القضاء يؤدي دورا مميزا في حماية الحرية النقابية رغم الثغرات القانونية، فهل يستجيب المشرع؟


2012-11-02    |   

القضاء يؤدي دورا مميزا في حماية الحرية النقابية رغم الثغرات القانونية، فهل يستجيب المشرع؟

تجربة سبينس: دروس في قانون العمل
الى جانب استباحة الحرية النقابية خلافا لالتزامات لبنان الدولية، تسلط قضية سبينس الضوء على أمر لا يقل أهمية عنها، وان قل الكلام عنه ومفاده الفجوة القائمة داخل المؤسسة بين أصحاب العمل والأجراء، وغلبة سلطوية هؤلاء في موازاة غياب أي شكل من أشكال التواصل والحوار فيما بينهم بما يتعارض أيضا مع أحكام الاتفاقيةالدولية رقم 98 المتعلقة بتطبيق مبادئ الحق في التنظيم النقابي والمفاوضة الجماعية. فمن اللافت أن تجابه المطالبة بحقوق بديهية كتطبيق الزيادة القانونية التي طرأت على الأجور ونشأة “نقابة عمال السبينيس” القيصرية في اثرها، برفض قطعي أخذ في محلات عدة منحى “بوليسيا” “. وانطلاقا من ذلك، يسعى المقالان المنشوران هنا الى تسليط الضوء على الثغرات في قانون العمل والتي ظهرت بمناسبة هذه القضية (المحرر).

على خلفية قيام شركة سبينس بصرف رئيس الهيئة التأسيسية للنقابة والتلويح بصرف عضو آخر فيها، تقدم عدد من مؤسسي النقابة باستدعاء أمام قضاء العجلة في بيروت طالبين اتخاذ قرار مؤقت لمنع الشركة من صرفهم من العمل ريثما يتم الحصول على ترخيص، وذلك حماية للحرية النقابية.
وبالفعل، والى جانب ضمان تعويض الصرف التعسفي، تقتصر حماية قانون العمل للحرية النقابية على المادة 50 (ه) منه التي توجب على أصحاب العمل احترام أصول خاصة في ما يتصل بصرف القيادات النقابية(منها اللجوء أولا الى المصالحة امام مجلس العمل التحكيمي لمعالجتها والحصول على موافقة مسبقة من مجلس العمل التحكيمي تحت طائلة الاعادة الى العمل). ولكن ينحصر تطبيق هذه الفقرة وفق حرفيتها على القيادات النقابية المنتخبة أي القيادات المنتخبة في اطار نقابات حائزة على ترخيص من وزارة العمل. وتاليا، ليس من شأن هذا النص أن يقدم أي حماية للقيادات النقابية في فترات تأسيس النقابات (الفترات الفاصلة بين تقديم طلب تأسيس نقابة واجراء انتخابات بعد الحصول على ترخيص)، وهي اجمالا الفترات التي يكون فيها الأجراء مبدئيا بأمس الحاجة اليها، حيث أن النقابات المنشأة بدفع من الأجراء (القاعدة) تنشأ بمعظمها عند وجود خلاف بين العمال وأصحاب المؤسسة. فماذا يبقى من الحرية النقابية اذا تدخل أصحاب العمل في فترة التأسيس لصرف مؤسسي النقابة أو دفعهم الى الاستقالة تحت وطأة التهديد، مستفيدين من الثغرة القانونية المذكورة؟ ومن هنا كانت الحاجة الملحة للجوء الى قضاء العجلة لإعطاء مفاعيل حمائية مشابهة للفقرة (ه) كأن يمنع صرف أعضاء الهيئة التأسيسية الى أن يصدر قرار وزارة العمل بشأن منح الترخيص بإنشاء النقابة واعطائها صفتها القانونية الكاملة.

كيف حصن قضاء العجلة الحرية النقابية؟

وتبعا للطلب الذي قدمه اعضاء الهيئة التأسيسية والمشار اليه أعلاه، صدر عن القاضية المناوبة خلال العطلة القضائية قرار أول برده بتاريخ 1-9-2012. وقد استند هذا القرار الى مبدأ حرية الصرف الذي يسمح لصاحب العمل بإنهاء عقود العمل وصرف أجرائه، فلا يتدخل القضاء الا في مرحلة لاحقة للحكم عليه بتعويض في حال التعسف باستعمال الحق. وخلص بذلك الى عدم امكانية تدخل المحاكم لمنع ممارسة هذا الحق، اذ لا يجوز الزام صاحب العمل بالإبقاء على العقد رغما عن ارادته.
وبناء على استئناف أصحاب العلاقة، صدر عن قاضية الامور المستعجلة قرار ثان في 7-9-2012 بالرجوع عن القرار الأول وبمنع الشركة من صرفهم لمدة أسبوعين قابلة للتجديد. وقد استند هذا القرار الى صلاحية قاضي الأمور المستعجلة باتخاذ التدابير المؤقتة والاحتياطية التي من شأنها حفظ الحقوق ومنع الضرر، وتحديدا لتمكينهم من ممارسة حقهم بتأسيس النقابة التي تقدموا بالمستندات الخاصة بها لدى المراجع المختصة من دون تعرض من ادارة الشركة.
وقد كرس هذا القرار ضمنيا مبدأ الحرية النقابية الذي يسمو على مبدأ حرية الصرف ويجيز تقييده، كونه أحد المبادئ الواردة في المعاهدات الدولية التي وقعت عليها الدولة اللبنانية ولا سيما المادة 20 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان[i]والمادة 8 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية[ii]والتي بات لها قيمة دستورية بفعل مقدمة الدستور[iii]، فضلا عن التزام لبنان بدستور منظمة العمل الدولية وباعلان فيلادلفيا الذي يكرس الحرية النقابية.

وقد صدر قرار ثالث بتاريخ 20-9-2012 بتمديد مهلة منع الصرف اسبوعين اضافيين، صدر خلالها قرار الترخيص عن وزارة العمل بتاريخ 25-9-2012.

الترخيص المسبق يهدد الحرية النقابية

تسلط هذه القضية الضوء على الفراغ القانوني الذي ينتج عن نظام الترخيص المسبق لإنشاء النقابات الذي تنص عليه المادة 86 وما يليها من قانون العمل الذي يفرض على النقابات شروطا لا يفرضها القانون على الجمعيات والأحزاب التي تكتفي بمعاملة “العلم وخبر” لدى وزارة الداخلية. كما من اللافت أن قانون العمل لا يفرض مهلة على وزارة العمل لاصدار قرارها بشأن طلب الترخيص، مما يترك مصير النقابات في يد الوزير وقفا على ارادته السياسية، بل قد تنتهي طلبات الترخيص منسيةفي أدراج الوزارة.

فضلا عن ذلك، غالبا ما يرى مؤسسو النقابات أنفسهم مكبلين باجراءات قانونية ملزمة كأن يفرض عليهم قرار الترخيص، وفق ما جرت العادة عليه، دعوة الجمعية العمومية وانتخاب أول مجلس ادارة للنقابة خلال بضعة أشهر، فاذا لم يجر الانتخاب ضمن المهلة المحددة في القرار، يعتبر الترخيص بحكم الملغى[iv]. ومن شأن هذه المهلة أن تحد أيضا من الحرية النقابية كونها تتجاهل الصعوبات التي تعترض مؤسسي النقابات خلال المرحلة التأسيسية ولا تعطيهم الوقت الكافي لإقناع الأجراء بالانضمام اليها أو لإجراء دورات تدريبية على العمل النقابي أو للاستحصال على المشورة القانونية والعملية اللازمة للتوصل بشكل سليم الى مرحلة انتخاب مجلس ادارة النقابة.
نحو ابرام الاتفاقية رقم 87

ومن هنا الحاجة لابرام اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 87 المتعلقة بالحرية النقابية وبحماية حق التنظيم من أجل سد هذه الثغرة القانونية. فالمادة الثانية من هذه الاتفاقية تكرس حق التنظيم النقابي دون ترخيص مسبق. وتشترط مبادئ منظمة العمل الدولية المستقاة من هذه المادة ليس الغاء الترخيص المسبق فحسب، بل ايضا أن تكون معاملات تسجيل النقابات شديدة الاختصار، حرصا على الا تشكل الزيادة في الشروط والمعاملات عائقا امام ممارسة حق التنظيم النقابي.[v]

والجدير بالذكر أن هذه الاتفاقية هي من بين “اتفاقيات منظمة العمل الدولية الاساسية” التي تتعلق بحقوق الانسان وتعمل منظمة العمل الدولية الى تحفيز جميع الدول الأعضاء الى ابرامها لتحقيق تغطية شاملة لحقوق الانسان في اطار العمل. وقد أجمعت الاجتهادات والدراسات على أهمية الاتفاقية رقم 87 وعلى كونها تشكل ركنا اساسيا من أركان حقوق العمال، ولكن لا يزال لبنان متخلفا منذ العام 1948 عن ابرامها، على خلاف 150 دولة سبق أن أقدمت على هذه الخطوة.

خلاصة، وبالرغم من أهمية القرار الصادر بتاريخ 7-9-2012 عن قاضية الامور المستعجلة في بيروت في قضية صرف اعضاء الهيئة التأسيسية لنقابة العاملين في شركة “سبينس”، ودوره في حماية الحرية النقابية وسد الثغرات القانونية في هذا المجال، إن هذه الحماية تبقى غير كافية ولا سيما أن القرار لم يكتسب بعد صفة الاجتهاد الثابت والمستقر. وبمجمل الاحوال فان الوقت عامل أساسي في مرحلة تأسيس النقابات حيث تكون الضغوط كثيرة على المؤسسين، كما جرى في قضية السبينس حيث شكل صرف رئيس الهيئة التأسيسية عائقا كبيرا أمام عملية تأسيس النقابة الفعلي وقبول طلبات انتساب العمال. ولذلك فان الضمانة الأساسية لصون الحرية النقابية تكمن في الغاء الترخيص المسبق بحيث تكتسب النقابة شرعيتها فور الاعلان عن تأسيسها والابلاغ عنها لدى الدوائر المختصة.
وتكمن الخطوة الأولى نحو تكريس هذه الحماية في بادرة طال انتظارها أكثر من ستين عاما، هي ابرام الاتفاقية رقم 87 تمهيدا لإجراء التعديلات اللازمة على قانون العمل. والجدير بالذكر في هذا المجال أن وزير العمل السابق شربل نحاس كان قدم الى مجلس الوزراء مشروعا بإحالة مشروع قانون معجل الى مجلس النواب يرمي الى الاجازة للحكومة ابرام هذه الاتفاقية، صدر على أساسها المرسوم رقم 8530 بتاريخ 18 يوليو/تموز 2012 باحالة مشروع القانون الى مجلس النواب، ولكن مع تعديل هام هو التحفظ على المادة الثانية من الاتفاقية الخاصة المتصلة بإلغاء شرط الترخيص المسبق. وعدا أن هذا التحفظ يعد عيبا جوهريا طالما أن هذه المادة تشكل الركن الأساسي الذي ترتكز عليه الاتفاقية بأكملها، وأنه لا يمكن التحفظ على اتفاقيات منظمة العمل الدولية عموما، وعلى الاتفاقيات الأساسية خصوصا، فانه يكشف موقف الحكومة اللبنانية التي تظهر وكأنها لا تزال تتمسك بالترخيص المسبق رغم كل تأثيراته السلبية على الطبقة العاملة في لبنان.[vi]

نُشر المقال في العدد السادس من مجلة المفكرة القانونية
[i] الفقرة الاولى من المادة 20 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان.
[ii] المادة 8 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية
[iii] للمزيد من الشرح حول الموازنة بين حرية الصرف والحريات النقابية، يراجع بعض مقتطفاتالاستئناف:
(https://legal-agenda.com/newsarticle.php?id=151&folder=legalnews&lang=ar)
[iv] يراجع على سبيل المثال القرار رقم 132/1 الصادر عن وزير العمل بتاريخ 25-9-2012 والمتعلق بتأسيس “نقابة العاملين في السبينس لبنان”.
[v]D. TajgmanandK. Curtis, “Freedom of association: A User’s Guide – Standards, Principles and Procedures of the International Labour Organization”, International Labour Office, Geneva, 2000.
[vi]W. Paul Gormley, The Modification of Multilateral Conventions by Means of “Negotiated Reservations” and Other “Alternatives”: A Comparative Study of the ILO and Council of Europe–Part One, 39 Fordham L. Rev. 59 (1970). Available at: http://ir.lawnet.fordham.edu/flr/vol39/iss1/2
انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني