ظاهرة الفساد الإداري في ثقافة المجتمع الليبي


2016-11-28    |   

ظاهرة الفساد الإداري في ثقافة المجتمع الليبي

الغالبية الساحقة من الشعب الليبي تحمل تلك الصفة القانونية “الموظف العام”. بل أنهم يعتبرونها حقاً للمواطنين دون الأجانب، وللذكور بالأفضلية على الإناث. يحملها المواطن بغض النظر عن شروط الكفاءة أو الجدارة وبدون مراعاة لمعايير التخصص. فعلى سبيل المثال، وقع استغلال للسلطة من قبل مسؤولي التعليم في بعض المناطق الليبية عقب أحداث 2011، حيث قاموا “بتعيين حوالي 50,000 من جيولوجيين وقانونين وإداريين وغيرهم من التخصصات غير التربوية كمعلمين، وصرفت الوزارة 400 مليون دينار كمرتبات لهؤلاء (حوالي 315 مليون دولار أمريكي). وبعد التحقيق، تم اكتشاف فساد بعض تلك العقود لعدم وجود منظومة إلكترونية في ذلك الوقت”.

وقد يصبح المواطن الليبي موظفاً وإن كان لا يزال على مقاعد الدراسة. فلا بأس من أن يعين في الدولة أو يتعاقد معها بشهادته المتوسطة إلى حين إتمام تعليمه العالي. فعلى سبيل المثال، مستشار وزارة الشباب والرياضة يحمل مؤهل شهادة ثانوية. كما أن أغلب الموفدين للدراسة بالخارج “ماجستير أو دكتوراه” موظفو دولة. وهذا ما كشفته مقارنة الأرقام الوطنية للموفدين للدراسة بالخارج بمنظومة مركز معلومات وزارة المالية. وبفعل حالات الازدواج الوظيفي هذه، تراهم يتقاضون كامل المرتب بالداخل مع المنحة الدراسية بالخارج.

كما يتمتع بهذه الصفة الاعتبارية “موظّف عام” أغلب من يعملون في القطاع الخاص بمختلف صوره. فقد رأى كثير من موظفي الدولة الليبية أنّ ما يتقاضونه من رواتب لا يفي باحتياجاتهم المادية ولم يجدوا أي غضاضة في أن يكون لهم باب رزق جديد، ولا سيّما أن عملهم الإداري قد لا يتطلب منهم سوى القدر اليسير من الجهد والوقت. فهو إما مدرّس في التعليم الأساسي لا يتطلب منه العمل الوظيفي سوى إعطاء حصة دراسيّة لا يتجاوز زمنها الساعة الواحدة  في اليوم في المواد الأساسية كاللغة العربية أو حتى ساعة في الاسبوع في المواد الاخرى كالتاريخ مثلا أو موظف في مؤسسة إدارية لا تتطلب منه سوى التوقيع عند بداية الدوام وعند انتهائه. ومن الغرائب الإدارية في الدولة الليبية أن المواطن قد يحمل صفة الموظف العام مضاعفة، كأن يكون موظفاً في أكثر من جهة إدارية في الوقت ذاته. فمن خلال المتابعة لمنظومة المرتبات وما يقوم به مركز التوثيق والمعلومات في وزارة المالية من إجراءات مطابقة لمرتبات العاملين بالجهاز الإداري بالرقم الوطني، تبيّن وجود أكثر من 125 ألف حالة ازدواج وظيفي فعلي.

ونستشعر الخطر الداهم حين يطالعنا تصريح وزاري مفاده أن “عدد موظفي وزارة التربية والتعليم يقترب من 600 ألف موظف، وعدد المعلمين والمعلمات يقترب من 400 ألف، بينما وفقاً للمقاييس العلمية العالمية، ليبيا لا تحتاج إلى أكثر من 85 ألف إلى 100 ألف معلم ومعلمة”. أي أن لدى ليبيا فائض من المدرسين يتجاوز 300 ألف مدرس، وقلة قليلة ممن يتقاضون مرتبات من الوزارة يقومون فعلاً بالتدريس، والباقي لا يقوم بأي عمل. وتبيّن إحصائيات أكثر حداثة لديوان المحاسبة في ليبيا أن القوى العمومية بديوان وزارة التعليم خلال عام 2014 قد بلغت 29,208 موظف بزيادة تقدر ب243 موظف عن سنة 2013. كما أن عدد الموظفين التابعين لشؤون التربية والتعليم بلغ وفق كشف الميزانية 570950 موظف.

“كما أن الوزارة تعاني من عدم الفرز، أي عدم إمكانية تصنيف المعلمين إلى معلم درجة أولى مكافأته واجبة، ومعلم درجته متدنية لا بد من تدريبه لرفع مستواه. كما لا يوجد في النظام التعليمي الليبي حافز كاف لتحسين مهارات المعلمين ومؤهلاتهم بشكل مستمر، ولا يوجد نظام ترقية على أساس الأداء أو غيره من الحوافز، ولا نظام تفتيش قوي وفعال قادر على تقييم أداء المعلمين، ولا يمكن فصل أي معلم أو معلمة حتى وإن كان أداؤه سيئاً ولا ينتج شيئاً”.

الوضع مماثل في قطاع آخر لا يقل أهمية، وهو الضمان الاجتماعي. فعلى سبيل المثال لا الحصر، الهيكل التنظيمي لصندوق الضمان الاجتماعي له ملاك تنظيمي معين. فمن يصل إلى الدرجة الحادية عشرة من الموظفين الإداريين يفترض أن تتم ترقيته وتعيينه خبيراً إدارياً. فإذا وجد أنها خانة مليئة بما فيها من الموظفين، يوضع في خانة أخرى كأن يعين “خبيراً مالياً مثلا. وهنا تضيع الخبرة على الموظف وعلى الادارة. من جهة أخرى، غزت البطالة المقنعة الصندوق مؤخراً لأسباب عدة : “الانتماء الجهوي أو القبلي. فالقسم الذي لا يستوعب سوى ثلاثة موظفين مكدس بستة منهم. وهذا يؤدي إلى إحباط الموظف الجدي. يبقى القول أنه بوجود جزاءات رادعة كالفصل او إنهاء العقود يمكن أن يتم تصفية الموظفين الستة ليعود العدد إلى ثلاثة فقط بعد اختيار الأفضل منهم كفاءة وفاعلية. ولكن في ظل غياب ذلك يبقى ذلك مطلبا صعب المنال. ولعل من أسباب الفساد الإداري في الصندوق قصور وزارة الشؤون الاجتماعية عن القيام بدورها الإشرافي على أعمال الهيئة العامة لصندوق التضامن الاجتماعي.

والملاحظ أن ظاهرة البطالة المقنعة ليست مقصورة على هذين القطاعين دون غيرهما. فبسبب التسيّب الإداري وضعف الرقابة الإدارية في ليبيا منذ 2011، نلحظ أن الأمر أضحى ظاهرة في أغلب المؤسسات الليبية. ويساعد في ذلك عديد العوامل منها: غياب الهيكل التنظيمي أو الملاك الوظيفي المعتمد لإدارة الجهاز أو المؤسسة كما في جهاز الإمداد الطبي طرابلس وعدم الإستقرار الإداري بالمؤسسة وغياب بعض المسؤولين عن العمل، مما أدّى إلى تدنّي مستوى الأداء المالي ومستوى الأكاديمية الليبية على حد سواء.

وما يزيد من خطورة الوضع هو ما يحيط هذا الواقع الليبي للإدارة من ظواهر تصل في معظمها لدرجة الجريمة المعاقب عليها قانوناً. فالرشوة على سبيل المثال صارت ظاهرة منوعة الأشكال. ولعلّ أكثرها خطورةً ما يسمى بالرشوة الإدارية السياسيّة: فهي إداريّة من حيث المحلّ. فالرشوة تتمثل في تلك الوظيفة التي يعين فيها المواطن غير الكفء أو غير الجدير بها أو على أقل تقدير غير المفيد فيها. وهي سياسية لأنها تمنح من أجل حصول المانح على ميزة أو عطية سياسية تتمثل في تحشيد الأصوات الداعمة لموقفه السياسي، سواء كانت هذه الاصوات عائدة لأبناء عائلة المستفيد منها وقبيلته أو عائدة لأبناء منطقته ومدينته.

ونتيقن أنّ الأمر تعدّى مجرّد الحالة الفردية إلى حدود الظاهرة. ويؤشّر إلى ذلك إصدار فتوى دينيّة من دار الإفتاء الليبية بإجازة الرشوة المالية في حالة الضرورة. “ولكن إذا حيل بين الإنسان وحقه حتى وصل به إلى حدّ الضرورة، كالمسكن والكساء والقوت والسفر، فيجوز له حينئذ أن يصنع بماله ما يدفع الضرر عنه، والإثم على الآخذ. كما يجوز له دفع رشوة للحصول على جواز سفر لقضاء شؤونه الملحة والعاجلة”. والغريب أن تكون هذه الظاهرة سائدة فيما يعلن غالبية الليبيين عند استطلاع آرائهم التزامهم بالمثالية القيمية ورفضهم المطلق لقبول الرشوة مقابل أداء واجباتهم.

وعود على بدء نؤكد أن موضوع التوظيف وصرف المرتبات والمنح والمزايا للموظفين بالجهاز الإداري في الدولة الليبيّة يُعدّ من أكبر التحديات التي تواجهها الدولة الليبية، كونه مرتبطاً بأكثر من نصف ميزانية الدولة. فعلى سبيل المثال، نجد أن المؤسسة الليبية للنفط تتكبد خسارة تقدر بمليون دينار ليبي يومياً بسبب أبشع أنواع الفساد الإداري وهو النوع المستند إلى قوة السلاح والإكراه المادي الذي تمارسه مليشيات مسلحة على جهة الإدارة. فقد أفاد رئيس المؤسسة الوطنية الليبية للنفط بأنه يسدد مليون دينار ليبي يومياً قيمة وجبات ساخنة وجافة ل 22 ألف من حرس المنشآت، فيما أن عددهم الفعلي لا يتجاوز الألف . وختاما فالحكومة المركزية القادمة التي سيتم التوافق عليها ستجد أمامها عدة ملفات ساخنة أبرزها هذا الملف الكبير الذي يثقل كاهل الميزانية ويحتاج لمعالجة سريعة لكنها دقيقة في ذات الوقت ومبنية على دراسات علمية معتمدة تفتح مجالات عمل أخرى بعيدا عن كاهل الدولة وتسهل اجراءات قروض المشاريع الصغرى والمتوسطة للشباب.

نشر هذا المقال في العدد 6 من مجلة المفكرة القانونية في تونس

يعرف قانون العقوبات الليبي الصادر في 1954م والنافذ إلى الوقت الحالي في الفقرة الرابعة من المادة السادسة عشر بانه “كل من انيطت به مهمة عامة في خدمة الحكومة او الولايات او الهيات العامة الاخرى سواء كان موظفا او مستخدما دائماً أو مؤقتاً براتب أو بدونه …..” كما انه يضيف في المادة 229 مكرر ج “رؤساء وأعضاء الهيئات النيابية أو المحلية سواء كانوا منتخبين أو مختارين ورؤساء واعضاء مجالس إدارة وموظفو الشركات وما في حكمها إذا كانت الدولة تساهم في رأس مالها “.

ترى أغلبية ساحقة من الليبيين أنه في حالة ندرة الوظائف يجب أن تعطى الأولوية للمواطنين على حساب الاجانب وترى أغلبية عالية منهم إعطاء هذه الأولوية للذكور على حساب الإناث. المسح الشامل لآراء الليبيين في القيم , منشورات مركز البحوث والاستشارات .جامعة بنغازي , ديسمبر 2015م .ص: 160.

مقالة هامة بعنوان ” عدد الطلبة في ليبيا يساوي عدد المعلمين” بقلم الأستاذ: رضا فحيل, بتاريخ : 7/10/2013 . http://www.correspondents.org

التقرير الاخير لديوان المحاسبة 2015م الصادر في 20 ابريل 2016 http://lfb.ly/CMS_Files/Publications  ص:62

التقرير الاخير لديوان المحاسبة 2015م سابق الإشارة إليه ,ص : 468

يؤكد التقرير السابق الإشارة إلية أنه من الملاحظات العامة على أغلب الجهات العامة في الدولة الليبية عدم تقييد العاملين بمواعيد العمل الرسمي وإثبات حضورهم بالكشوفات المعدة لذلك .ص: 64

 ورد ذلك في أخر تحديث (مارس 2016م ) ص :71 من التقرير الأخير لديوان المحاسبة

د. علي عبيد وزير التربية والتعليم السابق في فترة 2013/2014م ,في حديثه لـ “مراسلون”

مقالة ” عدد الطلبة في ليبيا يساوي عدد المعلمين” بقلم الأستاذ: رضا فحيل, سابق الإشارة إليها

التقرير الأخير لديوان المحاسبة , سبق الإشارة إلية ص: 455 منه

د. على عبيد وزير التربية والتعليم في حديثه سابق الإشارة إليه .

مقابلة بتاريخ : 1 سبتمبر 2016م , أًجريت مع السيدة حنان الفخاخري وهي رئيس وحدة الدراسات والتخطيط في صندوق الضمان الاجتماعي فرع درنة , ولها خبرة إدارية تزيد عن سبعة عشر سنة .

السيدة حنان الفخاخري ,المقابلة السابق الإشارة إليها .

تقرير ديوان المحاسبة الاخير , سبق الإشارة إليه ,ص :527 منه .

تقرير ديوان المحاسبة الأخير، سبقت الإشارة إليه ,ص: 484 منه .

تقرير ديوان المحاسبة الأخير، سبقت الإشارة إليه ,ص: 470 منه

فتوى رقم 2376 نشرت على الصفحة الرسمية لدار الإفتاء الليبية على موقع التواصل الاجتماعي بتاريخ : 14/5/2015م ,

وصدرت الفتوى وهي تحمل اسماً المفتيين، أحمد ميلاد قدور، ومحمد الهادي كريدان، وباعتماد الصادق الغرياني باعتباره مفتي عام ليبيا. وذلك رداً على سؤال تلقته دار الإفتاء، يتساءل صاحبه عن حكم دفع للرشوة لأجل الضرورة”، موضحاً أن “ابنته المريضة مرتبطة بموعد للعلاج في تونس، لكن طلب منه دفع مبلغ مالي مقابل تجديد جواز سفرها”.

المسح الشامل لآراء الليبيين في القيم , منشورات مركز البحوث والاستشارات .جامعة بنغازي , ديسمبر 2015م .المرجع السابق , ص: 07

تصريح للسيد مصطفى صنع الله رئيس المؤسسة الوطنية الليبية للنفط ,على قناة ليبيا روح الوطن بتاريخ :15/9/2016م.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، ليبيا ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني