مشروع تعديل قانون مجلس شورى الدولة: الحل في تطبيق القانون وليس تعديله


2014-10-07    |   

مشروع تعديل قانون مجلس شورى الدولة: الحل في تطبيق القانون وليس تعديله

مع تزايد عدد الملفات الواردة سنوياً الى مجلس شورى الدولة، وبهدف وضع حد "للاختناق القضائي الحتمي" وتفعيل الإنتاج والإسراع في بت النزاعات، قُدم مشروع قانون تعديل قانون مجلس الشورى الدولة يرمي الى إضافة غرفتين قضائيتين اقره مجلس الوزراء بتاريخ 4-9-2014. وقد حصل ذلك رغم أن القانون وضع منذ سنة 2000 آلية من شأنها تخفيف هذا العبء، مفادها انشاء محاكم ادارية ابتدائية في المحافظات، علما أن لهذه الآلية أهمية كبرى أخرى مفادها ضمان حق التقاضي على درجتين، أي إعطاء المتقاضي حق اللجوء الى محكمة ابتدائية (هي المحاكم المنصوص على وجوب انشائها) تكون أحكامها قابلة للطعن أمام مرجع أعلى يصبح في هذه الحالة مجلس شورى الدولة نفسه. ويعد المبدأ المذكور طبعا ضمانة لحسن سير العدالة وللمحافظة على الحريات العامة وهو يساعد بتفادي الأخطاء القضائية وبتصحيح أخطاء الأحكام إن حصلت وصولا الى انضاجها.

مبدأ التقاضي على درجتين "شبه-دستوري" ويعكس مطالب دستورية في فرنسا
جاء في مطالعة مفوض الحكومة لقرار صادر عام 1944 عن مجلس شورى الدولة الفرنسي أن "التقاضي على درجتين هو مبدأ إجرائي عام يكرس ضمانة اساسية لمصلحة المتقاضين ومصلحة العدالة العليا"  وله "قوة قانونية" تمسح له بعدم تطبيق مرسوم يمنع إستئناف حكم.اما المجلس الدستوري الفرنسي، فكرّس الطابع الدستوري لمبادئ قريبة جداّ كحق الدفاع الذي يدخل ضمن الحق بمحاكمة عادلة ومبدأ المساواة امام العدالة.

ومن هنا لم يتردد بعض الفقهاء بإدخال هذا المبدأ في خانة ال"الشبه دستوري" المقترحة من قبل الرئيس فرنسوا لوشير، الذي اعتبر أن هذه المبادئ "لا يُمس بها دون المس بمبدأ المساواة". فبالرغم من أن هذا المبدأ لا يتمتع بطابع دستوري، إلا أن الغاءه يمكن ان يمس بحقوق دستورية اساسية، وعلى المجلس الدستوري التأكد بأن إلغاءه في بعض الحالات لا ينتهك مبدأ المساواة أمام القضاء او ضمان حسن سير العدالة او الحق بمحاكمة عادلة.

غير أن إنشاء محاكم ابتدائية ادارية ومحاكم إستئنافية إدارية في فرنسا فيما بعد فتح المجال لإعتبار التقاضي على درجتين حقا مكتسبا للمتقاضين دون تقييد، بإستثناء ما يدخل ضمن الصلاحيات التقليدية لمجلس شورى الدولة الذي يفصل في النزاع في الدرجة الأولى والأخيرة. كما ان حق التقاضي على درجتين في المجال الجزائي مكرّس بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي يعتبر جزءا من الدستور اللبناني والذي ينص بالمادة 14 فقرة 5 أن " لكل شخص أدين بجريمة حق اللجوء، وفقا للقانون، إلى محكمة أعلى كيما تعيد النظر في قرار إدانته وفى العقاب الذي حكم به عليه."

وعلى صعيد اوروبا، يكرس البروتوكول رقم 7 من المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان في المادة 2 الحق بالتقاضي على درجتين في المجال الجزائي.

مبدأ التقاضي على درجتين يضع حدا "لإختناق" المحاكم ويسرع البت بالنزاعات
ان انشاء المحاكم الإدارية الفرنسية عام 1953 جاء في نفس السياق ولنفس الأسباب التي يعلل فيها المجلس زيادة الغرف القضائية، اي وضع حد "لإختناق" المحاكم والإسراع بالبت بالنزاعات. فبين عام 1946 و1952، كان المجلس يسجل حوال 6000 دعوى جديدة بالسنة. كما كان النظر بالدعاوى يحصل بشكل بطيئ جداً إلى حد وصل عدد الدعاوى قيد المحاكمة إلى حوالي 25000 دعوى عام 1953. فشهد القضاء الإداري أزمة كبيرة لها تداعيات خطيرة على المتقاضي.

وهذا ما ورد في الأسباب الموجبة لمرسوم 30 أيلول 1953 الذي انشأ المحاكم الإدارية في فرنسا: "عدد القضايا المقدمة امام مجلس شورى الدولة يزداد. وبالرغم من الجهد الكبير والتحسين في وسائل العمل الذي يسمح للقاضي ببت عدد اكبر من الدعاوى (…)، فان توسع  نشاط الدولة يؤدي الى زيادة مطردة في عدد الدعاوى. وهذا الأمر يؤدي الى تأخير في اصدار القرارات مما ينعكس سلبيا على فعاليتها ويؤدي في بعض الأوقات الى استنكاف عن احقاق الحق".

وبحسب ما قال Gaston  Jeze: "اصبحت رقابة مجلس شورى الدولة افلاطونية لأنها متأخرة، والإدارات على علم بذلك وتستغله"
«La censure du Conseil d'Etat est platonique parce qu'elle est tardive. Les administrations le savent et en abusent» واللافت في المقارنة بين الأسباب الموجبة لمشروع القانون الرامي الى زيادة عدد الغرف في مجلس شورى الدولة والأسباب الموجبة لمرسوم انشاء محاكم إدارية فرنسية، ان الدوافع هي نفسها : الإسراع في البت بالنزاعات ومعالجة الإختناق القضائي الناشئ بسب زيادة عدد الملفات الواردة سنويا. الا انه في الوقت الذي اختارت فيه فرنسا ان تتعامل مع الاختناق القضائي على نحو يؤدي في الوقت نفسه الى تكريس ضمانة التقاضي على درجتين (منذ 1953)، نجد الحكومة اللبنانية تسعى الى تعديل القانون بدلا من تطبيقه، في اتجاه اهمال هذه الضمانة.
 
مبدأ التقاضي على درجتين يساهم في تقريب المحاكم الإدارية من المتقاضين. وهذا ما أوضحه الفقه الفرنسي:
 “Ces motifs et ces buts tendent, comme il a été indiqué à rendre efficace une justice supposée bonne en soi rendue mauvaise par sa lenteur. C’est-à-dire que l’impératif essentiel est à double face : accélérer la justice administrative et la rapprocher du justiciable.”

وبشكل عام، لمبدأ التقاضي على درجتين تداعيات ايجابية على صياغة احكام محاكم البداية والمحاكم العليا. فقاضي محاكم الدرجة الأولى يعلم ان احكامه مراقبة وقابلة للطعن من قبل محكمة عليا، مما يدفعه الى تحسين صياغة الأحكام التي تصدر عنه. ومن جهة اخرى، احترام مبدأ التقاضي على درجتين يحسن صياغة قرارات المحكمة العليا. فعند انشاء المحاكم الإدارية في فرنسا عام 1953، جاء في الفقه الفرنسي ضرورة  تطوير صياغة قرارات مجلس شورى الدولة "بهدف الحفاظ على وحدة القانون". فإعتبر[1]J. Rivero،ان "على القاضي الأعلى ان يعد القرار ليس لنفسه او للمتقاضين وحسب، بل لمحاكم الدرجة الأولى. فعليه ليس فقط أن يتخذ القرار المناسب، بل أن يعلله بوضوح، وان يضع حدا لطريقته القديمة وعرض الإستنتاجات القانونية التي تعلل قراره.  وجاء للكاتب نفسه ان "انشاء المحاكم الإدارية "ليس تصحيحا بل ثورة".

كما ان مبدأ التقاضي على درجتين يشكل ضمانة للمتقاضي ضد اخطاء قضاة الدرجة الأولى ووسيلة لعرض قضيته امام قضاة اكثر خبرة. فمن جهة، اعتبر المجلس الدستوري اللبناني في قراره  الصادر بتاريخ 2014-8-6 ان على المشرّع الذي ينشئ لجنة ذات صفة قضائية ان يؤمن "الضمانات للمتقاضين او لمقدمي الطلبات اليها، (…) وان يكون بالإمكان المراجعة  ضد قراراتها ضمانا لتصحيح اي اخطاء مادية وقانونية قد تقع فيها" و ان "المقاضاة على اكثر من درجة هي ضمانة للمتنازعين يجنبهم الأخطاء في اصدار القرارات".

ومن جهة اخرى، التقاضي على درجتين يسمح للمتقاضين غير الراضين عن الحكم الصادر عن قضاة الدرجة الأولى بأن يتوجهوا إلى محكمة أعلى ذات خبرة اكثر لكي تدرس من جديد القضية في الوقائع والقانون.



[1]J. Rivero,  Le conseil d’Etat, Cour régulatrice
انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني