الإفراج عن وزيرين من أقطاب بن علي في تونس: قضاء تحت التجربة؟


2012-11-13    |   

الإفراج عن وزيرين من أقطاب بن علي في تونس: قضاء تحت التجربة؟

قررت الدائرة الجنائية الخامسة بالمحكمة الابتدائية بتونس الإفراج عن المتهمين عبد الرحيم الزواري وبشير التكاري الوزيرين السابقين في نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وأبرز أعوانه ممن يشتبه في ضلوعهم في منظومة الفساد بأنواعه. أفرج عن المتهمين بناء على ضعف أدلة الاتهام بالنسبة للأول واعتبارا لتدهور الحالة الصحية للثاني.
شكل القبول بالإفراج عن المتهمين بمقياس شعبية الأحكام والقرارات القضائية قرارا جريئا أتى ليصدم المتتبعين. صادف أن كان تاريخ قبول مطلب الإفراج متقاربا مع يوم السابع من نوفمبر أي التاريخ الذي اعتلى فيه زين العابدين بن علي سدة الحكم بتونس وكان أنصار النظام  يحتفلون به سنويا قبل الثورة. فعد الساخرون القرار جزءا من احتفالات فلول النظام وعنوانا من عناوين الثورة المضادة.
عندما أصدرت دائرة الاتهام بمحكمة الاستئناف بتونس في تاريخ سابق قرارات إفراج في حق المتهم عبد الرحيم الزواري، أعلنت الطبقة السياسية إدانتها لعمل القضاء وتمسكت بكون  تلك القرارات من مظاهر الفساد القضائي. ووصل الأمر بالناطق الرسمي باسم رئيس الجهورية التونسية الأستاذ عدنان المنصر الى كتابة مقال صحفي عبر فيه عن رفضه لتمتيع رموز النظام من حق المحاكمة العادلة .  
أعاد قرار الإفراج عن الوزيرين السابقين إنتاج ذات الجدال وتعددت الانتقادات التي وجهت لتعاطي القضاء مع ملفات الفساد. فتحول الأمر من حديث حول قرارات قضائية إلى جدال حول القضاء في إطار رغبة في استخلاص نتيجة من القرار مفادها أن القضاء أفرج عن المتهمين لكونه يوالي نظامهما.
يبدو تعاطي السياسي مع الأحكام القضائية نفعيا يرغب في تحصيل مصادقات قضائية على أحكام مسبقة. وتجد القرارات القضائية التي لا تتلاءم مع هوى جماعات الضغط صدا عنيفا يمنع من فهم مسبباتها وسنداتها. فرغم أن قراري الإفراج عن الوزيرين رافق الإعلان عنهما بيان للمسببات التي أقنعت المحكمة بحقهما القانوني في تطلاق سراحهما، إلا أن المنتقدين أشاحوا بنظرهم عن الوقائع ليعلنوا تمسكهم بتواصل الإيقاف لتتسنى محاكمة فساد النظام السابق.
بدا السعي الى الإدانة أكثر بروزا من البحث عن الحقيقة، سواء الحقيقة التي تتعلق بالتجاوزات التي تنسب لرموز النظام أو الحقيقة التي تتعلق بمسار البحث في هذه التجاوزات. وقد أفضت هذه الاخلالات إلى تغليب البحث عن إدانات لأعداء الشعب على البحث في حقيقة الجرائم التي اقترفها هؤلاء.
قد يكون الإفراج عن الوزيرين والأحكام التي صدرت بتبرئة أفراد من عائلة الرئيس الأسبق من جرائم تنسب لهم أمرا يصعب على الرأي العام تفهمه على اعتبار ما يعلمه سماعا ومعاينة من حقيقة تورط هؤلاء في منظومة الفساد التي ثار ضدها. فهذه المقررات القضائية استندت الى وقائع غير ما يشاع وكانت حصيلة أعمال الاستقراء التي تمت من قبل لجان تقصي الحقائق والادعاء العام وجمعيات المجتمع المدني.
واتضح اليوم بعدما تعهد القضاء المجلسي بالملفات أن حصيلة البحث في تركة الماضي كانت في كثير من الحالات غير كافية لإثبات الإدانة القضائية. يدفع التمايز بين الحقيقة القضائية والحقيقة الواقعية الى طرح السؤال حول أسباب الفشل في التوصل إلى كشف الفساد المعلوم وتحويله إلى موضوع لمحاكمات تسمح بتصفية تركة الماضي وتحقيق مطلب المحاسبة.
رغم ما يذكر عن بطء في فصل ملفات الفساد، فان الظاهر أن التسرع في التعاطي الرسمي مع الموضوع منع من الدراسة الدقيقة لمنظومة الفساد لكشف ترابطاتها وتفرعاتها. لم تكن قضايا الفساد نتيجة لنبش مدقق في تركة الماضي وإنما كان منطلقها أعمال لجنة تقصي الحقائق حول الرشوة والفساد وشكايات من محامين وأفراد حول تجاوزات علموا بها. وبحث القضاء فيما تعهد به من ملفات في إطار آليات البحث التقليدية التي يحوزها بما أعاقه عن التوصل لجرد ما يوجد بمقرات الإدارات العمومية من ملفات فساد حقيقي. كان البحث في الفساد عنوانا لعجز عن التوصل لفهمه. بينت التجربة أن البحث في فساد نظام سياسي طوع الإدارة العمومية ومؤسسات الدولة لخدمة أغراضه الإجرامية ونهب المال العام والخاص يصعب تكوين ملفاتها القضائية دون استعمال آليات ومؤسسات بحث وتقص ذات خبرة خاصة في المجال. تعهد القضاء بملفات فساد عليلة في كثير من حالاتها ومنعت قلة الخبرة وتراكم الملفات من البحث المعمق فيها.
 بات القضاء رهينة لتلك الملفات فالمطلوب منه أن يحكم بما تضمنته وان تكون أحكامه في اتجاه واحد هو الإدانة. يمارس الرأي العام والطبقة السياسية ضغطا متناميا على القضاء. فصناع الرأي العام يستغلون ضعف الثقة في القضاء لإبراز أنهم يحمون الثورة من تواطؤ القضاة ضدها من خلال انتقادهم الدائم للأحكام التي لا تقضي بما يطلبون.  
ويمنع التوظيف السياسي للموضوع من إصلاح الأخطاء التي جدت في مسار الكشف عن الحقيقة. أخفت الأصوات المنددة حقيقة الاضطراب الذي رافق البحث في ملفات الفساد فذات المنتقدون لم يلتفتوا لهيأة مكافحة الفساد التي رغم مضي ما يزيد عن النصف عام عن صدور قرار بتعيين رئيسها لم تباشر عملها بعد ولا زالت الصراعات حول محاصصة عضويتها تمنع من تشكيلها. وذات المنتقدين لم يباشروا أي مجهود نقدي لضحالة ماتوصلت له لجنة الكشف عن حقائق الرشوة والفساد من حقائق. وغاب عن المتتبعين لحصيلة الأبحاث القضائية في ملفات الفساد أن إدارة وزارة العدل تسببت بترددها وغياب الرؤية لديها في إعاقة الأبحاث القضائية. ويكفي هنا النظر في قراراتها المتضاربة بشان تخصيص قضاة متخصصين في قضايا الفساد من عدمه وإعلانها لعزمها عن بعث قطب قضائي متخصص في قضايا الفساد ثم ترددها في ذلك وقد استمر هذا التردد لحد الآن.
كما لم يتفطن المنتقدون لخطورة ما قد يفضي له انتقادهم المتسيس للقضاء من زعزعة للثقة التي يجب أن يتحلى بها القضاء في الوسط العام ليتحول لسلطة يرجع إليها الجميع ليضمنوا تطبيق القانون. كما أن التشكيك الدائم في القضاء والقضاة أضحى بفعل تعدد مصادره سببا في إضعاف القضاء. أكيد أن القضاء يحتاج للنقد والتشريح ليتجاوز الضعف والفساد الذي أكسبه إياه توظيفه من قبل الأنظمة الفاسدة. غير أن النقد لا يجب أن يتحول بحال إلى دفع للقضاء ليغرق في مستنقع التجاذبات السياسية.
كان بالإمكان أن تكون قرارات القضاء بالإفراج عن المتهمين رسالة تقرأ في اتجاه تطور أداء القضاء بالتزامه بشروط المحاكمة العادلة. فقرارات الإفراج احترمت قرينة البراءة وقدست الحرية كمبدأ كما أنها تمسكت بكون المحاكمة العادلة هي محاكمة تحترم الذات الإنسانية بالضرورة وذلك بقطع النظر عن شخصية المتهم وموقف المجتمع منه. غير أن الرغبة في الاستثمار السياسي والإعلامي للمحاكمات يمنع من البحث في الجوانب المضيئة للتعاطي القضائي وهو ما يمنع فعليا من إعادة إنتاج الثقة في القضاء. يحرص السياسيون على رفع نزاعاتهم أمام القضاء فكل تصريح يدلي به احدهم يكون سببا في تقديم الآخر لشكاية وكل موقف يؤول وفق مقتضيات القانون الجزائي ليكون موضوع دعوى يرفعها احد اللاهثين وراء الشهرة للمحكمة. يفرط السياسيون في الالتجاء للقضاء ويبالغون في التأكيد على رفضهم لأحكامه وقراراته. يطلب الجميع حكم القضاء إلا أنهم يرغبون في أحكام تتوافق مع ما يطلبون ويتمسكون برفض استقلال القضاء في أحكامه وقراراته بحجة أنه قضاء تحت التجربة.
 

انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكمة عادلة وتعذيب ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني