مشروع “مار مخايل فيلدج”: إجتياح للشركات العقارية على حساب ذاكرة الحي وأهله


2017-03-31    |   

مشروع “مار مخايل فيلدج”: إجتياح للشركات العقارية على حساب ذاكرة الحي وأهله

بتاريخ 31/3/2017، أصدر محافظ مدينة بيروت القاضي زياد شبيب، قراراً بوقف  أعمال الهدم الجارية في العقار رقم 1781 الرميل (المعروف بمصنع بيرة لذيذة).ويأتي هذا القرار بعد اعتصام نفذه أهالي حي مار مخايل القاطنين بجوار المصنع، بالتعاون مع حملة "بيروت مدينتي" وطالبوا خلاله بوقف الأعمال التي تعرض حياتهم للخطر كما تهدد النسيج الإجتماعي والإقتصادي الذي يطبع المدينة. ويأتي خطر هدم هذا المصنع في إطار سلسلة من إجراءات الهدم التي طالت العديد من الأبنية التراثية والأثرية في المدينة برعاية بلدية بيروت، وأدّت إلى القضاء على الإرث التاريخي والثقافي للمدينة والإفساح في المجال أمام المشاريع العقارية الضخمة التي إجتاحت بيروت محوّلة إيّاها إلى مدينة "إسمنتية" في صدد فقدان هويتها.

وكان من المنوي أن يقام مشروع "مار مخايل فيلادج" على أنقاض مصنع بيرة "لذيذة" التاريخي والذي يعد  "مثالاً صارخاً لنمط التجديد أو التطوير العقاري الذي بتنا نراه في كل الأحياء والشوارع في مدينة بيروت حيث الكلمة الأخيرة للمطور العقاري وحده".

أول مصنع للبيرة في لبنان والشرق الأوسط

منذ نحو أسبوع، بدأت أعمال الهدم لمصنع البيرة. هكذا فجأة وبدون سابق إعلام أو إنذار، استيقظ سكان الحي لا سيما القاطنون في المبنى الملاصق للمعمل، على أعمال الهدم التي أشعرتهم أن  حياتهم مهددة في كل لحظة. وقد دفعهم هذا الأمر إلى النزول إلى الشارع والإعتصام وإعلاء الصوت والمطالبة بوقف أعمال الهدم.

وتاريخياً، يعدّ مصنع "لذيذة" (مساحته خمسة آلاف متر مربع) أوّل مصنع للبيرة في لبنان والشرق الأوسط وقد أنشئ في عام 1932. أما قيمته، فتكمن بكونه يمثل رمزاً للبنان كدولة حديثة قادرة على الصناعة. وكان صاحب المصنع الأول جورج جلاد قد سافر الى فرنسا حيث تعلم في مدينة Nancy أعمال التخمير. ثم عاد إلى لبنان وأنشأ المصنع، ويعدّ تاليا الحفاظ عليه مفيداً في تجسيد لحظة تاريخية في الإقتصاد اللبناني والتاريخ المحلي والإقليمي. من ناحية أخرى، أقام المصنع على مدى تاريخه علاقات خاصة مع الحيّ. فقد تمّ استخدامُه "كثلاجة" حيث استأجر بائعو التفاح مساحات منه، وكذلك كمختبر ثاني أكسيد الكربون ينتج الغاز اللازم لطفيات الحرائق. وخلال حرب 1975-1990، وزّع مصنع الجعة المياه إلى الحي لأنه كان يحوي  اثنين من الآبار العميقة، وشكّل في بعض الأحيان ملجأ لعشرات الأسر. هذه المعلومات عن المبنى  ليست متاحة عبر الشبكة العنكبوتية وحسب وإنما تجدها محفورة في ذاكرة أبناء الحيّ الذين مضى على وجود البعض منهم أكثر من ثمانين عاماً.

وبحسب "بيروت مدينتي"، فإنه "سيتمّ إسقاط هذا المبنى ليُصار إلى إدخال إلى هذا المربع السكني الهادىء نشاطات تجارية ورياضية وبركة سباحة بالإضافة إلى عدد كبير من الشقق السكنية. ضمن هذا المشروع، ترى الحملة أن هذه الخطوة "ستسمح لنمط التغيير واستبدال السكان القدامى بمن هم قادرين على دفع أموال طائلة لاستئجار أو امتلاك شقة، وهو نمط نشهد تمدده حالياً على شارع مار مخايل الرئيسي (شارع أرمينيا) ، ستسمح له أن يتسلل إلى الشوارع الداخلية التي ما زالت محمية من التغيير السريع".

وانطلقت "الحملة" من "الآثار التي سبّبتها مشاريع ضخمة مشابهة لهذا المشروع في أحياء أخرى من بيروت"، لتجزم بأنّ "آثار هذا المشروع على البيئة الاجتماعية والعمرانية والحياتية لمار مخايل ستكون جسيمة. فمن المتوقّع أن ترتفع أسعار الأراضي، وبالتالي ستؤدي إلى طرد عدد كبير من سكان هذا الحي الحاليين الذين لن يستطيعوا تحمّل كلفة العيش فيه بعد ذلك. وبهذا سيكرس هذا المشروع نمطاً انتشر منذ فترة يقوم على سلب الأرض من قيمتها الاجتماعية وتسليعها ليكون دورها تأمين رؤوس الأموال، على حساب دورها الأهم أي كسكن وفسحة عمل أو لهو وحياة".

وأدانت "بيروت مدينتي" "غياب خطّة إنمائيّة متكاملة تحدّد مناطق للتطوير المستقبليّ على مستوى المدينة بينما تحمي أخرى لقيمتها الهندسية أو الإجتماعية، فتشكّل بهذا نوعاً من التوازن من أجل نموّ ضروريّ لضخّ حياة جديدة في الأحياء من ضمن منطق تم تنسيقه مسبقاً ويتخطى الاستراتيجيات الفردية التي تسعى وراء الربح فقط".

كما"استنكرت"بيروت مدينتي" فشل بلدية بيروت في استخدام صلاحياتها التي نص عليها القانون (المادة 13 من قانون البناء/2014) للتقليل من الآثار البيئية والاجتماعية السلبية التي تفرضها وتسببها المشاريع العقارية الجديدة". وأدانت فشل وزارة الثقافة في الاعتراف بأهمية معمل «لذيذة» بوصفه رمزاً للحظة تاريخية في مرحلة بناء الأمة في لبنان، حين كانت الصناعة تعتبر طريقاً نحو الاستقلال والحداثة".

وختمت مطالبة بـ"وقف كل الأعمال وتنظيم لقاءات واجتماعات في مار مخايل وتعليق الموافقة على أي مشروع تطوير عقاري حتى تؤخذ بعين الاعتبار مطالب وتطلعات المعنيين في هذا الموضوع".

وناهيك عن أهمية هذا المصنع من كل النواحي، هناك خطر حقيقي يتهدد بالدرجة الأولى البناء القديم الملاصق له والذي يسكنه العديد من السكان الذين لا يملكون مأوى آخر وباتوا اليوم مهددين بالشارع.

دعوة لشرب القهوة

بصوت عالٍ، صاحت غادة اسطفان وهي من سكان الطابق الثاني في البناء، بأنها باتت بالشارع منذ بدء أعمال الهدم وقالت: "أخاف أن تسقط الأحجار على رأسي أنا وأسرتي. وحتى بعد الساعة الخامسة، عندما تتوقف الأعمال، تكون أعصابنا قد أتلفت بالكامل فنحن بتنا نعيش في حالة رعب دائما". ودعت محافظ بيروت القاضي زياد شبيب ورئيس البلدية جمال عيتاني لشرب القهوة في منزلها وقالت: "اذا كانوا قادرين على الجلوس في منزلي خمس دقائق، أنا على إستعداد لأن أقبل الوضع". ولفتت إلى أن المهندس المشرف على أعمال الهدم قال لها "روحي صيّفي مدام شي شهرين" وتابعت "لو كنت أملك منزلاً آخر ما بقيت دقيقة في هذا المنزل لكن هل هذا منطق؟"

ورأى ألفريد عرموني 83 عاماً والذي يملك مكتباً للإستيراد والتصدير والمعاملات الجمركية في نفس المبنى المهدّد بالخطر منذ أكثر من عشرين عاماً، أنه "كان المفروض أن يأتوا إلى هنا ويتحدثوا إلينا ويؤمنوا سلامة الناس "لكن مش فارقة معن حدا، مدعومين مدري من مين. جئنا من السفر أنا وإبني ووجدناهم يقومون بأعمال الهدم وقد تحدثت مع المحافظ وقال لي "اعتبر الموضوع منتهيا". ثم جاء مهندسون  من البلدية وكشفوا. لكن الأعمال بقيت مستمرة، ليتفضّلوا ويؤمّنوا  لنا البديل ولو كوخاً مع اللاجئين السوريين".

أما منى فواز، مدرّسة التخطيط المدني في الجامعة الأميركية في بيروت، وهي عضو في حملة بيروت مدينتي فقد  تكلّمت عن تداعيات مشروع "مار مخايل فيليج" التهجيري على السكّان في مار مخايل. وقالت: "إن أهمية معمل البيرة ليس بكونه بناء أثرياً، وإنما هو يمثل حقبة تاريخية من لبنان آمننا خلالها بالصناعة وحاولنا أن نخلق نوعا من التنمية". ونوّهت "بضرورة حمايته والمحافظة على تاريخه وتحويل قسم منه إلى community center أما الباقي فيصبح مساكن ليكون لها جدوى اقتصادية".

وبالسؤال عن مطالب أهالي الحي، أجابت: "إيقاف الورشة وأن يتمّ دراسة جدوى اقتصادية لهذا المشروع بما فيها دراسة للأثر البيئي والاجتماعي وإشراك السكان في البحث عن مشروع بديل ممكن أن يضع الحي على سكة مختلفة". ولفتت إلى أن المشروع فيما لو تنفذ "سيغير نمط حياة أهالي الحي وسيرفع أسعار العقارات حوله وبالتالي سيؤدي إلى تهجير الناس". وقالت: "نحن نريد إيقاف هذا المشروع وفي إطار تشاركي نطالب أن يتم النقاش مع أهل الحي. وقد سبق أن اطلعنا على عدد من آراء الناس الذين لديهم أفكار جميلة حوله. من هنا يتم وضع إطار للقيام بمشروع جديد ممكن أن يكون له جدوى إقتصادية".

إيقاف أعمال الهدم

على وقع صرخات أهالي الحي، إتخذ محافظ مدينة بيروت القاضي زياد شبيب القرار بإيقاف أعمال الهدم الجارية في العقار رقم 1781 الرميل بموجب رخصة الهدم رقم 14/2016 و.ت تاريخ 3/3/2017  وذلك لحين التقيد بأحكام الفقرة ثالثاً- "ج" من المادة الثانية من المرسوم رقم 15874 تاريخ 12/12/2005، التي تنص على: "تخضع للتصريح أعمال هدم الأبنية والمنشآت استناداً إلى خرائط وتعهد بالإشراف على أعمال الهدم موقعين من قبل مهندس ومسجلة في إحدى نقابتي المهندسين بحسب تسجيل المهندس. إذ يجب أن تُظهر الخرائط تركيز البناء في العقار وعدد طوابقه على ضوء مقطعين باتجاهين متعامدين مع تدعيم الأنبية والمنشآت المجاورة ووضع حواجز على محيط الموقع وإنارته وتجهيزه بالاشارات اللازمة لتنبيه المارة لجهة الطريق إذا إقتضى الأمر .
كما يجب أن يحدد في التصريح الوسائل والمعدات التي ستستعمل في أعمال الهدم ( تفجير، صدم ميكانيكي، جرافات،…) كل ذلك مشروطاً بضم بوليصة تأمين تغطي كافة الأضرار التي قد تنشأ جراء أعمال الهدم، مع اعتماد أنواع ووسائل الهدم المسموحة ضمن تدابير الحماية والوقاية والسلامة العامة التي تحددها الأنظمة والقوانين. وقد كلف المحافظ شبيب قيادة شرطة بيروت تنفيذ هذا القرار .

على أمل أن يثبت المحافظ على هذه الخطوة، فينتصر أهالي الحي على قوة المتعهدين.  

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، بيئة وتنظيم مدني وسكن



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني