مؤشرات مقلقة في مشروع مجلة الأخلاقيات القضائية في تونس: على القاضي أن يعظم محارم الله و.. الوزارة


2012-11-29    |   

مؤشرات مقلقة في مشروع مجلة الأخلاقيات القضائية في تونس: على القاضي أن يعظم محارم الله و.. الوزارة

وجهت وزارة العدل التونسية إلى جمعية القضاة ونقابة القضاة مشروعا أوليا لمجلة الأخلاقيات القضائية. وبادرت جمعية القضاة بمناسبة مجلسها الوطني الذي عقدته يوم 24 تشرين الثاني، نوفمبر، 2012 إلى إعلان رفضها لمبادرة الوزارة على اعتبار أن صياغة مدونات السلوك القضائي تتولاه الهياكل الممثلة للقضاة طبقاً المعايير الدولية لاستقلال القضاء، وبعد استكمال مسار الإصلاح القضائي. كما شارك قضاة النقابة الموقف نفسه، وعبروا عن رفضهم لهذه الخطوة .

من جهتها، ردت وزارة العدل على الانتقادات التي وجهت لها ببيان اشارت فيه إلى أن مبادرتها بعرض المشروع تندرج في إطار مجموعة من الإصلاحات القضائيّة التي شرعت في القيام بها بتوخي مقاربة تشاركيّة تهدف إلى تشريك السادة القضاة في صياغة مدونة سلوك تنبع منهم. واشارت إلى أن المدونة تتضمن أهم المبادئ والقيم الأخلاقيّة التي تتفق أغلب المنظومات القانونية على ضرورة أن يتحلى بها كل شخص تحمل أمانة الفصل بين الناس في ما يعرض عليه من منازعات. وشددت الوزارة على أنّ المشروع لا يعدو كونه وثيقة أوليّة تمّ عرضها على الجهات المعنية لإبداء ما لهم من ملاحظات في شأنها قصد الاتفاق في النهاية على مدونة ترضي الجميع، وتكون محل توافق بين القضاة كافة من دون إملاء من أحد.

وكانت المطالبة بسن مدونة سلوك قضائي تضبط بشكل واضح الأخلاقيات التي يجب على القاضي أن يتحلى بها في اطار ممارسته لعمله وفي سلوكه اليومي، من المسائل التي تمسك القضاة بها، وبادروا بالنضال من أجل تحقيقها. وأعلنت في وقت سابق نقابة القضاة التونسيين أنها بصدد صياغة تصورات لمدونة السلوك، فيما دعت لوائح المؤتمر العاشر لجمعية القضاة لبعث المدونة ذاتها.
وبالتالي يكون الجدل الذي يدور بين وزارة العدل وهياكل القضاة لا يتعلق بأصل فكرة المدونة، وانما بالجهة التي يجب أن تصدر عنها. فقد تمسكت جمعية القضاة بكون القواعد الدولية لاستقلال السلطة القضائية تتعارض مع مبادرة السلطة التنفيذية بالتدخل تحت أي عنوان كان في الموضوع.
وكان يفترض أن تكون مدونة الأخلاقيات القضائية باكورة أعمال المجلس الأعلى للقضاء الممثل فعلا للقضاة وصاحب السلطة التأديبية والأدبية عليهم.غير أن مبادرة الوزارة بإعداد المشروع وبعيدا عن المحاسبات على النوايا عاد ليذكر بالفراغ المؤسساتي الذي يعاني منه القضاء التونسي اليوم.
فبعد أن فشل المجلس الوطني التأسيسي في تحقيق التزامه ببعث هيأة مؤقتة للإشراف على القضاء العدلي وتناسى ما تعهد به من إصلاح لمجلسي قضاء المحكمة الإدارية ودائرة المحاسبات، أضحت هياكل القضاة معطلة فعليا وعجزت عن القيام بدورها المفترض وأدى ذلك الى حصول هيمنة فعلية من السلطة التنفيذية على المشهد القضائي، يشكل اقتراح هذا المشروع تجليا جديدا لها.
ثورة عقائدية: على القاضي أن يعظم محارم الله وأن يكون ورعا ومتعففا
وبعيدا عن الجدل حول مشروعية اعداد الوزارة لتصورها لمجلة الأخلاقيات القضائية من عدمه، يكشف النظر في المشروع المقترح عن تصور خاص ومقلق لأخلاقيات القضاء تبشر به السلطة الحاكمة.

فرغم أن الوزارة ذكرت في بلاغها أن مشروعها استلهم في مرجعياته من المبادئ والقيم الأخلاقيّة التي تتفق أغلب المنظومات القانونية حولها، الا أن ما تضمنه من اشارات صريحة الى الالتزام الديني كمعيار أخلاقي وضابط لأدبيات فصل المنازعات، يبدو لافتا. فقد ألزم الفصل الخامس منه القاضي بان يتذكر عند انتصابه للحكم بان 'لا سلطان عليه  في قضائه لغير الله والقانون' . ونص الفصل السادس على  انه "على القاضي أن يكون ورعا متعففا'، فيما أتى بالفصل الثامن منه أن على القاضي''أن يعظم محارم الله''. ويخشى من الاشارات الدينية المذكورة أن تكون فاتحة لنزع مدنية القضاء لفائدة استعادة مفهوم القاضي الشيخ اذ قد تكون في الدعوة لتحري القضاة أخلاقيات السلف الصالح التي تقوم على حسن العقيدة حنين من الجهة التي أعدت المشروع لتصور يخلط بين الوظيفة المدنية للقاضي والمؤسسة الدينية. وقد يؤدي ذلك الى ايجاد أخلاقيات قضائية ترفض تطبيق قانون معين بحجة مخالفته للمعتقد الديني. ويشكل الأمر خطرا حقيقيا على مكتسبات المؤسسة القضائية. وتزيد خطورة الأمر اذا ما انتهى في صورة اقرار التوجه الى تخير القضاة المنتدبين بالمعايير الاخلاقية ذاتها، فيكون الالتزام الديني من شروط الانتساب للقضاء على اعتباره مؤشرا للسلوك الاخلاقي القضائي القويم وما يستتبع ذلك من محاكمات للأفراد على معتقداتهم. وتبدو المجلة من هذا المنظور مشروعا لايجاد نمط قضائي شرعي مقنّع. ويتعين النظر بريبة للأمر حفاظا على مدنية الدولة ومؤسساتها.

 

 

لجنة الأخلاقيات القضائية داخل الوزارة لضبط سلوكيات القضاة

وفي موازاة الثورة العقائدية التي كشف عنها مشروع الوزارة، بدت الفصول التي تضبط تصور المؤسسة القضائية بعيدة عن روح إصلاح القضاء وضمان استقلاليته، إذ حافظت أحكامه على دور وزارة العدل كجهة راعية للقضاة في سلوكهم وعملهم. ونص الفصل 17 "على القضاة المشرفين على المحاكم مراقبة السلوكيات القضائية وتنبيه القضاة إلى المخالفات التي يرتكبونها قصدا أو عن غير قصد وتبليغ الوزارة بها في إبانها مصحوبة بالتقارير والأدلة النافية أو المثبتة لها''. وأتى بالفصل 36 بأن تحدث لجنة بوزارة العدل تسمى "لجنة الأخلاقيات القضائية تكون مهمتها التعريف بالسلوك القضائي وتطويره ومراقبته على ان يضبط تنظيمها بقرار من وزير العدل''. كان يظن أن يترجم ما ذكره وزير العدل بكون المدونة "لبنة" من اساسيات إصلاح القضاء الى أحكام تعزز استقلالية القضاء عن السلطة التنفيذية، غير أن حفاظ المشروع على الوزارة كجهة تراقب الأخلاقيات مؤسساتيا، وترفع لها التقارير حول خرقها يبين بشكل جلي تواصل الرغبة في السيطرة الكاملة للإدارة على ملف تأديب القضاة، والتغييب المتعمد للدور المفترض للمجلس الأعلى للقضاء في الموضوع، خصوصا في جانبه المتعلق بآلية التعهد.

وفي محاولة لرصد تصور الجهة التي تولت اعداد مشروع مجلة أخلاقيات القاضي من خلال صياغة الفصول يتبين ان واحدا وعشرين فصلا منها كانت فاتحتها عبارة ''على القاضي''، فيما حملت ستة فصول على القاضي واجبات معينة من جملة سبعة وثلاثين فصلا. بينما لم يتم الحديث عن حقوق القاضي إلا في خمسة فصول تركزت اغلبها حول الحق في التحصيل المعرفي. وكانت الواجبات متعددة، وحرص واضع النص على تفصيلها في سياق منعي، ولم يلتفت للحقوق إلا في إطار ما هو مضمون حاليا بحكم القوانين الجارية، بما يفيد أن أخلاقيات القضاء التي تعد بها المجلة قوامها القيد دون تصور لإعادة تفصيل للحقوق.

وبذلك يكمون مشروع وزارة العدل قد اعاد حديث مدونة السلوك إلى واجهة المشهد القضائي ولفت النظر لما يعاني منه القضاء التونسي من فقر تنظيمي يمنع من إعادة تأسيسه. ومكنت حيوية هياكل القضاة التونسيين من التفطن لخطورة أن تكون وزارة العدل وصية على القضاة في مستقبل بناء سلطتهم. وفي مقابل ذلك، فانه لا يتوقع أن تتمكن السلطة من تمرير مشروع القانون في القريب العاجل الى المجلس التشريعي على اعتبار أن مجلة الأخلاقيات، على أهميتها، تخرج عن نطاق الأولوية التشريعية في المرحلة الراهنة.

فالمجلس التشريعي ما يزال مقصرا في النظر في قوانين المجالس العليا للقضاء كما أنه عجز عن برمجة ما وعد به من إصلاح للقوانين الأساسية للقضاة. ويتبين من عجز السلطة التأسيسية عن الإيفاء بتعهداتها الأصلية تجاه القضاء بسبب تجاذباتها السياسية من جهة، وكثرة ما يعرض عليها من قوانين من جهة أخرى. وهو ما يدفع الى الاعتقاد بكون حديث وزارة العدل عن مشروع قانون المدونة في عمقه لا يتجاوز حدود التمنيات أو التصورات بما يفترض أن يكون القاضي عليه، وهو في مطلق الأحوال حديث ترف يخفي حقيقة عجز عن تحديد الأولويات، وإيجاد تصورات لاصلاح يؤسس لاستقلالية فعلية للسلطة القضائية.

الا أن هذا الأمر لا يجب ان يمنع القضاة من استعادة زمام المبادرة، بل ربما يفرض عليهم العمل لوضع تصور بديل لأخلاقيات القضاء يصنع حرية القاضي، ولا يكبله بورع منافق وواجبات من دون حقوق.

انشر المقال



متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، استقلال القضاء ، تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني