معركة التربية في الخمسينيّات (2): هل كان تأميم التعليم طرحاً سياسياً جدّياً؟


2016-12-12    |   

معركة التربية في الخمسينيّات (2): هل كان تأميم التعليم طرحاً سياسياً جدّياً؟

بعدما تراكمت مصادر التوتّر بين المدارس الخاصة – الكاثوليكية من جهة ووزارة التربية من جهة أخرى طوال سنوات ما بعد الاستقلال (الجزء الأول من المقال في العدد السابق من “المفكّرة”)، بدأت سنة 1956 المواجهة بين المدارس وأساتذة التعليم الخاصّ حول مشروع القانون الآيل إلى تحسين ظروفهم. وسرعان ما دار النقاش البرلمانيّ حول توصيف النزاع بحدّ ذاته: هل هو نزاعٌ طبقيّ يقوده عمّالٌ (المعلمون) يواجهون أرباب عملهم (المدارس الخاصّة)، أم هو نزاعٌ تربويّ بين المدارس الخاصّة والدولة حول السياسة التعليميّة ومصير التربية في لبنان، أو حتى نزاع سياسيّ – بنيويّ بين المؤسسات الطائفيّة والدولة؟

لا شكّ أن خطاب المعلمين في البداية أتى مطلبيّاً إجتماعيّاً واضحاً لا تسوده المسألة التربوية. فقد وضعت نقابة المعلمين إضرابها الذي أعلنته في 12 شباط 1956 في إطار السعي نحو “عدالةٍ إجتماعيّةٍ” أفضل، كما اتّهمت المدارس الخاصة بـ”الإستغلال”[1]. والتحق بعض النوّاب بهذا التوصيف، فنقرأ في تقرير اللجان المشتركة[2] حول مشروع القانون أن “المشكلة هذه ليست سوى وجه للأزمة الإجتماعية الكبيرة التي يواجهها لبنان منذ أكثر من عشر سنوات، وكان قانون العمل في العام 1946 قد حاول معالجتها”. كما تكلّم وزير التربية أيضاً عن “قانونٍ إجتماعيّ يعيد الإنصاف بين العامل وربّ العمل”[3].

إلا أن النقاش النيابيّ بدّل تدريجياً مضمون هذا التوصيف: فمن مشكلةٍ إجتماعيةٍ إقتصاديةٍ لفئة مهنيّة، تحوّلت مسألة المعلمين إلى مشكلة تحديد هوية لبنان التربويّة ودور الدولة في هذا الصدد. فنقرأ مثلاً نائباً يتكلّم في هذه المناسبة عن “مستقبل التعليم في هذا البلد”[4]، ونائباً آخر يسأل عن هوية الجهة التي “تتحمّل مسؤولية التعليم والتربية”[5] في لبنان (الدولة أم الطائفة؟). وقد ساهم هذا التحوّل في تحجيم النقاش حول حقوق المعلّمين إلى أن اختفى تقريباً في ظل حدّة الخلاف حول موقع المدارس الخاصّة وعلاقتها بالدولة.

مدارس خاصّةأم طائفيّة؟
في ظلّ الصراع حول طبيعة المشكلة المطروحة، أتى ردّ فعل المؤسسات الكاثوليكيّة على مرحلتين. في المرحلة الأولى، بقيت المؤسّسات الدينيّة متواريةً خلف تسمية “المدارس الخاصّة” وخلف بعض النوّاب المدافعين عن مصالحها. إذ غاب عن نقاشات الإعلام ومجلس النواب ذكر المدارس الكاثوليكيّة: “المدارس الخاصّة” هي التي اعترضت على مشروع اللجان المشتركة، و”مالكو المدارس الخاصّة” هم الذين التقوا برئيس مجلس النوّاب[6]، كما أن “اللجنة التنفيذيّة للمدارس الخاصّة” هي التي وزّعت على النواب نصّاً تعترض فيه على مشروع القانون الذي يحسّن وضع أساتذة التعليم الخاص[7]. كذلك، حكى النوّاب المدافعون عن المدارس الكاثوليكيّة، مثل النائب جوزيف شادر، عن “المدارس الخاصّة” فقط، بعكس مهاجميها الذين أصرّوا دائما على إظهار طابعها الطائفيّ، مثل عبدالله اليافي وكمال جنبلاط[8].

في الأسابيع الأولى من النقاش، أظهر استخدام مصطلحات الخصخصة ميلاً إلى جعل المشكلة ماليةً حسابيّةً فقط، بما يُسقط أبعادها السياسيّة: فحقوق الأساتذة ترتّب على المدارس أعباءً ماديّةً من الطبيعيّ أن تساعد الدولة على تحمّلها. من هنا، ليس صعباً على المراقب فهم أهمية تفادي المظهر الطائفيّ بالنسبة إلى المدارس في المرحلة الأولى: فالقسم الأكبر من المدارس الخاصّة كان مسيحيّاً وكاثوليكيّاً، ما يعني أن أيّ مطالبة بمساندة “التعليم الخاص” كانت عملياً تعني مساعدة التعليم الكاثوليكيّ. فهم الجميع أن ذلك قادرٌ على أن يتسبّب بتشنّجاتٍ طائفيّةٍ، وحاولوا تلافيها بدايةً عبر الإختباء خلف تعابير ومفاهيم مثل “الخاصّ” و”مالكي المدارس”، أيّ تحت مظلّة السوق والملكية الخاصّة. وقد لجأت المدارس الكاثوليكيّة إلى هذه الإستراتيجيّة في معظم مراحل النزاع بشكلٍ متفاوت، وتجلّت لمّا أشاد أمينها العام بـ”المبادرة الخاصة في التعليم” وركّز على دورها المصيريّ في لبنان[9].

بالإضافة إلى مظلّة “الخاص” هذه، لجأت المدارس الكاثوليكية في بداية العام 1956 إلى مظلّةٍ أخرى: التمثيل السياسيّ في مجلس النوّاب. غابت المؤسّسات الكاثوليكيّة عن السمع بينما كان بعض السياسيّين المسيحيّين، مثل النائبين شادر وإميل البستاني، يقومون بواجب الدفاع عن “المدارس الخاصّة”. وفي 13 آذار 1956، انسحب أربعة عشر نائباً من الجلسة اعتراضاً على تأجيل البحث في مبدأ تغطية الدولة لتكاليف حقوق الأساتذة، فيما كانت حكومة رشيد كرامي تتعرّض لهجوم هؤلاء النوّاب طوال هذه الفترة، مع تهديد بعض الوزراء بالإستقالة. وهذا ما حصل فعلاً في 15 آذار 1956، إذ سقطت حكومة كرامي “لفشلها في إدارة مسألة الأساتذة”[10].

خلف “السوق” و”الملكية الخاصّة”، وخلف المؤسّسات التمثيليّة، بقيت المدارس والمراجع الدينيّة الكاثوليكيّة صامتةً تدير معركة لم يعد الأساتذة فيها سوى حجّةً لن يتأخر طرفا النزاع التربويّ في التخلّي عنها.

البطريرك يتدخّلإضراب المدارس الكاثوليكيّة الكبير
لن تظهر الكنيسة بشكلٍ مباشرٍ وواضحٍ إلا في بداية شهر أيار، بعد التصويت على مشروع قانون حماية حقوق الأساتذة في 30 نيسان 1956، في سياق تسويةٍ أوجدها الرئيس كميل شمعون آنذاك. بموجب التسوية، تساعد الحكومة المدارس بمبلغ مليون وثلاثمئة ألف ليرة لبنانيّة لسنة واحدة، على أن تحدَّد لاحقاً قيمة المساعدة السنويّة المستقبليّة، ما رفضته المدارس بعد أيامٍ معدودة مطالبةً باعتماد مبدأ المساعدة السنويّة التي تحدّدها حاجات المدارس فقط.

اتخذ تدخّل الكنيسة حينها شكلين: الشكل الأول بدا عبر تدخّل هام لمختلف الفاعلين الكنسيّين، من البطريرك الماروني المعوشي شخصيّاً إلى الأساقفة وأمين عام المدارس الكاثوليكيّة، والثاني، عبر انتقال النقاش من المسائل الماليّة التقنيّة إلى مسألة هوية لبنان ومصير التربية فيه. طبعاً، لم يكن تدخّل رجال الدين الموارنة مفاجئاً. فقد بدأ خجولاً خلال شهر نيسان مع احتدام النقاش النيابيّ، تقدّم صورةً عنه مطالبة البطريرك للرئيس كميل شمعون، في لقاء بينهما في 30 آذار 1956، بالتدخّل لمصلحة المدارس الخاصة، كما تطرّقه إلى مسألة المدارس في لقاءٍ آخر مع رئيس الحكومة المكلّف عبدالله اليافي في 6 نيسان. وذهب تدخّل رجال الدين في اتجاهٍ تصاعديّ كما في الإجتماع الذي عقد في ٢٣ نيسان برئاسة مطران بيروت، وجمع عدة أساقفة مع إثني عشر نائباً مسيحياً، بالإضافة إلى وزيري التربية والمالية الجديدين، سليم لحود وجورج كرم. وقد انتقده الرئيس اليافي في مجلس الوزراء رافضاً الطابع “الطائفيّ” لهذا اللقاء الذي نظّمه وأداره مطران[11].

ولا شكّ بأن قرار المدارس الكاثوليكيّة القاضي باللجوء إلى الإضراب في 4 أيار 1956 منح المواجهة بعداً جديداً، إذ أنه أتى رفضاً للتسوية التي جسّدها قانون 30 نيسان. عند إعلان الإضراب، أبدت مراجع الطوائف الأخرى المسيحيّة والإسلاميّة امتعاضاً تجاه ما وصفته بالخطوة الأحاديّة، ولم تشارك مدارسها بالإضراب لا بل ظهرت عند بعضها بوادر دعمٍ لمشروع التأميم. وكان قرار الإضراب قد اتُخذ في اجتماعٍ ترأسّه البطريرك، وحضره رؤساء الطوائف والرهبانيّات الكاثوليكيّة. شمل الإضراب أكثر من 500 مدرسة و83 ألف طالباً[12]، علماً أن بعض المدارس التي التزمت به كانت أجنبيةً، ما أثار انتقادات رئيس الوزراء الذي اتّهمها بالتدخّل في الشؤون اللبنانيّة وهدّدها بالتأميم في حال لم تبتعد عن النزاع[13].

إثر قرار الإضراب، وقع شرخٌ بين الكنيسة والسياسيّين الموارنة الذين اشتكوا من تهميشهم في قرار الإضراب وما تبعه من مفاوضات، فأصبحت بكركي مركز المفاوضات مع الحكومة. حتى جريدة “النهار” المعارضة لحكومة اليافي، انتقدت قرار الكنسية معتبرةً إياه انتفاضة ضد قانونٍ وافق عليه معظم ممثلي الطائفة والبرلمان، ورأت فيه تعدّيا واضحاً على قواعد عمل النظام اللبنانيّ البرلمانيّ[14]. وقد ترافق تدخّل الفاعلين الكنسيّين في النزاع مع تحوّلٍ في مصطلحاته، إذ تراجع الحديث عن الوجه الماليّ للأزمة أمام صعود مسائل مثل “تهديد حرية التعليم والمعتقد والفكر” و”تعليم أولادنا” و”مستقبل لبنان القريب والبعيد”[15]. كما أصدر أمين عام المدارس الكاثوليكيّة إغناطيس مارون نداءً للدفاع عن “الحريات الأساسيّة” المهدّدة من قبل القانون الجديد[16].

عندما كان تأميم المدارس مشروعاً حكومياً
نقطة التحوّل الكبرى وقعت عندما لمّحت حكومة اليافي إلى نيّتها فرض “التعليم الإلزاميّ والمجانيّ” للجميع[17]. إذ سرعان ما فُسِّرَ هذا الموقف المبهم بطريقتين مختلفتين تماماً، وقد شكّلت ضبابيّته محرّكاً جديداً للأزمة: هل يعني تأميم التعليم وجعله رسمياً للكل (كما فهمه اليافي ومؤيدو توحيد التعليم تحت راية الحكومة)، أم تعليم مجّاني تكتفي الدولة بتمويله مع الحفاظ على تعدّدية المدارس (كما فهمته المراجع الكاثوليكيّة)؟

ولم تكن فكرة تأميم التعليم الإبتدائيّ غريبةً تماماً عن الحياة السياسيّة اللبنانيّة، إذ تجد جذورها في قناعات جزءٍ من النخب الإداريّة غداة الإستقلال (مثلما وضّحها المقال السابق)، كما وردت خلال أزمة 1956 على لسان عدّة نواب، كأديب الفرزلي الذي عبّر مراراً عن إيمانه بـ”دولة تقفل المدارس الطائفيّة”[18]، وهاشم الحسيني، وعبدالله الحاج الذي طالب بـ”إلغاء ما يسمّى بالتعليم الخاص”[19]. وكان هؤلاء على قناعةٍ بضرورة التأميم لبناء ثقافةٍ وطنيّةٍ موحّدة يهدّدها تعدّد الثقافات التعليميّة الذي يغذّي بنظرهم تعدّد الولاءات على حساب الولاء للدولة.

وقد أثار إقتراح الحكومة نقاشاً حادّاً في الإعلام. فشنّت جريدة “الأوريان” حملةً عنيفةً ضدّه، مذكّرةً الرئيس اليافي بأنه “ليس هناك مواطن واحد يطلب من الدولة أن تأخذ مكان التعليم الحرّ”[20] (عبارة استخدمها المدافعون عن المدارس الخاصة كثيراً)، فيما كتبت جريدة “النهار”: “بانتظار أن تأتي دولة أخرى مكان هذه الدولة ]الفاشلة[، فمن الأفضل أن يبقى التعليم الإبتدائي حرّاً”[21]. وفي حين ربطت الحكومة التأميم بكلفته المالية غير المعروفة بعد، سعى رئيسها لتطمين المراجع الدينيّة مؤكّداً أنه، حتى لو فرض المدرسة الرسميّة على الجميع، فذلك لن يعني وقف التعليم الدينيّ فيها. بمعنى آخر، طمأن اليافي المراجع الدينيّة إلى أن التأميم لن يؤدّي إلى علمنة المدرسة اللبنانيّة. وأتى الإضراب الكبير للمدارس الكاثوليكية ليدفع حكومة اليافي بشكل أقوى نحو خيار التأميم، إذ اعتبرت أن المدارس الخاصّة رفضت الحلول الوسطى والتسويات التي سبق طرحها.

ردّ المدارس الكاثوليكيّة“الدولة هي نحن
في مواجهة مشروع التأميم، حملت المدارس الكاثوليكيّة ومؤيدوها مشروع “البطاقة المدرسيّة”. وهي سياسةٌ تعطي فيها الدولة لكلّ تلميذ “بطاقة” وتسمح له بأن يتسجّل مجّاناً في أيّة مدرسةٍ يختارها أهله، أكانت خاصّةً أو رسميّة. ويجد هذا المشروع جذوره في رسالة 1949 الرعويّة[22]، عندما حصرت المراجع الكاثوليكيّة دور الدولة في إطار توزيع المال العام على جميع المؤسّسات التربويّة في البلد، مهما كانت طبيعة هذه المؤسّسات. تالياً، تؤدي الدولة في المشروع دور المراقب – المموّل عن بعد، بعكس سياسات توسّع المدرسة الرسميّة التي انتهجتها الحكومات بعد 1943 والتي بلغت مرحلةً نافست فيها المدارس الخاصّة وأزعجت رعاتها الدينيّين.

إلا أن هذا التصوّر لدور الدولة أخذ في العام 1956 شكلاً أكثر وضوحاً في الردّ على اقتراح التأميم، وقد أعدّت اللجنة التربوية الأسقفية مشروعاً من 112 مادة بهذا الخصوص[23]. ومن اللافت أن الجهتين المدافعتين بشكلٍ أساسيّ عن هذا المقترح، وهما “الأمانة العامة للمدارس الكاثوليكيّة” وجريدة “الأوريان”، ركّزا مقاربتهما على مبدئين. المبدأ الأول تقليديٌّ في هذا الإطار، وهو مبدأ الحرية، أيّ حرية أهل التلميذ بوضعه في المدرسة التي يفضّلونها، بعيداً عن كلّ الإعتبارات الماليّة (الدولة تموّل، والعائلة تقرّر). أما المبدأ الثاني فمثيرٌ للإهتمام، وقوامه المساواة الضريبيّة بين اللبنانيّين[24]. فتبعاً لمنطق المدافعين عن مشروع البطاقة، يدفع اللبنانيّون الذي يسجّلون أولادهم في المدارس الكاثوليكيّة الخاصّة (ومعظمهم من المسيحيّين آنذاك) ضريبةً مزدوجة: ضريبة مباشرة للدولة التي لا تُؤَمِّن لهم شيئاً تربوياً، إذ أن مدارسها الرسميّة بعيدة ودون المستوى، وضريبةٌ أخرى غير مباشرة يدفعها الأهل عبر أقساط أولادهم في المدارس الخاصة[25]. في المقابل، يحصل الأهل الذين يضعون أولادهم في المدارس الرسميّة (ومعظمهم من المسلمين آنذاك) على خدمةٍ عامّةٍ واضحةٍ بدل ضريبتهم الوحيدة للدولة. لذا، من العدل أن يدفع جميع اللبنانيّين الضريبة ذاتها ليحصلوا على الخدمة ذاتها من قبل الدولة، التي يتوجّب عليها تالياً أن تموّل التعليم الإبتدائيّ مهما كانت طبيعة المدرسة التي تختارها العائلات. وهو ما يؤمّنه مشروع “البطاقة المدرسيّة”.

ولم ينفِ المدافعون عن المشروع علمهم بنتيجته الحتميّة، وهي اضمحلال المدرسة الرسميّة واختفاؤها، إذ أن مستواها الضعيف نسبياً في سنوات ما بعد الإستقلال سوف يدفع بمعظم العائلات إلى تسجيل أولادهم في المدارس الخاصة “الحرّة”، ولكن المموّلة من الدولة[26]. إلا أن نتيجةً كهذه ستكون بنظرهم “مفيدة” في النهاية[27]. وتأتي هذه النظرة ضمن فلسفة سياسيّة تبتغي علناً فرض “حدود على الدولة”، كما عنونت الصحيفة إحدى افتتاحياتها في شهر أيّار[28]. فالبعض “يعتبر الدولة هدفاً بحدّ ذاته”، ما تجب محاربته تجنّباً لـ”استبداد البيروقراطيّة”. فلن يتمّ السماح للدولة اللبنانية بـ”السيطرة على الفكر”، لأن “الدولة هي نحن، على تنوّعنا”[29].

طبعاً، لم يبصر أيّ من مشروعَي تأميم التعليم الإبتدائي و”البطاقة المدرسيّة” النور، لا بل أدّى النزاع إلى إصدار القانون الوسطيّ الداعم لحقوق الأساتذة من قبل رئيس الجمهورية في 21 حزيران 1956. ويتضمّن هذا القانون تقديم مساعدة للمدارس الخاصة حاول الرئيس شمعون رفع قيمتها قدر الإمكان[30]، فيما استمرّت المفاوضات في الأشهر والسنوات التالية حول حجم هذه المساعدة الذي راح يزداد سنة بعد سنة. وسوف يمهّد هذا القانون تدريجياً لإطلاق المدارس الخاصّة المجانيّة المموّلة من الدولة والتي ما زالت حاضرة حتى اليوم، وهي من مخلّفات هذه المعركة بين المشروعين التربويّين[31]. ومن اللافت أنه عندما أُقِرَّ مبدأ المساعدة المحدودة للمدارس الخاصة، ظهرت تلقائياً تشنّجات إسلاميّة – مسيحيّة: فهل تُوَزَّع الأموال بشكلٍ نسبيّ على عدد المدارس أو التلاميذ (وهو ما طالبت به المراجع الكاثوليكية، علماً أن عدد مدارسها أضعاف عدد مدارس الطوائف الأخرى)، أم مناصفةً بين المسلمين والمسيحيين بغضّ النظر عن عدد التلاميذ، مثلما كان يطالب رئيس الحكومة ورئيس مدارس “المقاصد” محمد سلام[32]؟

شبح الدولة القويّة
هل كان مشروع التأميم جدّياً؟ هل كاد يبصر النور لولا معارضة المدارس الكاثوليكيّة الشرسة؟ هل طرح الرئيس اليافي تأميم التعليم الإبتدائيّ من باب التهويل السياسيّ فقط، بهدف الضغط على المدارس والمراجع الكاثوليكيّة للقبول بتسوية المساعدة الماليّة المحدودة للمدارس؟ تشير المعطيات إلى أن المشروع كان مكلفاً جدّاً مالياً، كما أنه عصيّ على الولادة سياسياً في ظلّ رفض أكثرية واسعة في المجلس النيابيّ لفكرة إعدام التعليم الخاصّ الإبتدائيّ[33]. كما أن جزءاً من النخبة الإداريّة التربويّة في الخمسينيّات كان قد بدّل نوعاً ما نظرته لدور الدولة في التربية، وإن تمسّك بأهميّة رقابة الدولة على المدارس الخاصّة. فمدير عام وزارة التربية آنذاك نجيب صدقه، الذي تابعنا أفكاره في المقال السابق، صار في العام 1954 يعتبر أن أيّ مشروع لتأميم التربية في لبنان سيكون “وهمياً”[34]. وتساءل حول ما إذا كان هدف توسّع التعليم الرسميّ إلى ما لا نهاية واقعياً، كما فتح المجال أمام إمكانيّة استعمال البنية التحتيّة التربويّة للمدارس الخاصّة كوسيلة للوصول إلى أهداف ذاك الزمن التربويّة، ولاسيما القضاء على الأمّيّة. إلا أن طرح صدقه، وبعكس المدارس الخاصّة، ارتكز على حججٍ واقعيّةٍ لا إيديولوجيّة، لا يمكن فصلها عن ضرورة بسط الدولة لكامل سيطرتها على التعليم الخاصّ تنظيميّاً وتربويّاً. وهو شرط لم يتأمّن في العقود اللاحقة، تماماً كما حصل في قطاعات أخرى كجمعيات الرعاية والمياتم وغيرها من المؤسسات الخاصّة – الطائفيّة التي ما زالت تستفيد من الأموال العامّة من دون أيّ رقابة تذكر على عملها.

 نشرت هذه المقالة في العدد |45|تشرين الثاني/نوفمبر 2016، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه :

“حروبٌ كبرى حول طفل منسيّ”


[1] أنظر جريدة النهار، 13 شباط 1956.
[2] الذي عُرِضَ على الهيئة العامة في 22 شباط 1956.
[3] جلسة 8 آذار 1956.
[4] مداخلة النائب سليم حيدر، 21 شباط 1956.
[5] النائب بيار إده، 22 شباط 1956.
[6] النهار، 27 كانون الثاني 1956.
[7] النهار، 28 كانون الثاني 1956.
[8] أنظر جلسة 22 شباط مثلاً.
[9] الأوريان، 9 أيار 1956.
[10] النهار، 16 آذار 1956.
[11] الأوريان، 25 نيسان 1956.
[12] النهار، 5 أيار 1956.
[13] النهار، 15 أيار 1956.
[14] النهار، 6 أيار 1956.
[15] أنظر بيان اللجنة الأسقفية الذي أعلن إضراب المدارس، النهار في 5 أيار 1956.
[16] الأوريان، 9 أيار 1956.
[17] أنظر جلسة 19 نيسان 1956 النيابيّة.
[18] جلسة 22 شباط 1956.
[19] جلسة 13 آذار 1956.
[20] عدد 22 نيسان 1956.
[21] عدد 24 نيسان 1956.
[22]  أنظر المقال السابق.
[23] الأوريان، 15 أيار 1956.
[24] أنظر مثلاً محاضرة الأمين العام للمدارس الكاثوليكيّة في الندوة اللبنانية، في 19 شباط 1951، أو جريدة الأوريان في عددها الصادر في 15 أيار 1956.
[25] بهذا الخصوص، يمكن الرجوع إلى كلام أمين عام المدارس الكاثوليكية المنشور في صحيفة الأوريان، عدد 9 أيار 1956.
[26] وذهبت جريدة الأوريان إلى حدّ سؤال الرئيس عبدالله اليافي عمّا إذا كان يقبل هو بتسجيل أولاده في مدرسة رسميّة (الأوريان، عدد 6 أيار 1956).
[27] الأوريان، 24 نيسان 1956.
[28] أنظر عدد 12 أيار 1956.
[29] الأوريان، 9 أيار 1956.
[30] وقد كان طوال الأزمة يدافع عن وجهة نظر المدارس الكاثوليكية، حتى أنه علّق إصدار قانون 30 نيسان 1956 على موافقتها.
[31] لمتابعة نشوء وتطوّر هذه المدرسة المجانية في العقود التالية، يمكن مراجعة أطروحة خليل أبو رجيلي.
[32] الأوريان، عدد ٩ أيار ١٩٥٦. وقد تمّ اعتماد حلّ وسط يوزّع الأموال نسبةً لعدد التلاميذ، بينما تحصل المدارس التابعة للطوائف الإسلامية على مساعدة مستقلة للسنوات التالية تعوّض تأخّرها العددي.
[33] وقد فشل مقترحان بهذا الاتجاه للنائبين الحاج والفرزلي من الحصول على عدد مقبول من الأصوات في ربيع ١٩٥٦.
[34] أنظر محاضرته في الندوة اللبنانية في ٢٢ شباط ١٩٥٤.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، دستور وانتخابات ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، الحق في الصحة والتعليم



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني