المبادئ القضائية الجديدة في دعوى تيران وصنافير (1): تطور نظرية أعمال السيادة


2016-10-27    |   

المبادئ القضائية الجديدة في دعوى تيران وصنافير (1): تطور نظرية أعمال السيادة

لم تتوقف دعوى بطلان تنازل الحكومة المصرية عن جزيرتي تيران وصنافير والتي تم إيداع أوراقها أمام القضاء الإداري في شهر مايو الماضي عن تفجير المفاجئات. فمنذ تحريكها، لاقت هذه الدعوى روجا كبيرا بين المهتمين بالشأن العام المصري، وترتب عليها عودة الحياة للشارع مرة أخرى، فاشتعلت المظاهرات في كافة محافظات الجمهورية. ويرجع ذلك للطبيعة الخاصة التي تحيط بهذه الدعوى، فهي دعوى تجاوزت نطاق الخصومة القضائية البسيطة التي تتعلق بقرارات تصدرها الإدارة في مواجهة أحد المواطنين أو فئة محددة منهم، فتعلقت بقضية وطنية وما يترتب عليها من إعادة تشكيل المنطقة العربية لاسيما وجود دولة الكيان الصهيوني على الخريطة الملاحية. فالتنازل عن الجزيرتين يسمح بإيجاد وضع ملاحي مختلف لدولة الاحتلال يسمح بمرور سفنها عبر خليج العقبة، دون إلتزامها بقواعد المرور البريء المنصوص عليها في الاتفاقيات الدولية. فرغما عن أن تنازل الحكومة المصرية عن الجزر جرى لصالح الملكة العربية السعودية، إلا أن هذا التنازل يترتب عليه اعتبار مضيق تيران -المنفذ الوحيد لخليج العقبة- مياه دولية بعدما كانت مياه داخلية مصرية لا يسمح فيها إلا بحق المرور البريء لكافة الدول المطلة على الخليج، ومنها بالطبع دولة الاحتلال. ويترتب على تنازل مصر عن الجزيرتين للملكة اعتبار مضيق العقبة مضيقا دولياً بحيث تفقد مصر نفوذها عليه وسيطرتها التي كانت تعطيها الحق في تفتيش السفن العابرة فيه ومنع مرور السفن الحربية. وهي السيطرة التي خاضت مصر بسببها أربع حروب. كما أن اعتبار الخليج مياه دولية يمكن دولة الاحتلال من تنفيذ مشروعها –الحلم- بتدشين قناة أشدود لربط البحر الأحمر بالمتوسط وخلق خط ملاحي منافس لقناة السويس، وهو ما يترتب عليه المساس بالقيمة الاستراتيجية ليس لمصر فقط ولكن للمنطقة العربية بأسرها.

ومن الناحية القانونية والقضائية، تعود أهمية الدعوى إلى أنها على تماس مع نقاط بالغة الدقة في الدستور المصري الجديد والمعدل في 2014 حيث تتقاطع مع المادتين 1 و151 اللتين نصتا على عدم جواز التنازل عن أي أراضٍ في الإقليم المصري بأي طريقة كانت. ورغما عن كون الدعوى لا زالت متداولة أمام القضاء، ولم يصدر فيها حكم نهائي حيث تنظر جلساتها الآن أمام المحكمة الإدارية العليا، إلا أنه صدر بشأنها حكمان شكلا علامة فارقة في المبادئ القضائية لمجلس الدولة المصري، الأول هو  حكم محكمة القضاء الإداري ببطلان التنازل عن الجزيرتين، والذي أعاد تشكيل نظرية أعمال السيادة، والثاني، حكم الدائرة السابعة بالمحكم الإدارية العليا والذي قضى برد أعضاء الدائرة الأولى عن نظر طعن الحكومة على الحكم السابق. ويعد الحكم بقبول دعوى لرد القضاة الإداريين هو الحكم الأول في تاريخ مجلس الدولة. وسنفرد لكلا من الحكمين مقالا مستقلا لنوضح أثره على المبادئ القضائية المستقرة.

حكم القضاء الإداري ببطلان التنازل عن جزيتي تيران وصنافير ونظرية أعمال السيادة
عند نظر الطعن على قرار التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير أمام القضاء الإداري، دفعت هيئة قضايا الدولة – وهي الجهة المخولة بتمثيل الدولة قانونيا والدفاع عنها- بعدم اختصاص المحكمة، والقضاء عموماً، ولائياً بنظر الدعوى استناداً إلى أن إبرام الاتفاقية الدولية تعد عملا من أعمال السيادة، وأن الطلبات الواردة بهذه الدعوى تتعلق بأعمال برلمانية لأن مجلس النواب هو الجهة المختصة بالموافقة على المعاهدات. وهو الدقع الذي اعتادت أن تستند عليه هيئة قضايا الدولة في معظم الدعاوى التي تقام طعنا على الاتفاقيات الدولية. ورغما عن ذلك، فإن القضاء الإداري قد تصدى للدعوى ولم يعتبر هذا العمل من أعمال السيادة. ولفهم ما قامت به محكمة القضاء الإداري في دعوى تيران وصنافير، يجب عرض التطور الحاصل في مرحلتين سابقتين على هذه الدعوى بشأن نظرية أعمال السيادة، قبل النظر في مقتضيات الدستور الجديد.

اولاً: الموقف مجلس الدولة المصري من نظرية أعمال السيادة في ظل دستور 1971
– الطعن على اتفاق تحديد المنطقة الاقتصادية بين مصر وقبرص:

في 13/10/2012، تمّ الطعن على اتفاق تحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة المبرم بين حكومتي جمهورية مصر العربية والجمهورية القبرصية، والموقع في ظل العمل بدستور 1971 حيث تم توقيعه بتاريخ 17/2/2003، ووافق عليه رئيس الجمهورية بالقرار رقم 115 لسنة 2003 والمصدق عليه من مجلس الشعب بتاريخ 31/5/2003. وهو الطعن الذي أصدرت فيه المحكمة حكما بعدم الاختصاص الولائي معتبرة هذا العمل من أعمال السيادة وذهبت في ذلك إلى أن المشرع ولاعتبارات قدرها أخرج من ولاية القضاء سواء العادي أم الإداري النظر في الطلبات المتعلقة بأعمال السيادة، سواء بطريق مباشر أو غير مباشر.

وقد استقرت أحكام القضاء الإداري على أن أعمال السيادة هي تلك الأعمال التي تباشرها الحكومة باعتبارها سلطة حكم في نطاق وظيفتها السياسية. وهذه الأعمال لا تمتد إليها الرقابة القضائية لا لأن هذه الأعمال فوق الدستور أو القانون، ولكن لأن ضوابط ومعايير الفصل في مشروعيتها لا تتهيأ للسلطة القضائية، هذا بالإضافة إلى عدم ملاءمة طرح هذه المسائل علناً في ساحات القضاء. ومن هذه المسائل علاقات الدولة الخارجية بالدول الأخرى والتي تشمل العلاقات الدبلوماسية والقنصلية وإبرام المعاهدات الدولية معها وتعديلها وإلغائها"[1]

موقف مجلس الدولة من نظرية أعمال السيادة في ضوء دستور 2012
– الطعن على قرار رئيس الجمهورية بالدعوة للانتخابات:

في 23/2/2013، تم الطعن أمام محكمة القضاء الإداري على قرار رئيس الجمهورية آنذاك بالدعوة الى الانتخابات البرلمانية. والجدير بالذكر أن احكام مجلس الدولة كانت قد استقرت على اعتبار هذه القرارات عملا من أعمال السيادة طوال فترة العمل بدستور 1971. إلا أن المحكمة قدمت قراءة لنصوص الدستور الجديد مستندة في ذلك إلى أن المشرع لم يصنع تعريفا محددا لأعمال السيادة، وإنما ترك القضاء مستقلا بتحديد ما يندرج ضمن هذه الأعمال، وذهبت إلى أن دستور (2012) استحدث أحكاما تختلف عن تلك التي تضمنها دستور 1971 وأصبحت القرارات ذات الصلة بالعملية الانتخابية خاضعة لمرجعية دستورية جديدة. فنصت المادة 141 منه أن يتولى الرئيس كل سلطاته بواسطة رئيس الوزراء ونوابه والوزراء عدا اختصاصات معينة تتصل بالدفاع والأمن القومي والسياسة الخارجية. وبالتالي فقد انحسرت أعمال السيادة عن قرار دعوة الناخبين للاقتراع، بأمر الدستور والقضاء، وأصبحت من اختصاصات رئيس مجلس الوزراء. وكان لهذا الحكم أهمية كبيرة في انحسار نظرية أعمال السيادة ومواكبة محكمة القضاء الإداري للتطور الدستوري الذي شهدته البلاد بعد ثورة يناير.[2]

– الطعن على مدّ حالة الطوارئ:

في 17/9/2013 وفي ظل العمل بالإعلان الدستوري الصادر في 30 يونية، تم الطعن على قرار مد العمل بقانون الطوارئ، وصدر الحكم في 12/11/2013 بإخضاع إعلان ومد حالة الطوارئ لرقابة القضاءالإداري، واستندت المحكمة إلى أن التطورات الدستورية التي شهدتها الوثائق الدستورية المتعاقبة منذ إعلان 30 مارس مرورا بدستور 2012 وانتهاء بإعلان 8 يوليو تكشف عن توجه المشرع الدستوري إلى تقييد سلطة رئيس الجمهورية في إعلان ومد حالة الطوارئ بوضع مزيد من الشروط والضوابط والقيود الخاصة بالمدة والأسباب.

وردا على دفع هيئة قضايا الدولة، قالت المحكمة: «لم تعد سلطة (رئيس الجمهورية بشأن إعلان الطوارئ) مطلقة وإنما هي سلطة مقيدة، حدد المشرع الدستوري والقانون تخومها وضبط حدودها ومداها وحدّ من غلوائها" بل إن القرار "إداري ولا يعد من أعمال السيادة، والمحكمة في هذا تتبع الحق وفقا لما اطمأن إليه ضميرها، وإن خالفت ما سبق من أحكام"[3].

ثالثاً: موقف مجلس الدولة من نظرية أعمال السيادة في ظل دستور 2014
– الطعن على قرار التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير:

اتباعا لما درجت عليه محكمة القضاء الإداري، عقب تعطيل العمل بدستور 1971 من عدم التقييد بأحكامها السابقة والنظر إلى أحكام الدستور التي يتم استحداثها، قامت بالرد علي هيئة قضايا الدولة في دفعها بعدم الاختصاص الولائي بنظر دعوى تيران وصنافير لاعتبارها من الأعمال السيادية، أنه لا محل لاستناد جهة الإدارة إلى سابقة قضاء هذه المحكمة بعدم اختصاصها ولائيا بنظر الدعوى في شأن اتفاقية السلام مع إسرائيل أو في شأن اتفاقية تحديد المنطقة الإقتصادية الخالصة مع قبرص، لأن أحكام القضاء ليست جامدة وتتغير بتغير الموضوع والزمان والقانون الحاكم للنزاع. والاتفاقية محلّ هذه الدعوى تغاير في موضوعها الاتفاقيتين المشار إليهما، واللذين لم يثبت انطواؤهما على أي جزء من أراضي الدولة، هذا فضلاً عن اختلاف النظام القانوني الذى تخضع له لأن الدستور الحالي استحدث حكماً جديداً حظر بموجبه حظراً مطلقاً التنازل عن أي جزء من إقليم الدولة بحكم خاص.

وأشار الحكم في حيثياته إلى إنه في ظل العمل بالدستور المصري الصادر عام 1971، جرى قضاء محكمة القضاء الإداري على الحكم بعدم الاختصاص بنظر معظم الدعاوى المقامة طعناً على المعاهدات الدولية، إلا أن الواقع الدستوري في مصر قد تغير.  فقد تضمن الدستور الحالي النص في الفقرة الأخيرة من المادة (151) على أنه: (وفى جميع الأحوال لا يجوز إبرام أية معاهدات تخالف أحكام الدستور أو يترتب عليها التنازل عن أي جزء من إقليم الدولة). ويلحظ أن هذه المادة استبدال حظر "إقرار المعاهدات" الوارد في المادة (145) من دستور 2012 بحظر "إبرام المعاهدات". ومصطلح إبرام المعاهدات أعم وأشمل من مصطلح إقرار المعاهدات بحيث يمتد الحظر الوارد في المادة (151) من الدستور إلى السلطة التنفيذية فيحظر عليها أي عمل من أعمال إبرام المعاهدات الدولية بما فيها التوقيع عليها إذا كانت المعاهدة تخالف الدستور أو يترتب عليها التنازل عن أي جزء من إقليم الدولة وذلك حتى لا ترتبط الدولة باتفاقيات من هذا النوع وهو حظر وقائي ومقصود يجنّب الدولة والمواطنين مخاطر إبرام اتفاقيات تخالف الدستور أو تؤدي إلى التنازل عن أي جزء من إقليم الدولة. كما أنه حظر مطلق ولا استثناء فيه ولا مجال للتحلل منه تحت أي ظروف أو مبررات وهو ما يوجب على السلطة التنفيذية قبل التوقيع على أي اتفاقية أن تدرسها دراسة دقيقة وافية للتأكد من خلوها من القيدين المشار إليهما. وأرسى الدستور بذلك فكرة الاختصاص الممنوع أو المحظور على السلطة التنفيذية في مجال إبرام المعاهدات الدولية.[4]

 


[1]  القضاء الإداري – الحكم في الطعن رقم 2147 – لسنة 67 قضائية – بجلسة 17-2-2015

[2]  القضاء الإداري – الحكم في الطعن رقم 28560 – لسنة 67 قضائية – بجلسة 17-2-2015

[3]  القضاء الإداري – الحكم في الطعن 74029 لسنه 67 قضائيه بجلسة 12- 11- 2013

[4]  القضاء الإداري الحكم في الطعن رقم 43709 لسنة 70 ق الصادر بجلسة 21/6/2016

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، مصر ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني