة العدل تطارد ثروات قضاة   | Htari 24
[2]– جريدة المساء ، العدد 3224، بتاريخ 28/02/2017.
[3]– حول هذا الموضوع، يراجع الخبر التالي المنشور بموقع المفكرة القانونية: شبهة "رشوة" تهز محكمة النقض في المغرب
[4]– تقرير بمناسبة مناقشة مشروع الميزانية الفرعية لوزارة العدل والحريات برسم سنة 2016، لجنة العدل والتشريع وحقوق الانسان بمجلس النواب، بتاريخ 02/11/2015.
[5]-طالب نادي قضاة المغرب بضرورة اعلام الرأي العام بنتائج التحريات والتحقيقات التي تنجزها المفتشية العامة حول ثروات القضاة، تدعيما لثقة المواطنين في أعضاء السلطة القضائية، وحماية لحقهم في الاطلاع والولوج الى المعلومات التي توجد بحوزة الادارات العامة، وعملا بأفضل التجارب الدولية في هذا الصدد من بينها "قانون التصريح بالممتلكات في رومانيا الذي نص على ضرورة أن تنشر في الجريدة الرسمية كافة القرارات النهائية لوقف التحقيق بشأن الأملاك و كافة القرارات التي لا رجوع عنها و التي تثبت أن الملكية مبررة ".
ياسين مخلي: تتبع ثروات القضاة وحق المواطن في المعلومة، مقال منشور بجريدة الأخبار، العدد 149، بتاريخ  10/05/2013.
[6]-أصدر البنك العالمي تقارير متعددة ومتوالية عن القضاء بالمغرب مند سنة 1993، وخلص أول تقرير إلى أن القضاء المغربي مكبل بالبطء وانعدام الكفاءة ووجود التدخلات وتفشي الرشوة، وفي تقرير أخر صادر عن الخارجية الأمريكية سنة 1994 أبدت نفس الملاحظات، وتوالت التقارير المنتقدة لوضعية القضاء بالمغرب من بينها تقرير الشبكة الأورومتوسطية لحقوق الانسان : المغرب استقلال ونزاهة النظام القضائي، كوبنهاجن 2008.
لمزيد من التفاصيل، أنظر: – عبد المولى خرشش : القضاء المغربي في مرآة التقارير الدولية، مقال منشور بمجلة وجهة نظر، العدد 23 ربيع 2007، ص 44 وما بعدها.
[7]  – خلال ربيع 1999 ألقى وزير العدل السابق في حكومة التناوب الأستاذ عمر عزيمان مداخلة على هامش حفل عشاء احتضنته إحدى الفنادق الكبرى بمدينة الدار البيضاء بمناسبة مرور سنة على توليه الوزارة تحدث فيها عن وضع القضاء بالمغرب حيث رسم له صورة سوداوية "جهاز منهك وقضاة يشتغلون بالتعليمات ومتقاضون متذمرون.. عدالة مريضة.."، أنظر بهذا الخصوص جريدة الاتحاد الاشتراكي بتاريخ 07/04/1999. وقد أصدرت الودادية الحسنية للقضاة حينئذ بيانا أعربت فيه عن استيائها من "الحملة الصحفية التشهيرية المتوالية ضد الهيئة القضائية". -أنس سعدون: تقرير الحراك القضائي بالمغرب من أجل سلطة قضائية مستقلة، المفكرة القانونية 2013.
[8]– حول مبادرة نادي قضاة المغرب تحت شعار : "محاكم بدون رشوة"، يراجع : –حجيبة البخاري: محاكم بدون رشوة.. رهان نادي قضاة المغرب، مقال منشور بجريدة الأخبار، العدد 77 بتاريخ 15/02/2013.
[9]  – جاء في بيان لنادي قضاة المغرب: "إن نادي قضاة المغرب…يرفض بشدة كل مظاهر الانحراف في الجسم القضائي ويتبرأ من كل من ثبت في حقه فعل من الأفعال المشينة وفقا للمساطر القانونية الجاري بها العمل، شريطة احترام مبدأ قرينة البراءة، ويعتبر أن التصدي لهذه الحالات المعزولة لا يجب أن يتخذ بعدا تجزيئيا يقتصر على الزجر فقط، ولا توظيفا سياسويا أو إعلاميا، وإنما يتطلب بالدرجة الأولى معالجة وقائية غايتها تحصين القضاء والقضاة لما في ذلك من مصلحة للوطن والمواطن ..". بيان المجلس الوطني لنادي قضاة المغرب بتاريخ 23/03/2013.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، مقالات ، المغرب ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني