المحاكمات العسكرية في مصر: هل قلت عدالة سريعة مؤكدة؟


2016-09-29    |   

المحاكمات العسكرية في مصر: هل قلت عدالة سريعة مؤكدة؟

أرجأت المحكمة العسكرية الحكم في قضية شركة الترسانة البحرية حتى تاريخ 18/10/2016.  وقد اتهم في القضية 26 عاملا منهم 14 ما يزالون محبوسين على ذمة القضية. ويعدّ هذا الارجاء الرابع للنطق بالحكم في الدعوي التي كان سبق حجزها للحكم بتواريخ 2/8/2016، و16/8/2016، ومن ثم 18/9/2016 والتي تقرر فيها الارجاء الأخير. وهو ما يثير تساؤلا حول ما ردده المسؤولون عن القضاء العسكري على مدار السنوات الست الماضية من اعتبار القضاء العسكري أحد محققات الردع العام والخاص مرجعين ذلك لسرعة الفصل في القضايا التي ينظر فيها.

من أمن العقاب أساء الأدب
"من آمن العقاب أساء الأدب"، جملة رددها اللواء مدحت غزي رئيس هيئة القضاء العسكري في معرض حديثه حول أهمية القضاء العسكري في حماية الدولة المصرية من مخاطر الإرهاب أثناء فترة التسعينات من القرن الماضي وذلك في إطار حوار مع الإعلامية لميس الحديدي في 1 ديسمبر 2013،للتأكيد على أن سرعة الفصل في القضايا هي أحد محققات الردع العام والخاص[1] وهو ما يبحث عنه المجتمع طبقا لتعبير اللواء. وهي ذات وجهة النظرالتي عبر عنها النائب الأسبق للهيئة اللواء طه سيد طه، فأشار إلى أن العقاب السريع يعني تحقيق الردع العام، حتى يتذكر المجتمع الجريمة وهوية المرتكب والعقاب الذي ناله من جرّاء ارتكابها، عكس الحال حين تصدر الأحكام بعد 5 سنوات من حصول الجريمة. ومن هنا أثنى طهَ على شعار القضاء العسكري "عدالة سريعة مؤكدة" وضرب مثلا على ذلك بأن القضية التي تحتاج إلى 100 ساعة حتى تنظر قد تستغرق في القضاء العادي 3 إلى 4 سنوات. أما في القضاء العسكري فلن تستغرق سوى شهر أو شهرين.[2]
وتعليقا على توسع القضاء العسكري في محاكمة المدنيين عسكريا، ذكر اللواء غزي عدد المحالين أمام القضاء العسكري خلال عامي 2009 و2010 كدلالة على محدودية أعداد المدنيين المحالين للمحاكمة أمام القضاء العسكري وهم 724 متهماً مدنياً منهم 128 متهماً في قضايا تزوير للتخلص من الخدمة العسكرية. وهذا الأمر يجعل عدد من تمّ محاكمتهم أمام المحاكم العسكرية 596 مدنياً فقط عن قضايا لها علاقة بالاعتداء على منشئات ومعدات وأفراد القوات المسلحة خلال عامين كاملين.
وبعد مرور أكثر من عامين على تطبيق الدستور الذي أجاز محاكمة المدنيين عسكريا في القضايا المتعلقة بمنشآت وأفراد القوات المسلحة، وكذلك مرور عامين على تطبيق قانون تأمين وحماية المنشآت العام، يمكن الوقوف لتقييم دور القضاء العسكري واختبار شعاره (عدالة، سريعة، مؤكدة)، ومدى فاعليته بعد تطبيقه على مدى العاميين المنقضيين.

التوسع القانوني في استخدام القضاء العسكري
لم يعد الوضع كما هو من قبل بعدما نص الدستور المصري المعدل الصادر في يناير 2014 على جواز محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية. فقد أصدر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في 27 أكتوبر 2014، قرارًا بقانوننص على أن "تتولى القوات المسلحة معاونة أجهزة الشرطة والتنسيق الكامل معها في تأمين وحماية المنشآت العامة والحيوية، بما في ذلك محطات وشبكات أبراج الكهرباء وخطوط الغاز وحقول البترول وخطوط السكك الحديدية وشبكات الطرق والكباري وغيرها من المنشآت والمرافقوالممتلكات العامة وما يدخل في حكمها، وتعدّ هذه المنشآت في حكم المنشآت العسكرية طوال فترة التأمين والحماية"[3].
وأخضع هذا القرار بقانون الجرائم التي تقع على هذه المنشآت والمرافق والممتلكات العامة لاختصاص القضاء العسكري، وألزم النيابة العامة بإحالة القضايا المتعلقة بهذه الجرائم إلى النيابة العسكرية المختصة.[4]
وهو القرار بقانون الذي ترتب عليه التوسع المبالغ فيه في إحالة المدنيين الى المحاكم العسكرية. يكفي أن نرصد عدد المحالين للمحاكمة أمام القضاء العسكري من خلال الصحف اليومية بمحافظة المنيا[5] حيث نظر القضاء العسكري في الفترة من 17 إلى 21 من الشهر الجاري، في قضايا يحاكم بها 898 مدنياً[6]. وهو رقم يجاوز أعداد المدنيين المحالين للقضاء العسكري بكافة انحاء البلاد خلال عامي 2009 و2010.
وطبقا لتقرير أصدرته مؤسسة حرية الفكر والتعبير في فبراير/شباط الماضي، وصل عدد طلاب الجامعات الذين تمت محاكمتهم أمام القضاء العسكري إلى 46 طالباً[7].
ومن جانبها، رصدت مجموعة "لا للمحاكمات العسكرية للمدنيين" 3000 حالة، منها 300 طالبا و22 فتاة. غير القضايا التي لم تستطع الجهات ذات الاهتمام الوصول إليها، طبقا لتقرير المجموعة والذي أعلنت عنه في مؤتمر صحفي عقد في مارس 2015[8] أي وذلك عن الفترة من 27-10-2014 وحتى صدور التقرير أي بعد خمسة أشهر فقط من تطبيق قانون تأمين وحماية المنشآت العامة.
وتعدّ هذه الأعداد أكبر دليل على عدم صحة ما ردده رئيس هيئة القضاء العسكري ونائبه الأسبق من محدودية أعداد المدنيين المحالين للقضاء العسكري.

تنفيذ أحكام الإعدام بوتيرة متسارعة
لم يتوقف الأمر على التوسع في إحالة المدنيين إلى المحاكمات العسكرية بعد 30 يونية على النحو سابق الذكر. ولكن امتدّ الأمر ليشمل إصدار وتنفيذ أحكام الإعدام في حق المدنيين، بأعداد تفوق القضاء العادي. وفيما يصعب الحصول على مجموع المحكوم عليهم بالإعدام من هذه المحكمة، نكتفي هنا بذكر قضيتين تدلان على عمق المشكلة:  
الأولى تمثلت في الحكم بإعدام ستة شباب في الجناية رقم 43 لسنة 2014 جنايات عسكرية شرق القاهرة، والمعروفة إعلاميًا باسم "عرب شركس"، حيث اتهم فيها ثمانية أفراد بتدبير عدة هجمات مسلحة على أفراد وأهداف عسكريين وانتهت حصيلتها إلى مصرع تسعة من ضباط وجنود الجيش، وصدر الحكم في 21/ 10/2014[9] وتم تنفيذ الحكم بعد التصديق عليه.
الثانية تمثلت في قضية الخلية النوعية المتقدمة. وقد صدر الحكم فيها بعد أقلّ من عام وتحديداً في شهر مايو 2015، بإعدام 8 أشخاص[10]. وكان تم الإعلان عن القضية في يوليو 2015 بمقطع مصور بثته وزارة الدفاع وتضمن ما زعمت أنه اعترافات لعدد من المتهمين -وصفهم المقطع بـ «أخطر خلية إرهابية تهدد الأمن القومي»- بارتكاب جرائم ضمن مخطط استهدف القيام بأعمال عنف ضد منشآت عسكرية واغتيال شخصيات عسكرية عبر خلايا "نوعية" لجماعة الإخوان. وقد شغلت هذه القضية الرأي العام بشكل كبير حيث تعرّض بعض المتهمين للاختفاء القسري لفترات متباينة قبل ظهورهم في هذه المقاطع المصورة، بالإضافة إلى أن أحكام الإعدام صادرة على اتهامات بالتخطيط لتنفيذ اعمال عنف، ولم يتم توجه أي تهمه سوي التخطيط لكافة المتهمين وبالفعل تمت المصادقة على هذا الحكم وينتظر تنفيذه بين عشية وضحاها.
وفيما يصح أن بعض محاكم القضاء العادي أصدر عدداً كبيراً من أحكام الإعدام في قضايا مختلفة (أحالت محاكم جنايات بعد 30 يونية 2013 أوراق 1707 متهم في 23 قضية للمفتي)[11]، فإنه لم يتصل إلى علمنا إلا تنفيذ حكم واحد أيدته محكمة النقض في حق أحد المعارضين بعد 30 يونية وهو محمود رمضان المتهم بإلقاء الأطفال من أعلى بناية بالإسكندرية[12].

إرجاء النطق بالحكم كمنهج للتعامل مع قضايا الرأي العام … وأكذوبة العدالة السريعة
لم يكن إرجاء النطق بالحكم في قضية عمال الترسانة البحرية للمرة الرابعة هي الحالة الأولى التي تؤجل فيها المحكمة العسكرية النطق بأحكام. فهو نفس ما حصل مع قضية الخلية النوعية التي تقدمت الإشارة إليها، حيث تمّ حجز هذه القضية للحكم للمرة الأولى في 13 مارس ثم أرجئ الفصل فيها للمرة الثانية إلى جلسة 3 أبريل، وللمرة الثالثة إلى جلسة 24 أبريل. ولم يصدر الحكم إلا في الجلسة الرابعة بتاريخ 29 مايو 2016
ويبدو أن ما قام به القضاء العسكري في هاتين الدعويين يعكس منهجاً جديداً للتعامل مع قضايا الرأي العامّ حيث يسعى إلى إطالة أمد التقاضي حتى يخبو الإهتمام الإعلامي حول القضايا المنظورة، ثم يصدر أحكامه بعد أن تكون مجمل حملات المناصرة للمتهمين أمامه هدأت تماما، واتجه الاهتمام بشأنها في اتجاه أمر آخر.
وبالنظر إلى قضيةعمال الترسانة البحرية، سنجد أنها شغلت الرأي العام، حيث يحاكم بموجبها عمال يحاكمون على خلفية مطالبتهم بحقوقهم المالية المهدرة. وكذلك الأمر في قضية الخلية النوعية المتقدمة حيث حوكم فيها شابٌ ليس له أيّ نشاط سياسيّ، فتم القبض عليه اثناء تناوله للعشاء مع بعض الاصدقاء مما حدي بذويه التي تدشين حملة لأطلاق سراحه تحت عنوان "الحرية للي مالوش فيها[13]"، كما أن معظمهم تعرّض للإختفاء القسري لفترات متباينة ممّا أوجد رأياً عامّاً مناصراً للمتهمين، يطالب بمحاكمتهم أمام القضاء الطبيعي. وهو ما جعل المحكمة تسلك نفس السلوك الذي تسلكه الآن مع عمال الترسانة البحرية وهو مدّ أجل النطق بالحكم، فإذا هدأ الإهتمام الإعلامي، تصدر أحكاماً مشددة بحقهم، وهو ما نخشى حدوثه مع عمال الترسانة البحرية.
وتجدر الإشارة هنا أن قيام المحكمة العسكرية في إرجاء النطق بالحكم لأكثر من ثلاث مرات، هو أمر مخالف لقانون المرافعات المصري والذي نظم سلطة المحكمة فيما يتعلق بحجز الدعاوي للحكم وقرر أنه "إذا اقتضت الحال تأجيل إصدار الحكم مرة ثانية صرحت المحكمة بذلك في الجلسة مع تعيين اليوم الذي يكون فيه النطق به وبيان أسباب التأجيل في ورقة الجلسة وفي المحضر، ولا يجوز لها تأجيل إصدار الحكم بعدئذ إلا مرة واحدة".[14]

محاكمات بأثر رجعي
بتاريخ 12-8-2014، وقبل اصدار القرار بقانون الخاص بتأمين وحماية المنشآت العامة في أكتوبر 2014، تم إلقاء القبض على أحد الأطفال القصر من أمام منزله بمحافظة المنوفية وتم اقتياده إلى مركز الشرطة وحرر محضر بالواقعة. وفي اليوم التالي، تمّ عرضه على نيابة الجزئية ووجهت له ولآخرين تهم (الإنضمام إلى جماعة محظورة، التجمهر، التظاهر بدون إخطار، استعمال القوة والعنف والتلويح بهما، الصياح بعبارات معادية للقوات المسلحة، تخريب ممتلكات عامة). وقررت النيابة العامة استمرار حبسه وباقي المتهمين. وفي وقت لاحق قررت نيابة الاستئناف إحالة القضية إلي نيابة شمال القاهرة العسكرية إعمالا للقرار بقانون الخاص بتأمين وحماية المنشآت العامة. وبتاريخ 30-11-2014، قررت النيابة العسكرية إحالة نجل الطاعن وآخرين إلى المحكمة العسكرية للجنايات وقيدت القضية تحت رقم 319/2014 جنايات شمال القاهرة، وحكم فيها على القاصر بالسجن خمسة عشر عاماً.
لم تكن حالة هذا الطفل هي الحالة الوحيدة التي خالف فيها القضاء العسكري قواعد الاختصاص وقام بتطبيق القوانين بأثر رجعي، فكافة الخاضعين للمحاكمة العسكرية بمحافظة المنيا والسابق الإشارة إليهم ويقدر عددهم بالمئات، قد تم احالتهم عن وقائع ارتكبت قبل العمل بقانون تأمين وحماية المنشآت العامة بفترات تجاوزت العام. فمعظمهم يحاكم عن جرائم ارتكبت إبان فض رابعة في أغسطس 2013 في حين أن القانون صدر في أكتوبر 2014.
يعد قبول النيابة العسكرية التصدّي لهذه الدعاوى مخالفة جسيمة لأحكام الدستور. فقد نصت المادة 95 على أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون. وفيما بالإمكان تفهّم أخطاء النيابة العامة والعسكرية في تنفيذ أحكام القانون، فإنّه لا يمكن تمرير مخالفة منصّة القضاء لأحكام الدستور وسقوطه في هذه الأخطاء الإجرائية التي تهدر أحكامه.
وبذلك، يدحض واقع القضايا المشار إليها أعلاه مجمل الشعارات التي سوّق لها الجنرالات بشأن القضاء العسكري. فأنى نحن من (العدالة السريعة المؤكدة)؟

 


[1] https://www.youtube.com/watch?v=_1GY2CuUNQM
[2] موقع بوابو العاصمة، 14-8-2015.
[3] نص المادة الأولي من القرار بقانون رقم 136 لسنة 2014 بشأن تامين وحماية المنشآت العامة
[4] المادة الثانية من القرار بقانون رقم 136 لسنة 2014 بشأن تامين وحماية المنشآت العامة
[5] تقع محافظة المنيا شمال الصعيد وتبعد عن القاهرة حوالي 500 كيلو متر
[7] تعليق قانوني وحصر بالحالات: محاكمة الطلاب عسكريًا إهدار لضمانات المحاكمة العادلة صادر عن مؤسسة حرية الفكر والتعبير http://tinyurl.com/hqu28m2
[8]المؤتمر الرابع لـ"لا للمحاكمات العسكرية": ٣٠٠٠ حالة في ٥ شهور   http://tinyurl.com/h35n2qv
[9]موقع اليوم السابع انفراد.. ننشر أوراق الحكم بالإعدام على المتهمين في قضية "عرب شركس"http://tinyurl.com/hwbmldn
[10] القضية 174 لسنة 2015 غرب عسكرية والمعروفة اعلاميا بالخلية النوعية المتقدمة
[11] تقرير موقع مصر العربية "تعرف على أهم أحكام الإعدام الصادرة منذ الثالث من يوليو"http://tinyurl.com/z59dyr2
[12] تغطية مصر العربية لإعدام محمود رمضان المتهم بإلقاء أطفال من أعلى عقار في الإسكندريةhttp://tinyurl.com/gwwx8ro
[13] صفحة الحرية للي مالوش فيها للمطالبة بالأفراج عن احد المتهمين https://www.facebook.com/FreeOmarMohamedAli/?fref=ts
[14] المادة 172 من قانون المرافعات المدنية والتجارية رقم 13 لسنة 1968 
انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكمة عادلة وتعذيب ، مقالات ، مصر



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني