الحكم على الهويّة في محكمة جنايات بيروت: المثليّة والخصوصيّة ورهاب محكمة النظام لهما


2016-09-14    |   

الحكم على الهويّة في محكمة جنايات بيروت: المثليّة والخصوصيّة ورهاب محكمة النظام لهما

« Je sais qu’il faut supporter le regard des autres, leur mépris, leur méchanceté, ou tout simplement leur science face à notre supposée ignorance, leur solidité devant nos prétendus égarements, leur rigueur contre notre immoralité, leur vertu contre notre perversion. Je sais qu’il faut composer avec le rejet de ceux vers qui on se sent le plus porté, l’effusion qu’on donne et qui n’est pas rendue. »
– Philippe BESSON in ‘En l’absence des hommes’

 

تخيّلوا تلقيكم خبر مقتل صديقكم الذي كنتم تتعشون معه البارحة… وتخيّلوا أنكم في سياق التحقيقات الأوليّة بمقتل صديقكم هذا، تفوّهتم سهواً بأنكم كنتم وإياه تنتمون الى بيئة المثليين الإجتماعية نفسها، أيّ أن ميلكم الجنسيّ هو ميل المغدور ذاته: أنكم تنجذبون مثله إلى أشخاص من الجنس نفسه. فتتحوّل شهادتكم إذ ذاك الى “إعتراف” ضمن تحقيقٍ رسميّ يؤدّي إلى مداعاتكم من قبل النيابة العامة بالجرم المنصوص عنه في المادة 534 من قانون العقوبات اللبناني، أي جرم الـ”مجامعة على خلاف الطبيعة”… لا بل لا تجد النيابة العامة حرجاً، ولا قاضي التحقيق ولا الهيئة الإتهامية ولا حتى محكمة الجنايات من بعدهم، في إعتبار جناية القتل والجنحة المنصوص عليها في المادة 534 (المعاقب عليها حتى سنة، لا أكثر) متلازمتين، فتحيل المتهم بالقتل والمدعى عليهم بالمثلية ليحاكموا في إطار الدعوى نفسها أمام محكمة الجنايات.
لا علاقة لكم بمقتل صديقكم… أنتم شهودٌ فقط، تناولتم معه العشاء ليلة مقتله. لكن، بسبب تفوّهكم سهواً بتلك المعلومات الخاصّة بكم خلال التحقيقات، إرتأت النيابة العامة وكلٌّ من القضاة الذين لحقوا بها أنهم أهلٌ بملاحقتكم ومحاكمتكم بناءً عليها. الآن، تخيّلوا أنكم تقفون ملوّعين إزاء مقتل صديقكم، ليس أمام قاضٍ واحد وكاتبه، إنما أمام أربعة قضاةٍ وحرّاسهم وكاتبي محكمة الجنايات وعشرات المحامين، تُسألون علانيةً: “مع من تمارسون الجنس؟”، و”هل أنتم لواط؟”. هذا الأمر ليس إستنساخاً لـ”المحاكمة” كما كتبها فرانز كافكا، وهو ليس سرداً لمحاكمة أوسكار وايلد في نهاية القرن ما قبل الماضي. هذا الأمر حقيقةٌ تبلورت في منتصف هذا العام، بكامل فجاجتها، على خشبة مسرح القضاء، واختُتمت أمام محكمة الجنايات في بيروت برئاسة القاضية هيلانة إسكندر والمستشارين هاني عبد المنعم الحجّار وألبير قيومجي(منتدب)، في مشهدٍ مفعم بالآراء المسبقة.
بتاريخ 07/06/2016، أصدرت محكمة الجنايات في بيروت قراراً أدانت به خمس شبابٍ بالجنحة المنصوص عنها في المادة 534 من قانون العقوبات، بالتلازم مع إدانة قتلة صديقهم. ولهذه الغاية، لم تتوانَ المحكمة عن أداء دور حارس النظام البطريركي القائم، تماماً كما فعلت في حكمها الصادر في قضية مقتل  منال العاصي بعد شهر من ذلك التاريخ[1]، غير آبهةٍ على الإطلاق بتطوّر علم النفس وتطوّر المجتمع اللبنانيّ وتطوّر الموقف الرسميّ للدولة اللبنانية، معلنةً أنه “يقتضي إعتبار أن العلاقة المثلية هي علاقة مخالفة للطبيعة وفقاً للمعايير المقبولة في المجتمع اللبناني بإعتبار أن العلاقات الجنسية الطبيعية في مجتمعنا هي تلك التي تكون بين المرأة والرجل وليس بين أفرادٍ من جنسٍ واحد”. بذلك، ومن دون الإرتكاز على أيّ معيارٍ علميّ أو طبيّ أو إجتماعيّ لتحديد ما هي الـ”طبيعة” وما هي “العلاقات الطبيعية”، وبالتالي ما هو مخالفٌ لها، بل بمجرد الإكتفاء بصياغةٍ حيثيةٍ على هذا النحو في غياب أيّ فعلٍ مقترفٍ مثبتٍ وكأنما الأمر هو من البديهيات، أمكن القول بأن قرار محكمة الجنايات هذا يشكّل حكماً على الهوية الجنسيّة البحتة، وبالتالي، قد يكون نموذجاً للرأي المسبق البعيد كلّ البعد عن أيّ فكرٍ علميّ أو قانونيّ أو إجتماعيّ، وعن واقع الطبيعة بحدّ ذاتها.
من أجل بلوغ تلك النتيجة التي تعيد إنتاج الخطاب المعياريّ على أساس الغيريّة الجنسيّة (heteronormative discourse)، إرتكبت محكمة النظام مخالفات على أصعدةٍ أربعةٍ أساسيّةٍ، هي الآتية:

المحكمة تخالف المعاهدات الدولية المُبرمة
قد يكون من أكثر مفاعيل هذا الحكم خطورة، نصّه على عدم جواز “الأخذ بالمفعول الآني (effet direct) لأحكام المعاهدات الدولية في حال تعارضها مع أحكام القانون الداخلي العادي بالرغم من التسليم بمبدأ تسلسل القواعد القانونية”. بمعنى آخر، إعتبرت المحكمة أنه لا يحق للمتقاضي التذرّع مباشرةً أمامها بالحقوق المنصوص عنها في المعاهدات الدولية في حال تعارضها مع القانون الداخليّ، بل يتوجب على “الدولة التي إرتبطت بمعاهدة دولية [أن تعدّل هي] نصوص القانون الوضعيّ الداخليّ لكي تتلاءم مع المعاهدات الدولية التي التزمت بها”. وفي حين يلغي ذلك عملياً شقّاً هامّاً من دور القاضي الإجتماعيّ ومن وظيفته المؤسساتية في أقلمة القوانين الداخلية مع المعاهدات الدولية، وهي إشكاليةٌ سوف نعود إليها تفصيلياً أدناه، فهو أيضاً يتجاهل قسماً أساسياً من الفقه ذاته الذي استرشدت به محكمة الجنايات، لا بل يتعارض معه.

إن الفقه المتخصّص بالقانون الدوليّ يميّز بين المعاهدات الدولية التي لا تتمتّع بمفعولٍ آنيّ وتلك التي تكون نافذة بحدّ ذاتها (self-executing)[2]، أيّ تلك التي يستطيع للمتقاضي أن يتذرّع بها مباشرةً أمام المحاكم. لكي تتمتع المعاهدة بمفعولٍ آنيّ، يقتضي توفّر شرطين: الأول أن تؤول نيّة المشرّع الدولي الى إنشاء حقوق مباشرة للأفراد، والثاني أن تكون صياغة المعاهدة أو بعض بنودها واضحة وغير مرتبطة بأيّ آليةٍ تنفيذيّةٍ تقع على عاتق الدولة الموقّعة عليها[3]. في الحالة الراهنة، استبعدت محكمة الجنايات فرضية “المفعول الآني”، لا سيما للمواد 2 و17 و26 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، متذرعةً بما نصّت عليه المادة 2 من هذا العهد (الذي صدّق عليه لبنان سنة 1976) لناحية إلزام الدول الأطراف بإتخاذ التدابير اللازمة لإعمال الحقوق المنصوص عليها في العهد. ولكن، من المسلّم به فقهاً أنه على الرغم من وجود موجباتٍ مماثلةٍ على الدول الأطراف، فإن البنود التي يكون نصّها واضحاً والغرض المرجو منها هو إنشاء حقٍّ إنسانيً أو حقٍّ أساسيّ تتمتع حتماً بمفعولٍ آنيّ، ويحقّ تالياً للمتقاضي التذرّع بها مباشرةً أمام المحاكم[4]. وقد أجمع الإجتهاد والفقه في القانون المقارن على اعتبار كافة بنود العهد الدوليّ الخاصّ بالحقوق المدنية والسياسية تحديداً، تتمتع بهذا المفعول[5]. وعند العودة إلى البنود التي استخدمها المدّعى عليهم أمام محكمة الجنايات، وهي بشكلٍ أساسيّ بنود العهد الدوليّ المذكور، يتضح أنها أتت بشكلٍ واضحٍ وعامٍ ومطلق. يُستَشف ذلك من الأسلوب اللغوي للمادة 17 من العهد المذكور (التي تكرّس الحقّ بالخصوصيّة)، حيث جاء أنه “لا يجوز تعريض أيّ شخصٍ لـ…” و”من حقّ كلّ شخصٍ أن…”. الأسلوب عينه نجده في المادة 26 من العهد ذاته (التي تكرّس مبدأ المساواة)، حيث جاء: “الناس جميعاً سواءٌ أمام القانون، ويتمتعون دون أيّ تمييز بحقّ متساو في التمتع بحمايته…”. تلك البنود لا تتوجه إلى الدول الأطراف فحسب، وإنما تكرّس حقوقاً أساسية بوجه الجميع، من دون أن تعلّق فعاليّة تلك الحقوق بأية آلية تنفيذية معينة. ويُشار هنا إلى أن القضاء اللبنانيّ قد إستعان بها مراراً، حتى في النزاعات الخاصة بين الأفراد[6].

في هذا السياق، لاحظت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة أن “التمتّع بالحقوق المعترف بها في العهد يمكن أن تكفله بشكلٍ فعّال السلطة القضائية [ذاتها] بعدّة طرق مختلفة، من بينها إمكانية تطبيق أحكام العهد تطبيقاً مباشراً، أو تطبيق ما يماثلها من أحكام دستورية أو غيرها من أحكام القانون، أو ما لأحكام العهد من أثر تفسيري في تطبيق أحكام القانون الوطني”[7]. وفيما إستبعدت محكمة الجنايات هنا هذه الفرضية كلياً، حاجبةً بالتالي دور القاضي في هذا المجال، يُلاحظ عدم تردّد بعض القضاة اللبنانيّين أمام إستخدام نصوص المعاهدات الدولية لتفسير النصوص الداخلية المبهمة أو تلك التي تحمل تأويلاً، من دون إلغاء مفعول هذه النصوص. وهذا تحديداً ما قام به القاضي المنفرد الجزائي في المتن (الرئيس هشام القنطار) لدى إسهابه في تحديد “الطبيعة” المُشار إليها في المادة 534 من قانون العقوبات وتفسيرها، بحيث إسترشد بالمبادئ المكرّسة من قبل منظمة الأمم المتحدة لاستبعاد تطبيق هذه المادة على المثليين من دون إلغاء مفعولها[8].

من جهة أخرى، للتملص من مفاعيل العهد الدولي، أدلت محكمة الجناياتً بأن ما ورد في العهد “لجهة حق كلّ إنسان بالتمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة فيه دون تمييزٍ بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين إلخ.، لا يعني تشريع العلاقات المثلية لأن كلمة الجنس تعني الرجل والمرأة ولا تعني الميول الجنسية لكلّ منهما”. وهذا القول مردودٌ أيضاً، فالعهد لم يقتصر على تعداد فئات معينة (أيّ العرق واللون والجنس إلخ.)، إنما فتح الباب لضمّ فئات أخرى لم يذكرها صراحةً، من خلال إيراد عبارة “وغير ذلك من الأسباب” (other status).وقد هدف العهد من ذلك إلى إتّباع نهجٍ مرنٍ في معالجة أشكال أخرى من المعاملة التفاضلية التي قد تنشأ مع تطوّر التمييز بمرور الزمن[9]. وقد أكّد المجلس الإقتصاديّ والإجتماعيّ في الأمم المتحدة سنة 2009 أن عبارة “غير ذلك من الأسباب” تشمل “الميل الجنسي” ضمناً[10].

المحكمة تخالف المادة 534 وتصدر حكماً على الهوية
إعتبرت محكمة الجنايات أن فعل المجامعة على خلاف الطبيعة ثابتٌ بحقّ المدعى عليهم، مستندةً بذلك على إقرار هؤلاء خلال التحقيق الأوليّ بكونهم مثليّي الجنس، ولإدلاء أحدهم أمامها بأنه “يؤيد الحرية الشخصية طالما أنها لا تتعدى على حرية الآخرين”، فضلاً عن تطابق إفادات المدعى عليهم “مع ما ورد في تقرير الطبيب الشرعي الدكتور كومبجيان عند كشفه على جثة المغدور بأنه ظهرت عليه معالم تتطابق مع معالم ’لواط مزمن‘”.
إذاً، بمعنى آخر، اعتبرت المحكمة أن لا حاجة على الإطلاق لأن يتوفر عنصر “المجامعة” المنصوص عليه في المادة 534 من قانون العقوبات لتطبيق هذه المادة. فالإقرار بالمثليّة الجنسيّة وحده يكفي، ولا حاجة بعد ذلك للتثبّت من أيّ مجامعةٍ حصلت في مكانٍ وزمانٍ معينين، كما لا حاجة للتثبّت من وجود شخصٍ ثانٍ في هذه المجامعة (مع التذكير بأن المجامعة تفترض وجود شخصين على الأقل). وقد خرجت بذلك المحكمة عن أصول عملها في إثبات الجرائم الأخرى، إذ تحكم على شخصٍ لمجرد أنه قال أنه مثليّ أو أقام علاقات مثليّة، فيما أن إفادة شخصٍ ما أنه قاتل أو سارق لا تفيد شيئاً ما لم تثبت واقعة القتل أو السرقة، ويحدّد زمانها ومكانها.

لا بل اعتبرت المحكمة أن تأييد الحرية الشخصية هو إحدى القرائن على ارتكاب المجامعة على خلاف الطبيعة، وكأنما الإيمان بالحرية الشخصية (وهو من بديهيات التفكير الحقوقي) هو بنظر المحكمة إثباتٌ هامٌّ على ارتكاب كلّ ما تحرّمه القوانين المقيّدة لهذه الحرية (فحذار من مؤيدي الحرية الشخصية). كما أن المحكمة لم تجد حرجاً على الإطلاق في استنباط اثباتاتها من الفحوصات الشرجية (فحوصات العار) التي جرت على جثة القتيل لتكوين قناعتها، مع التذكير بأن تلك الفحوصات غير معترفٍ بها علمياً لعدم مصداقيتها، وبأن إستخدامها في لبنان كوسيلة إثبات قد حُظر منذ العام 2012[11].

ممّا تقدّم، يتضح جلياً أن محكمة الجنايات توصّلت إلى إدانة المدّعى عليهم ليس على أساس إثباتات وإنما على أساس ثلاثة افتراضات ليس من شأنها أن تشكّل إثباتاً على إرتكاب أيّ من الأفعال المذكورة في المادة 534. وقد بدت في ذلك وكأنها تستنبط من مجموعة آراءٍ مسبقة عناصر جريمة لم تحصل، أو على الأقل لا يتوفّر عليها أيّ إثباتٍ في الملف.

وبذلك، تكون المحكمة قد خالفت نص المادة 534 بشكلٍ واضح، وذلك حتى لو سلّمنا جدلاً بأنه يُعنى بالمثليّة. وبإمكاننا القول أن إدانة المدعى عليهم على أساس هويتهم الجنسية من دون تقديم أي إثباتٍ على حصول مجامعة، يؤدي إلى إدانتهم بجرم لم تنص عليه المادة 534 (حتى ولو افترضنا أن المجامعة بين مثليين تشكل مجامعة خلافا للطبيعة)، بل لم يرد عليه أي نص. وعليه، فإن موقفها هذا يشكّل مخالفة لمبدأ “لا جريمة من دون نص”. ومن الهام الإشارة هنا إلى أن هيئة التشريع والإستشارات في وزارة العدل اعتبرت منذ خمسين عاماً (أيّ سنة 1966)، أن “من مبادئ القانون الجزائيّ أن المشرّع لا يعاقب على حالاتٍ نفسيةٍ أو جسديةٍ أو صحيةٍ أو ماليةٍ، بل يعاقب على أفعالٍ معينة إذا ما جرى إقترافها”. كما اعتبرت أن مردّ نصّ المادة 534 من قانون العقوبات يفيد بأن “المشرع الجزائي لا يهتم بما يخالج نفوس الناس بل يهتم فقط بما يقدمون عليه وذلك لأن التحري عن حالة ما من حالات الشخص يتضمن خرقاً لأبسط الضمانات التي يجب أن ترافق الحرية الشخصية. وخلاصة القول أنه إذا كان المرء مسؤولاً عن أعماله، فإنه لا يمكن أن يكون مسؤولاً عمّا يفكر أو عمّا يشعر”[12].

المحكمة تخالف أخلاقيات الوظيفة
بناءً على ما تقدّم، يتبيّن أن محكمة الجنايات انطلقت من أفكارٍ مسبقة لإدانة المثليّة الجنسيّة، قبل تحليل الواقع ومن دون تمحيص القانون. ويُستشف ذلك أولاً عبر العودة إلى وسائل الإثبات التي إستعانت بها لتكوين قناعتها، والتي لا تعدو عن كونها آراءً مسبقة، مثلما تبيّن أعلاه.

كما تخلل الحكم عددٌ من الأحكام الأخلاقيّة على المثليّين عموماً في غياب أيّ أساسٍ علميّ، وعلى نحوٍ يخرج تماماً عن أيّ نقاشٍ في القانون. فمن ناحية، اعتبرت المحكمة أن “العلاقات الجنسيّة الطبيعيّة في مجتمعنا هي تلك التي تكون بين المرأة والرجل وليس بين أفرادٍ من جنسٍ واحد”. ومن ناحيةٍ أخرى، أكّدت أن البلاد التي “شرّعت العلاقات المثلية والزواج بين المثليين” ما كانت لتفعل ذلك “لو كانت تعتبر هذه العلاقات طبيعيّة”. فبدت المحكمة هنا وكأنها تخلط بين إلغاء تجريم المثلية من قبل دولٍ كثيرة ووضع قوانين لتشريع الزواج بين المثليين، في موقفٍ آخر لها تحجب فيه الآراء المسبقة مجمل التفاصيل.

هذه الأمور مجتمعة هي خير دليلٍ على توجّه المحكمة الى إدانة هوية المثليّة الجنسيّة تحديداً، وليس فقط فعل المجامعة على خلاف الطبيعة (مهما كان فهمنا له). وبالتالي، بالإمكان التساؤل عن مدى إنسجام هذا الحكم مع شرعة أخلاقيات القضاء المنشورة سنة 2005 لناحية أن “لا عدالة حيث ينطلق القاضي من الأفكار المسبقة قبل تحليل الوقائع وتمحيص القانون”[13]. وربما، يجيز ذلك من الآن فصاعداً طلب تنحّي أعضاء هذه المحكمة عن أيّ ملفٍ يتعلّق بالمادة 534 من قانون العقوبات قد يُعرض عليهم مستقبلاً.

المحكمة تحدّ دور القاضي
على عكس ما قام به القضاة المنفردون في البترون والمتن في 2009 و2014 و2016 لجهة إصدار أحكامٍ رائدة آلت الى إستبعاد تطبيق المادة 534 على العلاقات المثلية[14] – وهو أمر تباهت به الدولة اللبنانية في موقفها الرسمي أمام الأمم المتحدة للقول بأنها تحترم حقوق المثليين[15] –، عادت محكمة الجنايات هنا وحجّمت دور القاضي الوظيفي والإجتماعي جاعلة منه منفذاً للقانون وعملياً شاهد زور على ما قد يحتويه من مظالم. وهو أمر يتماشى تماماً للأسف مع موقف مجلس القضاء الأعلى تبعاً للندوة التي نظمها “المركز الكاثوليكي للإعلام” تحت عنوان “الشذوذ الجنسيّ”، قبل بضعة أيام فقط من إصدار المحكمة لحكمها[16]. مفاد الرسالة واضحٌ: لا يحقّ للقاضي التفسير بشكلٍ يؤدّي إلى توسيع أو تضييق النصوص القانونيّة الجزائيّة وإلّا إعتبر معتدياً بذلك على الإختصاص التشريعيّ للمجلس النيابيّ.

هذه النظرة التقليدية للوظيفة القضائية تتعارض تماماً مع مفهوم دور القاضي الحديث في البيئة الإجتماعية التي ينتمي إليها، حيث لم تعد القاعدة القانونية تسبق القاضي، إنما غدت مُنتجاً لتطبيقه لها[17]. ويتجلى هذا الدور بشكلٍ خاص في القضايا ذات الأبعاد الإجتماعية المماثلة للقضية الراهنة، ما دفع بلجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان إلى إعتبار السلطة القضائية (كإحدى عناصر الدولة) تكفل التمتّع الفعّال بالحقوق المعترف بها في العهد من دون الحاجة إلى تدخّلٍ من المشترع[18].

أخيراً، أودّ الإشارة إلى أن وكيل أحد المحكوم عليهم على أساس المادة 534 تقدّم بطعنٍ أمام محكمة التمييز بتاريخ 18-8-2016، طالباً منها فسخ قرار محكمة الجنايات المذكور، على أمل أن تتصدى المحكمة العليا للتعدّي الفادح الذي تم إقترافه بحق العدالة.
نشرت هذه المقالة في العدد |42|آب/أغسطس 2016، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه :

وزير يتمرّد على قرارٍ قضائيّ: هذا المطار لي

 

 

 


[1]نزار صاغية، “قراءة نقديّة لحكم منال عاصي: شرف قبضاي الحيّ“، مجلة المفكرة القانونية، العدد 41، آب 2016.
[2]يراجع: Nguyen Quoc Dinh, Droit International Public, 5e édition, L.G.D.G.؛ وهو المرجع الفقهي الوحيد الذي إسترشدت به محكمة الجنايات في هذا الملف.
[3]Frédéric Sudre, Droit européen et international des droits de l’homme, 10e éd., PUF, janv. 2011
[4]Jean-François LACHAUME, Droit international et juridiction judiciaire, Rép. Dr. Int., Dalloz, 2013
[5]Frédéric Sudre, op. cit.
[6]كريم نمور، “نظرية الـDrittwirkungلحماية الحقوق والحريات الأساسية في القطاع الخاص“، العدد الثالث عشر من مجلة “المفكرة القانونية”.
[7]اللجنة المعنية بحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، الدورة الثمانون، التعليق العام رقم 31، طبيعة الالتزام القانوني العام المفروض على الدول الأطراف في العهد، إعتُمد في 29/03/2004.
[8]لمى كرامة، “المادة 534 سقطت: المثليّة الجنسيّة ليست ’مخالفة للطبيع‘“، العدد 39 من مجلة “المفكرة القانونية”.
[9]لجنة الأمم المتحدة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التعليق العام رقم 20، الدورة الثانية والأربعون، أيار 2009.
[10]المرجع نفسه.
[12]هيئة التشريع والإستشارات في وزارة العدل، إستشارة رقم /312ر1966/ تاريخ 01/08/2016.
[13]يُراجع في السياق نفسه ما نشرته مجلة “المفكرة القانونية” في عددها 40 لشهر تموز 2016 تحت عنوان: “القاضي والآراء الاجتماعية المسبقة“.
[14]ل. كرامه، مذكور أعلاه.
[15]كلمة القاضية نازك الخطيب، ممثلة الدولة اللبنانية في إطار الإستعراض الدوري الشامل أمام مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة، 2015.
[16]يراجع “ماذا عن دور القضاء في حماية الحقوق والحريات؟“، العدد 40 من مجلة “المفكرة القانونية”، تموز 2016.
[17]Denis SALAS, “Juge (Aujourd’hui)” in Dictionnaire de la culture juridique, QUADRIGE / LAMY-PUF, 2003.
[18]لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان، التعليق العام رقم 31، مذكور أعلاه.

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، استقلال القضاء ، مجلة لبنان ، لبنان



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني