محكمة المطبوعات في بيروت، محكمة لتعليم الأدب، وليس محكمة حريات


2014-02-25    |   

محكمة المطبوعات في بيروت، محكمة لتعليم الأدب، وليس محكمة حريات

منذ فترة، درجت محكمة المطبوعات في بيروت على اصدار أحكام بمواجهة صحفيين وناشطين بشكل تلقائي ومن دون أي اعتبار للخير والشر. يكفي أن تتثبت المحكمة من وجود كلمات نابية ضد شخص آخر لتحكم على القائل بجرم الذم بمعزل عن حسن نيته، وبمعزل عما إذا كان الذم صائبا أو واجبا أو مطلوبا، ولتعد الثاني ضحية فتحكم له بتعويض مهما كان منتهكا للمصالح العامة والخاصة. وقد ثبت ذلك في حكمين صادرين أخيرا، الأول في قضية فؤاد السنيورة ضد رشى أبي زكي والأخبار الصادرة في 20-1-2014، وقضية مايكل رايت ضد شربل نحاس الصادرة في 3-2-2014، فضلا عن قضايا باتهام أحزاب بالتسلح استنادا الى وثائق ويكيليس. وبذلك، بدت المحكمة وكأنها باتت محكمة لتعليم الأدبيات الشكلية ولو أدى ذلك الى قمع أعظم الحريات التي هي حرية فضح الظلم.

ولا نبالغ إذا قلنا إن الحكم الصادر عن محكمة مطبوعات بيروت في 24-2-2014 في قضية رندة يقظان ضد محمد نزال شكل من هذه الزاوية كاريكاتورا مضخما عما يمكن أن يصل اليه هذا المنطق. وفي تفاصيل هذه القضية أن نزال فضح تدخل أحد النافذين في القضاء للإفراج عن مقرب منه مشتبه به بجرم المخدرات، فبادرت وزارة العدل فورا الى إحالة المدعية مع قاض آخر الى المجلس التأديبي مفاخرة بذلك أمام الرأي العام، وصدر حكم تأديبي بحقها بداية واستئنافا انتهى الى إنزال درجتها لدرجتين.

فعلى صعيد القانون، تجاهلت المحكمة المادة 387 من قانون العقوبات التي تجيز للمدعى عليه التبرؤ من فعلته في حال أثبت صحة الأفعال موضوع الذم في قضايا تتصل بالخدمة العامة. ورغم إشارة المحكمة الى صدور قرارات تأديبية بحق المدعية، فهي سارعت الى استصغار أثر هذه الأحكام بقولها إنها أدت الى إنزال درجتها درجتين ليس الا. كما لم تكلف نفسها عناء ما تضمنته هذه الأحكام "السرية" أو استدعاء المدعية لاستجوابها بشأنهما، انما اكتفت في موقف ليس هنالك ما يبرره بالقول بأن الأفعال المساقة في المقال ضد المدعية هي من دون اثبات جدي وهي من باب الأخبار الكاذبة. هكذا، بكل بساطة، وكأنما المحكمة تعلن أن كل ما فاخرت به وزارة العدل في مجال المحاسبة وعملت على أساسه مع المجالس التأديبية كان كذبا. في مكان آخر، عبّرتُ عن خشية من أن تكون إجراءات المحاسبة التي بادر اليها قرطباوي داخل القضاء من دون غد (المفكرة القانونية، تموز 2013، العدد 10) وأن تتوقف فور خروجه من الوزارة، لكن ما لم أتوقعه قط هو أن تبادر محكمة بعد خروجه بأيام من الوزارة الى اعلان أن أعمال المحاسبة تلك بنيت على كذب. وانطلاقا من ذلك، يصبح المحال ممكنا، فيحكم على صحافي كان يقتضي الثناء على عمله تبعا لفضحه مفسدة تدخلات في القضاء، ويحكم بتعويض خمسة عشر مليون ليرة لبنانية (وهو تعويض باهظ بالمقارنة مع أحكام المطبوعات) لقاضية ثبت أنها مخطئة الى درجة صدور أحكام تأديبية بحقها.

وما يزيد القرار قابلية للانتقاد، هو استعادة المحكمة حيثيتها القائلة بأنه لا يجوز للصحافة (السلطة الرابعة) أن تبلغ تحت ستار "حرية ابداء الرأي قولا وكتابة" حد اصدار "الأحكام" بحق أشخاص محددين بالاسم، عملا بمبدأ فصل السلطات. واللافت أن المحكمة لامت هنا الصحافي لتجاوزه الهيئة القضائية العليا للتأديب فيما أن هذه الأخيرة بدت وكأنها تكاملت معه في عملها، طالما أنها أدانت يقظان على الخطأ المرتكب منها. والواقع أن هذا الاجتهاد مبني على مجموعة من الأخطاء: فمبدأ فصل السلطات لا يشمل الاعلام قط مما يجعل ادراجه ضمن السلطات على هذا الوجه أداة للانتقاص من حريته، كما أنه غير دستوري طالما أنه يؤدي الى اختلاق قيود غير موجودة لحرية التعبير كما كرسها الدستور والمواثيق الدولية لحقوق الانسان، من شأنها القضاء عليه تحت غطاء تنظيمه، وهو من هذه الناحية اجتهاد قامع للحرية بحد ذاته.

انطلاقا من كل ذلك، جاز القول إن محكمة المطبوعات فقدت دورها كمحكمة متخصصة يقوم دورها على صون الحريات ضمن ضوابط محددة حصرا، وباتت محكمة استثنائية تتولى وفق منطقها التهذيبي اسكات أصوات حق و"جبر ضرر" ألف ظالم وظالم.
 
نشر بالتزامن في جريدة الأخبار، تاريخ 25-2-2014
 

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، استقلال القضاء ، لبنان ، حريات عامة والوصول الى المعلومات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني