الحراك الاجتماعي الحقوقي 2012: هكذا نخرج من العتمة والصمت


2013-02-04    |   

الحراك الاجتماعي الحقوقي 2012: هكذا نخرج من العتمة والصمت

تنشر المفكرة هنا مقتطفات من الورقة التي أعدتها الكاتبة بشأنالحراكات الاجتماعية ذات المنطلقات الحقوقية كجزء من تقييمها للحياة القانونية في 2012.   
تستعرض هذه الورقة أبرز الحراكات الاجتماعية ذات المنطلقات الحقوقية الحاصلة في 2012، في مسعى الى تحليلها على نحو يبرز طبيعة أهدافها ووسائلها ومدى تفاعلها مع الرأي العام أو نتائجها على صعيد المقررات العامة. واذا كان بعض هذه الحراكات بمثابة احياء لنضالات قديمة كالحراكات النقابية في القطاعين العام والخاص أو استمرارا لنضالات بعناوين وأساليب جديدة كالحراك النسوي، فإن بعضها الآخر عبر عن مطالب جديدة بقيت حتى 2012 بمثابة “تابوات”، أو أقله على هامش الخطاب العام. ومن أبرز هذه الحراكات الغاء فحوصات العار والغاء نظام الكفالة وحق المواطن بالمساحة العامة كـ”مشاع” و”هذا البحر لي” و”استرجاع البرلمان” الخ.
وبمعزل عن مدى حداثة هذه الحراكات، بإمكاننا القول إن حراكات 2012 تميزت في تحرر فئات عدة من القمع الذي كان يبقيها في العتمة والصمت لفرض مشهد جديد في المساحة العامة. وهذا القمع كان قد اتخذ أوجها عدة منها القمع القانوني (منع موظفي الدولة من التعبير أو الإضراب) أو القمع القيمي (فحوصات العار) أو القمع الواقعي (عمال نقابة سبينس وأيضا عاملات المنازل). وليس مستغرباً في هذا السياق أن يأخذ استرداد الأماكن والأملاك العامة، بل أيضا المؤسسات العامة، ما أخذه من حيز في هذه الحراكات.
هيئة التنسيق النقابية “تنتهك” المادة 15 من قانون الموظفين: الموظفون ليسوا أتباعا لزعماء الطوائف
لنبدأ بهيئة التنسيق النقابية، وهي “درة تاج” حراكات العام 2012، لأسباب عدة، وليس فقط لأن حراكها يعني مباشرة نحو 185 ألف موظف وأجير في القطاعين العام والخاص.
وقبل ابراز أهمية هذا الحراك، يجدر التذكير بأن نضال الهيئة ليس حديث العهد، فمطالب المعلمين والسعي الى تحصيل حقوقهم يعود إلى تسعينات القرن الماضي. وقد بدأ عملها كهيئة جامعة للعديد من الروابط الرسمية للمعلمين ونقابة المعلمين في المدارس الخاصة، فاحتضنت قضاياهم وكشفت على طول مسيرتها عن صلابة مواقفها في الدفاع عمن تمثلهم. وأخذ هذا الحراك بعدا جديدا بعد التشكيك بتمثيلية الاتحاد العمالي ورفض مظلته على خلفية موقفه الملتبس بشأن مطالب زيادة الأجور في نهاية 2011 – بداية 2012. منذ ذلك اليوم وعلى مدار العام الحالي، فرضت الهيئة معركة نارية لترسي نضالا وصمودا وفعالية افتقدتها الحركة النقابية التي كانت في سبعينات القرن الماضي، “واجهة السحارة” في الحراك اللبناني.
ووفق خطابها، لا تسعى هيئة التنسيق النقابية إلى تحقيق مطالب آلاف الموظفين والأجراء في القطاع العام وحسب، بل هي تتصدى للمحاولات التي باشرتها حكومات العقدين الأخيرين وبوجه خاص الحكومات الحريرية لضرب فلسفة ارساء دولة الرعاية الاجتماعية، لصالح أصحاب السلطة الفعليين من مصرفيّين واحتكاريّين ومضاربين وسماسرةومعتدين على الأملاك العامة والخاصة، ومعهم سياسة الاقتصاد الريعي والخدماتي.
وليس المسار الذي تأخذه معركة الهيئة اليوم، في وجه الحلول المقترحة لتأمين تمويل سلسلة الرتب والرواتب سوى دليل إضافي على أهمية المعركة التي يخوضها أركانها، والذين تسعى الدولة الى شرذمتهم على غرار ما فعلت مع الأجسام النقابية الأخرى. وما طرح فصل سلسلتي رواتب القطاعين الخاص والعام في القطاع التعليمي سوى محاولة أخرى نحو الهدف عينه.
وتعي هيئة التنسيق مصيرية المعركة التي تخوضها وفق قولها نيابة عن المواطنين كافة، متصدية لإمعان الدولة في استجابتها لمصالح ذوي النفوذ، والتي تجهد لاستبعاد أي اقتراح بزيادة الضرائب على تحسين العقارات والفوائد المصرفية وتتعامى عن الاعتداءات على الأملاك العامة المنهوبة، ولا تتورع بالمقابل عن قضم مداخيل المواطنين ذوي المداخيل المتدنية والمتوسطة من خلال زيادة الضرائب غير المباشرة. وهي حلول طرحتها “دراسة الآثار الاقتصادية لمشروع قانون سلسلة الرتب والرواتب”، التي وضعها الفريق الاقتصادي لرئاسة الحكومة، وتمت مناقشتها مؤخراً. كما اقترح الفريق العتيد خطوات إضافية أخرى قد يكون أقربها إلى عقل المتمسكين بالقرار تخفيض الزيادات لكل المعنيين بسلسلة الرتب والرواتب بقيمة ثلاثين في المئة، وفق ما تسرب عن اقتراحات الحلول.

وعبرسلسلة طويلة من الإضرابات والاعتصامات وشل القطاع العام، تمكنت الهيئة من فرض اتفاق مع الحكومة على تحقيق المطالب التالية: دفع زيادة غلاء معيشة وتطبيق سلسة الرتب والرواتب بمفعول رجعي وإقرار السلسلة وإقرار ست درجات للأستاذ الثانوي والاساسي وفرض شهادة الماجستير للأستاذ الثانوي كمؤهلات علمية وفصل التمويل عن السلسلة وإلحاقه بالموازنة العامة، مع وعد بتعديل قيمة الدرجة وإنصاف المتقاعدين والمتعاقدين. وقد أقر مجلس الوزراء السلسلة في 6-9-2012 ولكنه قسطها خلافا للاتفاق، مع فرض ضرائب لتأمين التمويل أي أنهم لم يفصلوا التمويل عن السلسلة، كما لم ينصفوا المتعاقدين والمتقاعدين ولم يعدلوا بقيمة الدرجة بما يعيد الستين في المئة للأساتذة، حتى غلاء المعيشة جاء على أساس سلفة ومن دون قانون.
وازاء ذلك، استأنفت هيئة التنسيق حربها النقابية على نحو لا يخفي “انتهاكا” صريحا وواضحا للمادة 15 من قانون الموظفين، وذلك من خلال اعتماد وسائل الاعتصام والاضراب واصدار البيانات وكلها أمور تتعارض مع هذه المادة. وقد ركزت في هذا المنحى على شلّ القطاع العام رافعة شعار “لا دولة من دون موظفيها”، لتعطي أمثولة في التضامن النقابي الذي لم ينحن أمام تدخلات السلطة. وبدا جسم هيئة التنسيق نحاسياً غير قابل للي ولا الكسر من دون أن يلغي خوض معارك داخلية أحياناً حرص المعنيين بالهيئة على عدم إخراجها إلى السطح منعاً لتوظيفها في شق ما تبقى من النقابات في البلاد. ولكن الحكومة اليوم، ووفقاً لتطور الأمور، لا تتنكر لاتفاقيتها مع الهيئة وحسب، بل تعيد الأمور إلى نقطة الصفر، مما دفع بالهيئة إلى الإعلان عن استعدادها لخوض المعركة الشاملة وعلى المحاور كافة، مهددة بعدم الخروج من الشارع والاستعداد للإضراب المفتوح.
ولكن ألا تخاف هيئة التنسيق النقابية ومعها نحو 185 الف موظف وأجير من لجوء الدولة إلى القانون لمحاكمتهم وفق المادة 15 من قانون موظفي القطاع العام الذي يمنع تشكيل النقابات واللجوء إلى الإضراب؟
يستند قادة هيئة التنسيق النقابية إلى ما يسمونه “عصب الإدارات”، إذ يقولون إن أي منحى تتخذه الدولة لمحاكمتهم (وهم يستذكرون ما حصل في فترة السبعينات أيام حكومة الرئيس صائب سلام)، سيحّول قضيتهم إلى قضية وطنية رابحة تلقائياً، لأنهم أصحاب حق. يومها ردت الحكومة برئاسة سلام على إضراب الأساتذة الموظفين بصرفهم لمخالفتهم القانون فتحولت المعركة من النضال لتحقيق المطالب إلى إعادة الموظفين إلى وظائفهم.
فضلا عن ذلك، أثبت أساتذة التعليم الثانوي وعيهم وحرصهم على عصبهم الإداري وبالتالي تكتلهم وراء قيادتهم ووفائهم لمعركتهم في وجه الدولة عبر التوصل إلى لائحة توافقية حافظت على القيادة الحالية لرابطة التعليم الثانوي في مواجهة رغبة وسعي قوى 8 و14 أذار على التخلص منها. وهو ما اعتبر تأكيدا على المنحى التصعيدي والمواجهة في سبيل تكريس مطالب الهيئة المحقة وعدم مساومتها على حقوق من تمثل.
ومع “خطف” هيئة التنسيق النقابية للشارع النقابي بطريقة أعادت للموظفين والأجراء إحساسهم بطعم النضال الجماعي وكسرت حواجز الصمت ومعها القمع القانوني، كانت حراكات أخرى ترسي رؤية منسجمة مع الحقوق نفسها، ووسائل النضال المتبعة للسعي لنيلها.
نقابة عمال سبينس تواجه سلطة المال في ظل الفراغ القانوني،أول نقابة مستقلة منذ 1975
وفي الإطار النقابي عينه، شكل حراك عمال “السبينس” علامة لافتة. فهذه النقابة التي انطلقت بدفع من الأجراء ذوي الأجور المتدنية على خلفية اقرار زيادة الأجور، وتحديدا على خلفية نجاح عريضة الأجراء في ارغام الشركة على الالتزام بها، قد شهدت في مسارها أنواعا مختلفة من العنف شنتها الشركة ضد مؤسسيها، وتاليا أنواعا مختلفة من الوسائل. وقد أعطى هؤلاء من خلال صمودهم في وجه الضغوطات العنيفة التي بدأت بالتهديد والوعيد ووصلت إلى الاعتداء الجسدي والطرد وقطع لقمة العيش، نموذجا عن حراك نقابي مختلف، حراك النقابات المستقلة في مواجهة قوة الرأسمال. ونتيجة لسياسة الترهيب التي لا تزال تمنع هذه النقابة من اجتذاب العدد الأكبر من الأجراء، بدا سلوك طريق القضاء أمرا لا بد منه. ففي أعقاب صرف اثنين من القيادات النقابية، اتخذ القضاء قرارا بمنع الشركة من صرف أي من أعضاء الهيئة التأسيسية الا في حالات الخطأ المحددة قانونا، وذلك في الفترة التي تفصل تأسيس النقابة عن حصولها على ترخيص[1]. كما لجأ هؤلاء الى القضاء مرة أخرى لمواجهة ارهاب أصحاب العمل، وذلك على أساس قانون العقوبات الذي يعاقب كل من يمنع لبنانيا من ممارسة حقه أو واجبه المدني بأي وسيلة كانت، بعقوبة قد تصل الى سنة حبس وبغرامة. ولا تزال الدعوى المذكورة عالقة أمام القضاء.
كما أنه بفضل القضاء، تمكن مؤسسو النقابة من استكمال اجراءات تأسيس نقابتهم وانتخاب مجلسها الأول وتشكيل جسم نقابي، بعدما رد قاضي الأمور المستعجلة طلبا بإلغاء الدعوة الى الانتخابات. وقد بدأت التغطية الإعلامية لهذا الحراك محصورة بصحيفة الأخبار التي عاقبتها شركة سبينس فورا بقطع الاعلانات عنها، لتتسع من ثم وعلى وقع مثابرة الحراك في تفرعاته المختلفة الى عدد آخر من الوسائل الاعلامية.
وقد وصف شربل نحاس هذه النقابة بأنها الأولى من نوعها التي تنشأ بفعل حراك الأجراء أنفسهم، أي بمبادرة من القاعدة منذ 1975[2].
فحوصات العار: وتحول التابو فور كسره الى أكثر القضايا حضورا…
أما حراك الغاء الفحوص الشرجية أو فحوص المثلية، التي نجحت المفكرة القانونية في فرض تسميتها بفحوصات العار، فتكمن أهميته في طرح قضية كانت تعد “تابوا” من المحرمات، وإن التقت مع حق كرامة الإنسان وحرية الفرد بجسده الذي تطرحه “نسوية”، والمتمثل بحرية تصرف المرأة بجسدها. وكان حراك فحوص العار قد ولد من رحم ندوة لـ”المفكرة القانونية” انعقدت في 23-5-2012 تحت هذا العنوان نفسه تناولت خلالها الجانب الحقوقي للقضية والحريات الشخصية والجانب القانوني والطبي عبر شهادات لأطباء شرعيين، وكذلك الجانب الشخصي والإنساني عبر شهادات لشباب خضعوا للفحص الشرجي وتأثيره النفسي والجسدي عليهم، واصفة اياه بالتعذيب والاغتصاب. وقد عرف هذا الحراك محطتين أساسيتين:
الأولى، التغطية الاعلامية للندوة من خلال عدد من الصحف (السفير والنهار والاوريان لوجور والدايلي ستار)، وقد أدت هذه التغطية الى ما يشبه “كرة ثلج” في أوساط الاعلام المحلي بل أيضا الدولي. وبذلك، تحولت ممارسة سائدة منذ عشرات السنوات في قضايا المثلية فجأة، وبفعل ندوة واحدة من “تابو” الى احدى القضايا الأكثر تداولا في لبنان، علما أن الانتصار الأول للحراك تمثل في فرض مفرداته من خلال وصف هذا الفحص بفحص العار.
والثانية، قضية سينما بلازا حيث تم احتجاز 37 شخصا تم اخضاعهم جميعا للفحص الشرجي. وقد صنعت محطة الـ LBCالحدث في هذا الشأن من خلال تقرير شهير عرضته في افتتاحية نشرتها المسائية حول هذا الحدث. وقد طورت استخدام مفهوم “فحوص العار” الى درجة تسمية تقريرها بـ”جمهورية العار”. وهنا أيضا، شهد الرأي العام كرة ثلج اعلامية جديدة حول هذه المسألة وضعت فحوص العار بين القضايا الأكثر تداولا، هذه المرة ليس فقط في الصحافة المكتوبة انما أيضا في الإعلام المرئي والمسموع. وقد استفادت المفكرة القانونية من هذه الأجواء لتقدم طلبا رسميا الى نقابة الأطباء في بيروت والى وزارة العدل بإلغاء هذا الفحص، مستندة الى تعارض هذا الفحص مع الكرامة الانسانية.
وفي موازاة ذلك، دعت جمعية “حلم” للاعتصام أمام نقابة الأطباء في 11-8-2012 الا أن الجمعية عادت وحولت مكان الاعتصام الى وزارة العدل بعدما أصدر نقيب الأطباء تعميما بمنع الأطباء من اجراء هذا الفحص المهين وغير المجدي تحت طائلة العقوبة التأديبية. وقد نجح الحراك من ثم في استصدار كتاب من وزير العدل شكيب قرطباوي وجهه الى النيابة العامة التمييزية التي عممته على النيابات العامة الاستئنافية كافة يطلب فيه التوقف عن إجراء الفحوصات الشرجية.
الحراك النسوي
ومن رحم الحراكات التي تستند إلى تاريخ نضالي، نخص الحراك النسوي لتحركه على أكثر من جبهة قديمة-جديدة. من معركة تشريع حماية المرأة من العنف الأسري إلى حق المرأة اللبنانية بمنح جنسيتها لأولادها، مرورا بالتظاهرة النسوية التي تطالب بالدولة المدنية، وصولا إلى طروحات مجموعة “نسوية” بحرية المرأة بجسدها. حراك عرف نشاطه الأبرز في النصف الأول من سنة 2012، فيما يطرح الهدوء الذي ساد النصف الثاني من العام أكثر من سؤال.
ففي عام 2012 نضجت الظروف الاجتماعية لقضية مشروع حماية النساء من العنف الأسري، ليتحول إلى المعركة النسوية الأبرز مع نهاية عام 2011 وخلال العام الذي ودعناه للتو. معركة نجح محركوها، وبالدرجة الأولى منظمة “كفى عنفا واستغلالا”، والتحالف الوطني من ورائها، في تحويلها إلى قضية وطنية وإعلامية ومدنية بامتياز.
ونجحت الحملة في وضع اللجنة النيابية الفرعية تحت المراقبة، والرد فورا على أي تسريبات أو معلومات تنضح عن عمل نوابها، وتصويبها وقيادة مواجهة نضالية وإعلامية وقانونية لدى إدراج أي تعديل من شأنه المس بالقانون وجوهره.
وترافق حراك العنف الأسري بمواكبة ومتابعة إعلامية، مما أوجد تواطؤا إعلاميا ومدنيا جعل من المواد المنتجة حول عمل اللجنة ومسار القانون موضع اهتمام المجتمع والنواب وأعضاء اللجنة. وساهم تنويع أساليب النضال سعيا لإقرار القانون من دون تشويه في تحريك الإعلام وجذبه. وبذلك، كان من الصعب على إعلام ملتزم بنقل نبض الشارع وقضاياه المحقة أن يغيب، على سبيل المثال لا الحصر، عن جلسة المحاكمة الصورية لروايات نساء تعرضن للاغتصاب الزوجي… يومها، شهد ليل بيروت في قلب منطقة الحمرا، وبالتحديد على مسرح بابل، أربع شهادات لأربع نساء يغتصبهن أزواجهن، بحضور نواب من اللجنة الفرعية المولجة بدراسة القانون. وبالإضافة إلى المحاكمة الصورية التي نظمتها، عملت “كفى” على نقل العنف الزوجي في مشهد مسرحي إلى حرم مجلس النواب. واخترق نشطاؤها الحظر الأمني حول المجلس، ليتسللوا فرادى ويؤدون لقطة عنف يضرب خلالها زوج زوجته أمام المجلس، وعلى مقربة من المكان الذي تجتمع فيه اللجنة لدراسة القانون. وقد ساهمت مسيرة مشروع القانون في إخراج الحراك من قمقم التحالف ليتحول إلى قضية رأي عام بطريقة دفعت بنائبين من اللجنة الفرعية النيابية إلى الاستقالة من عضويتها احتجاجا على ما أسمياه تشويه مشروع القانون وإفراغه من مضمونه.
وبموازاة العنف الأسري، استمرت معركة حق المرأة بمنح جنسيتها لأسرتها ونقلت المواجهة من الشارع إلى مجلسي النواب والوزراء، وإن بقي الأول (أي الشارع) الساحة الخلفية المساندة والداعمة لرص الصفوف واستئناف الهجوم بوسائل متنوعة. صحيح أن مشروع مرسوم منح المرأة جنسيتها لأولادها سقط في مجلس الوزراء، إلا أنه تم تشكيل لجنة وزارية خاصة بالقضية تتم متابعة عملها حاليا[3].
وتابعت جمعية “مصير” حراكها ليس فقط من أجل حق اللبنانية بمنح جنسيتها لأسرتها، وإنما في سبيل استرجاع مكتومي القيد وحاملي جنسية قيد الدرس، وعديمي الجنسية حقهم بالهوية اللبنانية. واستلهمت الجمعية من الجو العام في البلاد، واتجهت نحو القضاء كباب مضمون لمساءلة الدولة. وعليه، تحضّر الجمعية نحو عشر قضايا لرفعها ضد الدولة اللبنانية بعدما تبرع عدد من المحامين بالترافع بها، ولكن برزت مشكلة تأمين مصاريف الدعاوى التي يعجز أصحابها عن دفعها. كما تميز شبان وشابات جمعية “نسوية” في تظاهراتهم النسائية الجامعة وبعناوين ووسائل جديدة أكثر استفزازا. وبكثافة، طرحوا على الصعيد النسوي حق المرأة بامتلاك جسدها ومعه حرية التصرف به، من دون أن يتوانوا عن نصرة العنف الأسري. وسيرت “نسوية مسيرة رمزية لدفن القانون عرفت بمسيرة “التابوت” التي اخترقت شراوع وطرقات وأزقة بيروت، وانتهت إلى إقامة مراسم الدفن على بعد خطوات من مجلس النواب، وفي أقرب مكان سمح به حراس البرلمان. وقد تميز هذا الحراك بشكل خاص بالتظاهرة التي حشد لها في 16-1-2012 احتجاجا على “الاغتصاب” وشعاره اللافت: “كل دولة لا تجرم كل أنواع الاغتصاب لا يعول عليها”. وقد شكلت البيئة التي أنتجتها “نسوية” رحما خصباً لتشكل مجموعات شبابية تتنطح للتورط بقضايا حقوقية مباشرة، وتساند قضايا مطلبية أخرى.
ولاح في عام 2012 تحرك نسوي جامع بدت معه نساء لبنان، على الأقل ليوم واحد (25-3-2012)، وكأنها تخوض حربها الأكبر والأصعب التي من شأن الفوز بها أن يحوّل معارك القضايا الأخرى إلى “جيوب” تسهل تصفيتها، وذلك عبر مسيرة نسوية جامعة حملت عنوان “تحقيق المساواة والمواطنة الكاملة للنساء” طالبت بالدولة المدنية وبقانون نسبي للانتخابات ومن ضمنه “كوتا” نسائية، وبحق النساء بمنح الجنسية لأولادهن بالإضافة إلى تعديل قوانين مختلفة.
ويبرر القيمون على الحراك النسوي سكون الشارع في النصف الثاني من عام 2012 بتوخيهم وسائل مختلفة. فالتحالف و”كفى” يجمعان تواقيع نواب مؤيدين لقانون حماية المرأة من العنف كما يريدونه (جمعوا تواقيع نحو 40 نائباً) للحيلولة دون مرور التعديلات في مجلس النواب، فيما تترقب حملة “جنسيتي حق لي ولأسرتي” ما ستؤول إليه أعمال اللجنة الوزارية لتبني على الشيء مقتضاه. لكن التظاهرة النسوية التي طالبت بدولة مدنية بقيت يتيمة من دون تحرك جامع بين المنظمات والجمعيات التي نظمتها، وسط صمت نسائي لافت حول “الكوتا” الانتخابية النسائية، فيما البلاد تخوض نقاشاً، وإن عقيماً، حول قانون الانتخابات.

العمال الأجانب
هنا، نخص الحراك المتصل بإنصاف العمال الأجانب ليس كحراك جديد وإنما لتميزه في الأساليب المتبعة، إضافة إلى تركيزه على الغاء نظام الكفالة المستورد من الخليج والمستمد من الممارسة وليس من النصوص القانونية.
وتوسلت منظمات “كفى” و”نسوية” و”حركة ضد العنصرية” و”إنسان”، سبيل إشراك المعنيين أنفسهم بالحراك عبر تظاهرة يوم عيد العمال. يومها،بتاريخ 29-4-2012 ، خرجت الجالية الأجنبية في لبنان من عاملات وعمال أجانب إلى الناس والشارع يتحدثون عن قضيتهم ويعلنون، بشكل صارخ، عن وجودهم ككتلة بشرية وانسانية لديها حقها بالحياة الكريمة ولها عاداتها وتقاليدها ولباسها الفولكلوري ورقصها وطعامها وكل مظاهر الاداء الفني والمجتمعي الأخرى، كل ذلك تحت شعار إلغاء نظام الكفالة ورفض العبودية. كما حولت “كفى” مجمع “بيروت مول” وكورنيش عين المريسة إلى مسرح عبر مشهد “فك الرباط” (فلاش موب) بين رب العمل وعاملة المنزل للدلالة على سوء نظام الكفيل في لبنان، بتاريخ 23-9-2012. وبنشاطها هذا، لم تكتف بدعوة المواطنين اليها بل خرجت هي بالقضية إليهم.
وفي إطار الإضاءة على ظاهرة انتحار العاملات المستمرة منذ سنوات، نظمت “نسوية” بتاريخ 1-5-2012 اعتصام جثث أمام وزارة العمل في بيروت تبعا لانتحار العاملة الأثيوبية آليم ديشاسا، وقد ترافق هذا النشاط مع نشاط مماثل أمام العديد من سفارات لبنان في الدول الغربية من لندن إلى فرنسا مرورا بالدانمارك وأميركا وبلجيكا. كما سجل اعتصام آخر ل”كفى” وحركة مناهضة العنصرية بتاريخ 13-11-2012أمام المبنى الذي ألقت منه عاملة فيليبينية نفسها من بيت مخدومها 1-5-2012مناصرة للعمال الأجانب، خصصت “حركة ضد العنصرية” وبمشاركة “نسوية” مركزا للعمال الأجانب في منطقة النبعة، ليكون ملتقى لهم ولعائلاتهم ومساحة حرة يعيشون فيها خصوصياتهم، ويتصرفون فيه وفق عوائدهم، وسط كل العنصرية التي تحيط بهم. لم تعد الفكرة ان تفتح مركزاً تستقبل فيه العمال، بل أصبح لهم بيت يستقبلونك به.
ذوو المفقودين
وقفزت “لجنة أهالي المفقودين والمخطوفين” من تنفيذ الاعتصامات الاحتجاجية والمطلبية لتكريس حقهم بمعرفة مصير أبنائهم، إلى اعداد مشروع قانون كامل متكامل يشكل مفتاحا تشريعيا من شأنه وضع قضيتهم، للمرة الأولى، على السكة الصحيحة. وسهرت اللجنة مع “المفكرة القانونية” على تصويب التحرك الرسمي لحل القضية عبر مشروع مرسوم في مجلس الوزراء، وقدمتا قراءة قانونية نقدية لمضمون المرسوم، وهو ما أدى، بالتعاون مع الإعلام، إلى تريث مجلس الوزراء في إقرار المرسوم محدود الفعالية، وتشكيل لجنة وزارية للبحث والتعمق في الموضوع.
“هذا البحر لي”
وفي إطار ابتكار وسائل حراكية جديدة، لم تنتظر الشابات الثلاث(بترا سرحال وعبير سقسوق وتانيا الخوري)،اللواتي قدن تحرك “هذا البحر لي”، أي حزب سياسي أو جمعية موجودة لطرح قضية الأملاك البحرية. خضن تجربتهن بوسيلة تحرك مبتكرة بغض النظر عن نتائجها على أرض الواقع[4]. وتوسلت الصبايا “العرض الفني الحي” عبر تنظيم جولة بحرية معرفية للمواطنين (خمسين رحلة تقريباً) تطلعهم فيها على المشاريع المخالفة للقانون وغير المرخصة التي تقضم الأملاك البحرية العامة، وهي ملك عام لجميع المواطنين. وعمدن بموازاة الجولة إلى إنجاز بحث علمي عن الحيز العام والحيز الخاص مدعوم بعرض لتسلسل وتطور القوانين التي حكمته. وتنوي الشابات الثلاث استكمال الحراك ليشمل المناطق الأخرى في لبنان.
كذلك نحت جمعية “نحن” في نضالها لاسترجاع حرج بيروت وحق المواطنين به كمساحة عامة مقفلة. وكان نشاط استحداث مساحات خضراء في الساحات وعلى أرصفة الشوارع وفرشها بالعشب الأخضر ودعوة الناس إلى الخروج اليها في نزهة مؤقتة[5]، تعبيرا فنيا مبتكرا عن حاجة المواطنين إلى أماكن للتنفس خارج المطاعم وأروقة تجمعات التسوق المكلفة والخانقة في الوقت عينه، ومحاولتهم تعويض إقفال الحرج بالشوارع وأرصفتها. ولم يقتصر عمل “نحن” على هذا النشاط، بل أنجزت دراسات معمقة حول كيفية فتح الحرج للعامة بطريقة تحميه في الوقت نفسه، وحصلت على وعد بفتح الحرج امام العامة ما زالت تنتظر التزام بلدية بيروت به. وقد سجل أيضا في الاتجاه نفسه إطلاق تحرك “مشاع” بتاريخ 28-9-2012.
هذا بعض أهم الحراكات الحاصلة في 2012 والتي قامت من خلالها قوى اجتماعية مختلفة بكسر فواصل الصمت والعتمة والتهميش، أو على الأقل باحداث تشققات جدية فيها.

نُشر في ملحق2012 مع العدد السابع من مجلة المفكرة القانونية


[1] يراجع الورقة الخاصة بأبرز نجاحات القضاء واخفاقاته والمنشورة في هذا الملحق.
[2] حديث أمام وسائل الاعلام تبعا لنجاح النقابة في انتخاب مجلسها الأول.
[3] يراجع المقال المتصل بتقييم أعمال الحكومة لسنة 2012 والمنشور في هذا الملحق.
[4]هذا البحر لي 28-8-2012 حتى 8-9-2012
[5]جمعية نحن: إعادة فتح حرش بيروت 19-9-2012
انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، حراكات اجتماعية ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني