وراء الأزمة المستفحلة بين نقابات التعليم ووزارة التربية، أي مصير ينتظر المدرسة العمومية في تونس؟


2016-12-05    |   

وراء الأزمة المستفحلة بين نقابات التعليم ووزارة التربية، أي مصير ينتظر المدرسة العمومية في تونس؟

كثير من الهرج والمرج والسباب العلني والشتائم  يتبادلها اليوم المعلمون والأساتذة من جهة ووزير التربية من جهة أخرى. ويتدخل نواب المجلس النيابي وحتى الأولياء في هذا الجو المشحون فضلا عن الاعلام  الذي يساهم في عملية الإصطفاف مع هذا ضد الآخر ويضاعف في توتير الأجواء. هذا مع الوزارة يعتقد أن وزير التربية ناجي جلول وقف أمام النقابات وكان ناجحا في كسره لشوكة المعلمين، حيث لم يخضع في كثير من الأحيان إلى مطالبهم المادية المجحفة والتي تتعارض مع إمكانات الدولة التي تعاني عجزا ماليا تجاوز كل طاقاتها ورفضهم لكل عملية إصلاح حقيقي.  فالأساتذة إلا قليلا منهم حصروا اهتمامهم في الجوانب المادية ويتكرر صراعهم مع الوزارة من أجل المستحقات الماليّة والترقيات. ولا تجد لهم حماسا لمسألة إصلاح التعليم. والآخر يرى أن النقابات من خلال تجمعها الضخم يوم 30-11-2016 والذي جمع أكثر من ثلاثين ألف مدرس أمام أبوب الوزارة طالبوا فيه برحيل الوزير حسموا في أمر وزير أدخل كثيرا من الاضطراب على المؤسسات التربوية وعلى مدارسنا بقرارات يعتبرونها متسرعة وعشوائية ولا صلة لها بالإصلاح الحقيقي. لن نتوقف كثيرا عند تفاصيل الخلافات بين المدرسين ووزارة الإشراف. فليس ذلك ما يهمنا هنا. ما يهمنا هنا هو الجو المشحون الذي تعيشها مؤسساتنا التربوية والذي زاده استفحالا تعطّل الدروس في المدة الأخيرة لأكثر من أسبوعين احتجاجا على قرارات الوزارة المتعلقة برزنامة الامتحانات التي وصلت متأخرة.

 

ضرورة المصارحة

فلنصارح بعضنا البعض للحظة واحدة  ونقول إن الامتحانات والتقييم لدينا صارت أشبه بأكذوبة كبرى لا يعلمها غير من يعرفون الحال الذي وصل إليه نظامنا التعليمي. فعن أي تقييم يتحدث البعض؟ تلاميذنا (إلا أولئك التلاميذ الذين يدفع أولياؤهم من جيوبهم لتعليمهم خارج مقاعد الدراسة بواسطة الدروس الخصوصية التي يسبها الجميع ويتكالب عليها الجميع) في أكثر الأحيان لا يأخذون ولا يعطون،  يسمعون ولا يتكلمون، نحشو رؤوسهم بالمعلومات دون أن يعالجوها بفكرهم أو يمارسوا الحديث عنها أو يعبروا عن آرائهم فيها ومواقفهم منها ويسعون لتطبيقها خارج جدران الدراسة. مدارسنا لا تطور عقول الناشئة ولا تحسّن لغتهم بل  يكاد المرء يعتقد أنها في أكثر الأحيان تبلد أذهانهم. نعرف ذلك بالتجربة من خلال المستوى اللغوي الذي نعاينه من الابتدائي إلى الجامعة . نشعر سنة بعد أخرى بقصور لغة متعلمينا في جميع المستويات قصورا مثيرا للحيرة حقا. فاللغة التي يدرسونها لا أثر لها في حياتهم، لا اللغة العربية ولا الأجنبية حتى يعترينا الشك حقا في جدوى تدريس اللغات الأجنبية  في الأقسام الأولى للابتدائي. لقد ذهب التقييم أدراج الرياح منذ سنوات وخاصة في الإبتدائي بدعوى إجبارية التعليم إلى سن الخامسة عشرة. لقد أصبح الإرتقاء قاعدة نظامنا التعليمي وهو لا يقوم في كثير من الأحيان لا على التعليم ولا على التكوين ولا على التقييم بل على إستبقاء التلاميذ  في المدارس إنفاذا لمبدأ عظيم أفسدنا كل مضامينه وهو إلزامية المدرسة إلى حد بلوغ سن المراهقة. لم يعد للتقييم  ولا للامتحانات من قيمة تذكر إلا في بعض المحطات الحقيقة التي ينتقى فيها المتفوقون الذين يمثلون بعد ذلك النخبة التي تحوز أفضل الأماكن في الجامعة مثل مناظرة "السيزيام" غير الإجبارية والتي تقود نسبة ضئيلة جدا من التلاميذ إلى المدارس النمودجية والتي يذكرني النجاح فيها بالنجاح في ما كان يسمى "الشهادة " في أول سنوات الاستقلال والى حدود  الستينات. الكثير من التونسيين لا يعلمون أننا أصبحنا في تونس نملك تعليما بسرعتين واحدة تمثلها المدارس النموذجية وفيها يكون التقييم حقيقيا وصارما ويطلب 12 من عشرين كمعدل للنجاح. والأخرى، التلاميذ متروكون فيها للفوضى والرداءة  يتلقون فيها تعليما بائسا ويمرون من درجة إلى أخرى دون استحقاق وبواسطة الإسعاف الذي تحول إلى الشكل السائد في إسناد النجاح. ينجح تلاميذنا دون تقييم حقيقي ويدخلون إلى الجامعة بمستوى هزيل جدا ويتخرجون منها بمستوى لا يقل هزالا لتستقبلهم البطالة واليأس بعد ذلك. ما أثارني في هذه الأزمة بعيدا عن سذاجة العواطف وروح الحسرة  الجياشة  على ضياع الامتحانات هذه السنة والملبتسة في كثير من الأحيان بمواقف سياسية ووجهة نظر متحيزة ضد العمل النقابي والاتحاد العام التونسي للشغل  ليس خراب الامتحان بل خراب المدرسة ذاتها. الأزمة الحقيقية التي نعيشها حقا ليست اضطراب رزنامة الامتحانات: فلم أؤمن يوما بجدواها على الطريقة التي نمارسها بها في مدارسنا بل ما أثارني هو هذه اللغة الحربية العدائية التي أشرت إليها والتي يشترك الجميع فيها.

 

المدرسة التونسية أسيرة انقطاع الحوار والعنف المعنوي المتبادل

فهذا وزير التربية يعتبر في تصريح صحفي أن السياسة  هي عبارة عن مقابلة ملاكمة ويتحدى المربين في كثير من الأحيان بلغة حادة. وهؤلاء هم المعلمون يجتمعون في حشد قل نظيرة في تاريخ الإحتجاجات النقابية  ويرفعون أمام الوزارة من الشعارات ما لا يليق بالعمل النقابي مما يشير بلا شك إلى نقص فادح في التكوين. النقابات تؤطر احتجاجات منظوريها وتختار شعاراتهم بدقة. فالشعار اختزال للمطلب وتعبير عن درجة الوعي. ولا أريد هنا  أن أنشر بعض هذه الشعارات التي رفعها المعلمون فهي مؤسفة ومحيرة وركيكة وذات شحنة تصل إلى درجة اللا أخلاقية. لا شك أن هذا الجو من العدائية من كل الأطراف تقريبا مرتبط بشكل مباشر وفوري بالظروف التي نعيشها ولكنه  يتجاوز الظرف الحالي بشكل من الأشكال لأنه يشير إلى خراب كثير من القيم التي عشنا عليها ومنها حبنا للمعلم إلى درجة التقديس بلا أية مبالغة أو تضخيم أو لغة خشبية. كان الواحد منا أذا رأى معلمه في الشارع يختفي من أمامه رهبة وإجلالا. ولكن بمحبة لا حدود لها. فمعلمونا  وضعوا في قلوبنا الرهبة منهم  لصرامتهم في دفعنا إلى المثابرة والاجتهاد وعدم التسامح مع المتقاعسين منا ولكن  وضعوا أيضا حبا صادقا تضطرب به جوانحنا إلى اليوم وعلى الدوام حتى بعدما صرنا نحن أيضا معلمين. ما نخشاه حقا هو أن يؤثر ذلك على أذهان الناس وعقولهم بالطريقة ذاتها وبالشدة ذاتها في مستقبل الأيام. فعملية التعبئة والتجييش التي تمارس على المعلم الذي هو بلا شك طرف فيها سيكون لها أسوأ النتائج على المناخ العام في مدارسنا. وهذا ما يجعلنا نرى أن هذه اللغة العنيفة السائدة اليوم والتي أشرنا إليها من كل الأطراف أولياء ومعلمين ووزارة هي بلا شك أخطر بكثير من إمتحان لم يقع في وقته. إن ارتباط مستقبل المدرسة  بصورة المعلم هو ارتباط يتجاوز بكثير رزنامة امتحان وصلت متأخرة أو منح  لم تفِ بها الوزارة في نطاق اتفاقيات قديمة كمحنة العودة المدرسية وغيرها من الاستحقاقات المادية. إنه ارتباط كثيرا ما لا نراه لأنه ارتباط من الدرجة الثانية. إنه ارتباط رمزي. نحن الآن بصدد تخريب الرأسمال المعنوي الحقيقي الذي صنعته تونس والتي كانت تجعل من المعلم عنوان الحلم الجماعي  ومدخلنا إلى المستقبل. لقد شكلت صورة المربي طوال عقود مخيال التونسسين خاصة من كانوا في عمري من جيل الستينات وتحكمت بتصوراتهم حول التعليم والمدرسة. لا أعتقد أن التفاصيل التقنية  التي أثارت الأزمة تمثل مشكلة حقيقة: المشكلة هو أن ينزل المعلم في علاقته بالوزارة إلى مستوى متدنّ ويخرب معاني المربي فيه، وأن يتحول الأولياء إلى أعداء للمعملين وأن تضحي الوزارة بصورة المعلمين. لم يعد هناك لدى الوزارة غير لغة الوعيد التي ربما ستخرج علينا بها قريبا بشكل أكثر فداحة إذا لم يتوفق الفرقاء في إيجاد حل للأزمة والتي قد تقود إلى انقطاع الصلة تماما بين النقابات والوزارة. فهذه النقابات تهدد بعدم الاعتراف في المستقبل بالوزير الحالي مطالبة برحيله ورفض كل ما يصدر عنه من قرارات وهو مطلب ترفضه الحكومة وتعتبره مطلبا مسيسا ولا صله له بالعمل النقابي. المدرسة في تونس كانت الى وقت قريب تمثل فخر المجمتع  التونسي فهي صانعة نخبه ومسؤوليه   وخبراته العالية، فكيف تصبح مدرستنا ذاتها عنوان بؤس. هل صارت لا رجاء منها ولا أمل؟

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، الحق في الصحة والتعليم ، حقوق العمال والنقابات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني