الدستورية العليا في مصر: قانون التظاهر دستوري إلا مادة وحيدة


2017-01-03    |   

الدستورية العليا في مصر: قانون التظاهر دستوري إلا مادة وحيدة

منذ صدور قانون التظاهر في نوفمبر 2013، ثار الجدل حوله بسبب تقييده لحق التظاهر الذي كرسته الجماهير كحق أساسي ووسيلة للتعبير عن الرأي منذ ثورة 25 يناير. ثم كرسه المشرع الدستوري في دستور 2014. وبرز هذا الجدال عن طريق رفض العديد من الأطياف السياسية والحقوقية له، وخروج مظاهرات ضده. وتردّدت الآراء حول مخالفته للمبادئ الدستورية، وعدم صلاحية رئيس الجمهورية المؤقت حينذاك لإصداره، خاصة في ظل غياب سلطة تشريعية منتخبة ودون مناقشة مجتمعية. وتم تطبيق القانون فور صدوره، ومُنعت بمقتضاه العديد من التظاهرات، كما تم القبض على متظاهرين وحبسهم أو توقيع غرامة مالية عليهم. على سبيل المثال، نذكر الحكم[1] الصادر في قضية إحياء ذكرى محمد محمود عام 2015 بالسجن عامين على 5 متهمين، والحكم الصادر في 20-5-2014 من محكمة جنح سيدي جابر بتأييد حكم حبس ماهينور المصري عامين وغرامة مالية 50 الف جنيه[2]، والحكم الصادر من محكمة جنح مستأنف مصر الجديدة بتاريخ 28-12-2014 بالحبس سنتين على 22 متهم ومتهمة في القضية المعروفة بقضية شباب مسيرة الاتحادية[3]. ولعل المظاهرات التي خرجت، يومي 15 و25 أبريل 2016، اعتراضا على توقيع اتفاقية الحدود البحرية بين مصر والسعودية، وما حدث بعدها من حبس مئات من المتظاهرين والحكم عليهم بالحبس أو بالغرامة المالية، كانت أبرز تطبيق للقانون هذا العام.

وكان من المتوقع أن يتم الطعن على القانون بعدم الدستورية في أول فرصة لذلك. وهو ما تم فعلا في دعويين: الأولى هي القضية رقم 160 لسنة 36 قضائية دستورية حيث تمحور الطعن فيها على عدم دستورية المادتين 8 و10 من القانون. وتنص المادة 8[4] على ضرورة تقديم إخطار بالتظاهر لقسم أو مركز الشرطة الذي يقع بدائرته مكانها مع تحديد أجل الإخطار والمعلومات التي يجب أن ترد به. أما المادة 10[5] فتسمح لوزير الداخلية أو مدير الأمن المختص بالغاء التظاهرة أو تغيير مسارها أو إرجائها أو تغيير موعدها بقرار مسبب وبناء على دلائل بوجود ما يهدد الأمن والسلم. أما القضية رقم 234 لسنة 36 قضائية دستورية فتم الطعن فيها على المادة 7 من القانون[6] التي تحظر على المشاركين في التظاهرة الإخلال بالأمن أو النظام العام أو تعطيل الإنتاج، أو تعطيل مصالح المواطنين أو قطع الطرق أو المواصلات وغيرها من الأفعال المجرمة، بالإضافة الى الطعن على المادة 19 من القانون[7] التي تنص على عقوبة الحبس تصل خمس سنوات حبس لمن يخالف المادة 7 ويقوم بأحد الأفعال المحظورة. الجدير بالذكر، أن المتظاهرين غالبًا ما يُحالون إلى المحاكمة بناء على إرتكابهم الأفعال الواردة في المادة 7 والتي يعاقب عليها بالحبس أو الغرامة في المادة 19 كما أوضحنا، وهي المواد التي أُدين بمقتضاها، إلى جانب مواد من قانوني التجمهر و/أو الجنايات، المتهمين في القضايا التي ذكرناها أعلاه، رغم دفع المحامون بتلفيق التهم إلى المتهمين وغياب الأدلة الحقيقية على قيامهم بهذه الأفعال.   

ورغم توصية تقرير هيئة المفوضين بالمحكمة الدستورية برفض الدعوى الأولى وإقرار دستورية المادتين 8 و10 من القانون، وقبول الدعوى الثانية والحكم بعدم دستورية المادتين 7 و19، إلا أن حكم المحكمة الدستورية جاء مغايرا حيث حكمت بعدم دستورية المادة 10 فقط، وبدستورية جميع المواد الأخرى المطعون عليها. وهو ما يستدعي قراءة متأنية للحكمين اللذين صدرا بتاريخ 3-12-2016 في جلسة واحدة، للوقوف على منطق المحكمة بإقرار دستورية هذه المواد الخلافية في القانون، وأسباب حكمها بمخالفة المادة 10 لنص الدستور.

  • سلطة رئيس الجمهورية المؤقت في التشريع أصلية:
    دفع المدعاين في القضيتين بأن القانون خالف الإجراءات الشكلية المنصوص عليها في الدستور، حيث أن رئيس الجمهورية لا يملك، وفقا للدستور الحالي، وفي غياب البرلمان، السلطة التشريعية إلا في حال توافر ظروف استثنائية تستدعي إصدار قرار بقانون منه. ومن ثم، ومن باب أولى، يكون ممنوعا على رئيس الجمهورية المؤقت، إصدار أية قرارات بقوانين، كونه لا يملك سلطة التشريع إلا لمواجهة حالة تقتضي مواجهتها بتدابير لا تحتمل التأخير.
    واعتبرت المحكمة أنّ العبرة في ذلك تتمثل في الإعلان الدستوري الصادر في يوليو 2013، الساري في وقت صدور التشريع وليس الدستور الحالي. وذهبت المحكمة إلى أن الإعلان الدستوري نص في المادة 24 على أن سلطة التشريع يملكها رئيس الجمهورية دون أي تقييد سوى أخذ رأي مجلس الوزراء في التشريعات الصادرة. وبذلك استنتجت المحكمة أن سلطة رئيس الجمهورية المؤقت، في ظل الإعلان الدستوري، هي سلطة أصلية وليست استثنائية. وعليه لا يكون للمحكمة أن تراجع اذا ما كان التشريع لازما واذا كان إقراره في مناسبة بعينها ملائما. 
  • سلطة المشرع في تنظيم الحقوق وضمان التوازن بينها:
    اعتبرت المحكمة في حكميها أن حق الإجتماع مرتبط بصورة وثيقة بحرية التعبير، وحرية القول والصحافة والعقيدة. فحق الاجتماع بأشكاله المختلفة يمثل البيئة المثلى لممارسة حرية التعبير، بل أن هذه الحرية تفقد قيمتها إذا منع المشرع الأفراد من الإجتماع المنظم[8]، كما الأمر بالنسبة للحريات الأخرى المذكورة. وهو ما يترتب عليه ضرورة ممارسة حق الاجتماع بقدر من التسامح رغم ما قد يترتب عليه من مساس بحقوق وحريات أخرى مثل حرية التنقل للأفراد. ومن ثم يكون على المشرع أن يحقّق في كل تشريع يسنه “التوازن بين الحقوق والحريات الدستورية وكفالة ممارستها، والتعايش بينها بغير تنافر أو تضاد”، لضمان عدم مساس ممارسة حرية أو حق بحرية أو حق آخر. وإذا كان هذا المساس لا مفر منه، فلا بدّ أن يكون بقدر بسيط.

    وعرّفت المحكمة، كما استقر قضائها، سلطة المشرع في تنظيم الحقوق بأنها تقديرية. وهو ما يعني حقه في المفاضلة بين البدائل المختلفة لاختيار ما يعتقد أنه الأنسب لمصلحة الجماعة والأكثر ملاءمة للوفاء بمتطلباتها بخصوص الموضوع الذي يتناوله التنظيم. وهو ما اعتبرت على أساسه المحكمة أن المتطلبات الواردة في المادة 8 من قانون تنظيم التظاهر سواء من تعيين قسم أو مركز الشرطة لتلقي الإخطار بالتظاهر، أو النص على تقديم الإخطار قبل ثلاثة أيام على الأقل، بالاضافة الى ضرورة الإخطار بمكان الاجتماع العام أو التظاهرة وخط سيرها، ومواعيد البدء والانتهاء وموضوع الاجتماع العام أو التظاهرة كما المطالب والشعارات؛ كلها متطلبات مشروعة وتتفق مع أحكام الدستور، وتهدف إلى إتاحة الوقت لجهات الأمن للقيام بالمهام الملقاة على عاتقها. كما رفضت المحكمة الدفع بعدم معقولية وجوب تضمين الإخطار للشعارات التي يرددها المشاركون، كون التظاهرة ينضم لها من يشاء وتولد شعارتها بذاتها دون سيطرة من المنظمين. وقد اعتبرتْ أن الشعارات المرفوعة في الإجتماعات والتظاهرات هي التي تعبر بدقة عن موضوعها والغرض منها وأهدافها. وبالتالي تكون معرفة هذه الشعارات لازمة للتأكد من مدى توافق الاجتماع أو التظاهرة مع أحكام الدستور ومقتضيات النظام العام. واعتبرت المحكمة أن هذا التحديد لا يمنع أن يفرز تفاعل المشاركين في الإجتماع أو التظاهرة لشعارات جديدة، والتي اذا كانت محلا للتأثيم، يُسأل عليها من أطلقها فقط.
    وفي نفس السياق، اعتبرت المحكمة، في حكمها الصادر في القضية رقم 234 برفض الدعوى، بأن على المشرع أن يجري موازنة دقيقة بين مصلحة المجتمع والحرص على أمنه واستقراره من جهة، وحريات وحقوق الأفراد من جهة أخرى. وعلى أساس ذلك، اعتبرت المحكمة أن الأفعال المعاقب عليها بنص المادة السابعة من القانون، والتي دفعت المدعية بأن الالفاظ المستخدمة لتحديدها غامضة وخفية، هي من جرائم النتيجة، أي من الجرائم التي “التي يؤبه فيها، بالأساس، لتحقق نتيجة إجرامية تتمحض مساساً بحق مقرر، أو تتجسد عدواناً على مصلحة معتبرة، أو تنحل عصفاً بحرية مقدرة، بغض النظر عن صورة الفعل المادي”. وبررت المحكمة لجوء المشرع إلى هذا النوع من الصياغة، الذي يفتقر إلى الدقة، بصعوبة حصر الأفعال الإجرامية وذكرها واحدًا واحدًا. وهو الأمر الذي اعتبرته المحكمة متحققاً في نص المادة السابعة، حيث أنه يستعصى حصر سبل ووسائل العدوان على الحقوق والحريات والمصالح، فهي تتنوّع في أشكالها وصورها، مما يضع المشرع أمام خيار واحد ببيانها من خلال ضابط عام هو ارتكابها عدواناً على الحقوق والحريات والمصالح الواردة في المادة. كما اعتبرت المحكمة أن الحقوق والحريات والمصالح التي حمتها المادة، مذكورة في الدستور، أو في القوانين منذ نشأة الدولة الحديثة، مما يجعل لها معنى محدداً منضبطاً، وبذلك تنزاح عنها شبهة الإتساع والغموض.والمحكمة بذلك، وان كانت فسرت تفسيرا قانونيا صحيحا، فقد سهت عن نقطة هامة جدا، وهي وأن الحقوق والحريات المحمية في هذه المادة المفهومة للقضاة، ليست واضحة لمنفذي القانون من قوات الشرطة، وهم الذين يستخدمون هذا النص للقبض على المتظاهرين تحت دعوى “الإخلال بالأمن أو النظام العام”، أو “قطع المواصلات”، أو “تعطيل الإنتاج”، دون أية أدلة واضحة على قيام المتظاهرين بذلك سوى ما يسطرونه في محاضر الضبط. وهو ما يدلل على عدم وضوح النص القانوني، وصعوبة إثبات الأفعال المجرمة. وهو ما كشفته أحكام المحاكم في قضايا تظاهرات الأرض، حيث اعتبرت أكثر من محكمة[9] قضت ببراءة المتهمين أن تحريات الشرطة، ومحاضر الضبط وشهادة الضباط ليست كافية لإثبات أي من الأفعال المجرمة في المادة 7 من القانون.
    كما أننا نخشى أن يتمسك المشرع بهذا المنطق ويتوسع في صياغة تشريعات جنائية تفتقد للدقة والصياغة المنضبطة، مما يفتح الباب للإنتقائية في تطبيق القانون من القائمين على تنفيذه.
  • الإختصاص الحصري للقضاء لمنع التظاهرات
    إذا كان على المشرع ضمان التوازن بين الحقوق والحريات الكفولة دستوريا بحيث لا تتغول واحدة على أخرى، على القضاء مراجعة تحقق ذلك، متى استدعت الحاجة. فوفقا للمحكمة، يمكن غض الطرف عن تعارض ممارسة حق التظاهر والإجتماع مع حقوق أخرى مثل الحق في التنقل أو السكينة العامة أو المسّ بمقتضيات الأمن، طالما اتّسم الإجتماع أو التظاهرة بالسلمية، وتوافق مع أحكام الدستور ومقتضيات النظام العام، وشريطة ألا يكون العدوان على الحقوق والحريات الأخرى بلغ قدراً من الجسامة يتعذر تدارك آثاره. ولكن من المُختصّ لتقرير إذا ما كان هذا التوازن محققاً على أرض الواقع؟  
    وفقا للمحكمة، فإن جهة الادارة ليست مختصة بمراقبة تحقق التوازن بين الحقوق والحريات الدستورية المختلفة، اذ أن الدستور كفل ممارسة حق الاجتماع أو التظاهر بمجرد الإخطار. والإخطار، كما عرفته المحكمة، هو “إنباء أو إعلام جهة الادارة بعزم المُخطر ممارسة الحق المُخطر به، دون أن يتوقف هذا على موافقة جهة الإدارة أو عدم ممانعتها، وكل ما لها في تلك الحالة أن تستوثق من توافر البيانات المتطلبة قانوناً في الإخطار، وأن تقديمه تم في الموعد وللجهة المحددين في القانون، فإذا اكتملت للإخطار متطلباته واستوفى شرائطه قانوناً، نشأ للمُخطر الحق في ممارسة حقه على النحو الوارد في الإخطار، ولا يسوغ من بعد لجهة الادارة إعاقة انسياب آثار الإخطار بمنعها المُخطر من ممارسة حقه أو تضييق نطاقه”. وبذلك، وضعت المحكمة الأمور في نصابها الصحيح، وهي بذلك تكف يد جهة الادارة، وزير الداخلية أو مدير الأمن المختص في هذه الحالة، من منع التظاهرات المخُطر عنها. ولكن يبقى التساؤل حول من له الحق في منع أية تظاهرة، تعتقد جهة الادارة، أنها تهدد الأمن أو أي حقوق دستورية أخرى؟ من له الحق في الفصل بين جهة الادارة والمُخطر في هذه الحالة؟
    ذهبت المحكمة أن القضاء هو وحده المختص لتقرير اذا ما كان ممارسة حق الاجتماع أو التظاهر يترتب عليهما أي مساس يتعذر تداركه بحقوق وحريات أخرى، مما يترتب عليه منع أو تأجيل أو نقل أو تعديل ميعاد الاجتماع أو التظاهرة أوتغيير مسارها. كما وضعت المحكمة عبء اللجوء إلى القضاء على جهة الإدارة، حيث يتعين عليها، في حال رغبت في منع تظاهرة أو اجتماع، أن تلجأ الى القضاء وأن تقدم دلائل وبراهين ومعلومات موثقة توضح ضرورة ذلك.  
    واعتبرت المحكمة أن القانون حوّل الإخطار المنصوص عليه دستوريا إلى إذن، حيث نصت الفقرة الأولى من المادة العاشرة على حق وزير الداخلية أو مدير الأمن اصدار قرار مسبّب بمنع الاجتماع العام أو الموكب أو التظاهرة أو إرجائها أو نقلها إلى مكان آخر أو تغيير مسارها، وهو الأمر الذي أدى الى الحكم بعدم دستورية هذه المادة.

  • سلطة القاضي في تفريد العقوبة كدليل على مشروعيتها:
    يبدو أن المحكمة الدستورية العليا تولي اهتماماً كبيراً بسلطة القاضي في تفريد العقوبة. فهي حكمت في وقت سابق بعدم دستورية المادة 26 من قانون الأسلحة والذخائر التي تم تعديلها في 2012[10] لجهة منع القاضي من تخفيض العقوبة بالنسبة للجرائم الواردة في المادة 26، معتبرة أن سلطة القاضي في تفريد العقوبة هي جوهر السلطة القضائية، وإلغاؤها يعتبر نوعاً من التدخل في شؤون القضاء ويطيح بضوابط المحاكمة المنصفة[11].
    وها هي مرة أخرى، تلجأ إلى سلطة القاضي في تفريد العقوبة كمرجع لإقرار مشروعية العقوبة من عدمها. فأثناء مراجعة مدى اتساق العقوبات المقررة في المادة 19 من قانون تنظيم التظاهر مع الدستور، ورغم الدفع بغلو هذه العقوبات، وإقرار تقرير هيئة المفوضين بهذا الغلو، إلا أن المحكمة اعتبرت المادة دستورية ولم تعتبر أن العقوبات المقررة فيها لا تتسق مع الفعل المعاقب عليه، ونفت عنها صفة الغلو.
    فاعتبرت المحكمة أن العقوبات المقررة هي عقوبات مقررة للجنح لا الجنايات، ومن ثم فهي تتناسب مع خطورة وفداحة الإثم المجرم في المادة السابعة دون غلو أو تفريط. بالإضافة إلى أن المادة 19 أعطت للقاضي سلطة تفريد العقوبة حيث يمكنه اختيار العقوبة التي يوقعها على كل متهم على حدة. كما أن المادة أفردت له حدين أقصى وأدنى يراوح بينهما، ولم تسلبه خيار وقف تنفيذ العقوبة، اذا قدر ذلك. وهو ما اعتبرته المحكمة متسقا مع قضاء المحكمة في ما يخص سلطة القاضي في تفريد العقوبة، حيث أن “مشروعية العقوبة، من زاوية دستورية، مناطها أن يباشر كل قاض سلطته في مجال التدرج بها وتجزئتها، تقديرا لها، في الحدود المقررة قانونًا، فذلك وحده الطريق إلى معقوليتها وإنسانيتها جبرا لآثار الجريمة من منظور عادل يتعلق بها وبمرتكبها”.
    وكان الطاعنون يأملون في تضييق الحدين الأدنى والأقصى للعقوبة المنصوص عليهما في القانون، وتقليل مبلغ الغرامة، من باب التطلع إلى ممارسة حق التظاهر بحرية أكبر دون التنكيل بممارسيه، عن طريق تلفيق تهم لهم، ومعاقبتهم على أثرها.
  • لا مسؤولية تضامنية في قانون التظاهر
    في 21-5-2016، أصدرت محكمة النقض حكماً تؤكد فيه أن المسؤولية المفترضة أو التضامنية في العقاب لا تطبق إلا استئناء رافضة أن تطبقها على المتهمين في قضايا تظاهر. وهو المبدأ الذي أكدت المحكمة الدستورية العليا عليه في حكميها، محلّ قراءتنا، حيث اعتبرت أن الصياغة المستخدمة في المادة 7 من القانون تكرس شخصية العقوبة، وتؤكد على أن “الإثم الشخصي لا يقبل الإستنابة”. وهو ما يفرض قراءة واضحة للمادة التي حظرت على “المشاركين” بصيغة الجمع الإتيان بالأفعال الواردة فيها، مما قد يفتح الباب للمسؤولية التضامنية، وهو ما نفته محكمتا النقض والدستورية مؤكدين على مبدأ “شخصية المسؤولية”. كما أكدت المحكمة الدستورية في قراءتها لهذه المادة على عمدية الجريمة الواردة فيها، فاعتبرت أن الجريمة لا تقع “إلا اذا ارتُكب الفعل عن علم بطبيعته وإرادة إتيانه، واتجهت إرادة الجاني، متبصراً، إلى العدوان على أحد الحقوق والحريات والمصالح الواردة حصراً بهذه المادة، شريطة أن يتم العدوان فعلاً“؛ وهو ما يوفر قراءة واضحة لهذه المادة، ويؤكد على شرط الإرادة، المستقر عليه جنائياً، لتجريم الأفعال المنصوص عليها في المادة. وهو ما يعني أن على المحاكم التي تنظر قضايا متعلقة بقانون تنظيم التظاهر أن تنتبه إلى ضرورة توفر إرادة الجاني عند ارتكابه الفعل المعاقب عليه لتوقيع العقوبة، وهو ما يفتح الباب لبراءة المتظاهرين، الذين تُلفق لهم، في أغلب الأحيان، تهم الاخلال بالنظام العام أو قطع الطريق أو غيرها من التهم.
    كما أكدت على مبدأ شخصية المسؤولية عند مراجعتها لنص المادة 8 من القانون، حيث اعتبرت أن أيّ شعارات جديدة تُطلق أثناء التظاهرة، في حال كانت محلا للتأثيم، يُسأل عنها من أطلقها ورددها فقط من المتظاهرين دون غيرهم، تطبيقا لمبدأ المسؤولية الجنائية.

خاتمة:
رفع الحكم بعدم دستورية المادة 10 من قانون تنظيم التظاهر يد الحكومة، ممثلة في وزارة الداخلية، عن سلطة التصريح بالتظاهرة. فكانت وزارة الداخلية تتمسك بهذه المادة لمنع التظاهرات، معللة ذلك بأسباب تتعلق بالأمن، ولكن بعد هذا الحكم، لم يصبح هذا ممكناً حيث أن حق التظاهر أصبح مكفولاً منذ الإخطار بالتظاهرة، وهو ما يتسق مع المادة 73 من الدستور.

ولعل التساؤل الذي يطرح حالياً، هو حول اذا ما كانت الدولة سوف تستحدث مادة جديدة لاستبدال هذه المادة، محاولة فرض سيطرتها على إقامة التظاهرات بطريقة أخرى، أم ستلتزم فعلياً بحكم المحكمة الدستورية العليا. كما أنه يجب على المشرع أن يعدل القانون، وفقاً لحكم المحكمة الدستورية العليا، للنص على المحكمة المختصة للنظر في طلب جهة الإدارة لمنع التظاهرة أو تغيير موعدها أو إرجائها أو تغيير مسارها. أي أنه، يجب أن يتدخل المشرع في أقرب وقت لاستحداث مادة جديدة تتفق مع الحكم الصادر، وهو ما ننتظره في الأيام القادمة.

على جانب آخر، يبقى الحكم بدستورية المواد العقابية 7 و19 من القانون مخيباً للآمال التي كانت تطمح إلى الحكم بعدم دستوريتهما، ومن ثم استخدام هذا الحكم في قضايا التظاهر المنظورة أمام المحاكم والإفراج عن المحبوسين.

ومن ثم، فإن كفالة حق الاجتماع بأشكله المختلفة كما نتمناها ونرجوها، لن تتحقق إلا في ظل رغبة سياسية وإجتماعية حقيقية تؤمن بأهمية هذا الحق، كصورة مثلى للممارسة حرية التعبير والتي اعتبرتها المحكمة “قيمة عليا لا تنفصل الديمقراطية عنها”[12]؛ دون أن تعتبره سببا من أسباب الشغب أو تعطيل الإنتاج أو التعدي على هيبة الدولة، مما يترتب عليه تنظيمه بطريقة تهدف فعلاً إلى تحقيق التوازن بين ممارسته وبين الحقوق والحريات الدستورية الأخرى، دون أن تتغول أي منهما على الأخرى إلا استثناء وفي أضيق الظروف، كما سطرت المحكمة الدستورية في حكمها.

حكم الدستورية في المادة 19 تظاهر.
حكم الدستورية في المادة 8 و 10 تظاهر.


[1]  حكم صادر بتاريخ 27-1-2016 من محكمة جنح مستأنف القاهرة، في الجنحة رقم 12182 لسنة 2015 جنح عابدين، والمستأنفة برقم 4999 لسنة 2015 مستأنف وسط القاهرة.
[2] راجع “تأييد الحكم على ماهينور المصري حلقة جديدة في سلسلة حبس المدافعات عن حقوق الإنسان..يجب إسقاط الحكم ومراجعة القانون“، بيان صادر عن 18 منظمة حقوقية بتاريخ 21-5-2014.
[3]  راجع “في حكم صادم مستأنف مصر الجديدة تبقي على 22 من متظاهري الاتحادية عامان بالسجن والدفاع يستعد للنقض“، بيان صادر عن مركز الحقانية بتاريخ 28-12-2014.
[4] تنص المادة 8 من قانون تنظيم التظاهر على:”يجب على من يريد تنظيم اجتماع عام أو تسيير موكب أو تظاهرة أن يخطر كتابة بذلك قسم أو مركز الشرطة الذي يقع بدائرته مكان الاجتماع العام أو مكان بدء سير الموكب أو التظاهرة، ويتم الإخطار قبل بدء الاجتماع العام أو الموكب أو التظاهرة بثلاثة أيام عمل على الأقل وبحد أقصى خمسة عشر يوماً، وتقصر هذه المدة إلى أربع وعشرين ساعة إذا كان الاجتماع انتخابياً، على أن يتم تسليم الإخطار باليد أو بموجب إنذار على يد محضر، ويجب أن يتضمن الإخطار البيانات والمعلومات الآتية: 1-مكان الاجتماع العام أو مكان وخط سير الموكب أو التظاهرة، 2-ميعاد بدء وانتهاء الاجتماع العام أو الموكب أو التظاهرة، 3-موضوع الاجتماع العام أو الموكب أو التظاهرة، والغرض منها والمطالب والشعارات التي يرفعها المشاركون في أي منها، 4-أسماء الأفراد أو الجهة المنظمة للاجتماع العام أو المواكب أو التظاهرة وصفاتهم ومحل إقامتهم ووسائل الاتصال بهم”.
[5] تنص المادة 10 من قانون تنظيم التظاهر على:”يجوز لوزير الداخلية أو مدير الأمن المختص في حالة حصول جهات الأمن-وقبل الميعاد المحدد لبدء الاجتماع العام أو الموكب أو التظاهرة-على معلومات جدية أو دلائل عن وجود ما يهدد الأمن والسلم، أن يُصدر قراراً مسبباً بمنع الاجتماع العام أو الموكب أو التظاهرة أو إرجائها أو نقلها إلى مكان آخر أو تغيير مسارها، على أن يُبلغ مقدمي الإخطار بذلك القرار قبل الميعاد المحدد بأربع وعشرين ساعة على الأقل. ومع عدم الإخلال باختصاص محكمة القضاء الاداري، يجوز لمقدمي الإخطار التظلم من قرار المنع أو الإرجاء إلى قاضي الأمور الوقتية بالمحكمة الابتدائية المختصة على أن يُصدر قراره على وجه السرعة”.
[6] تنص المادة 7 من القانون على:”يحظر على المشاركين في الاجتماعات العامة أو المواكب التظاهرات الإخلال بالأمن أو النظام العام أو تعطيل الانتاج أو الدعوة إليه أو تعطيل مصالح المواطنين أو إيذائهم أو تعريضهم للخطر أو الحيلولة دون ممارستهم لحقوقهم وأعمالهم أو التأثير على سير العدالية أو المرافق العامة أو قطع الطرق أو المواصلات أو النقل البري أو المائي أو الجوي أو تعطيل حركة المرور أو الاعتداء على الأرواح أو الممتلكات العامة أو الخاصة أو تعريضها للخطر”.  
[7] تنص المادة 19 من قانون تنظيم التظاهر على:”يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنتين ولا تجاوز خمس سنين، وبالغرامة التي لا تقل عن خمسين ألف جنيه ولا تجاوز مائة ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتيت كل من خالف الحظر المنصوص عليه في المادة السابعة من هذا القانون”.
[8] راجع الحكم الصادر في الدعوى رقم 160 لسنة 36 قضائية دستورية.
[9]  راجع على سبيل المثال: حكم محكمة أسوان الجزئية في الدعوى رقم 6640 لسنة 2016 جنح أسوان الصادر بتاريخ 21-9-2016، وحكم محكمة المنتزه أول الجزئية في الدعوى رقم 75279 لسنة 2016 جنح أول المنتزه والصادر بتاريخ 27-7-2016، وحكم محكمة جنوب القاهرة الابتدائية في القضية رقم 2641 لسنة 2016 جنح مستأنف وسط القاهرة الصادر بتاريخ 4-6-2016.
[10] راجع حكم المحكمة الدستورية العليا الصادر في 8-11-2014.
[11] راجع منة عمر، “المحكمة الدستورية العليا المصرية: منع القاضي من تفريد العقوبة غير دستوري”، نُشر في العدد 2 من مجلة المفكرة القانونية-تونس.
[12] القضية رقم 234 لسنة 36 قضائية دستورية.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، مصر



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني