قانون النقابات العمالية أمام الدستورية العليا: خطوة نحو اقرار الحرية النقابية في مصر


2016-08-11    |   

قانون النقابات العمالية أمام الدستورية العليا: خطوة نحو اقرار الحرية النقابية في مصر

بدأت حركة تأسيس النقابات المستقلة في مصر، قبل ثورة 25 يناير 2011، بتأسيس أربع نقابات عمالية مستقلة: الضرائب العقارية- العلوم الصحية- أصحاب المعاشات- نقابة المعلمين المستقلة[1]. ومن بعد ثورة يناير، أعلنت أعداد من العمال عن تأسيس نقاباتهم المستقلة في خطوة نحو الاستقلال عن النقابات التابعة للأنظمة الحاكمة، ولذلك سميت بالمستقلة لأنها مستقلة عن النقابة/التنظيم الرسمي لهذه الفئة من العمال والذي احتكر العمل النقابي تحت مظلته لسنوات عديدة. ولكن النقابات المنشأة وفقًا للقانون الحالي والتي تعتبر نفسها الممثل الشرعي والوحيد للعمال لم ترضخ بسهولة لهذا الوضع الذي يسحب البساط من تحت أقدامها كالمتكلم الرسمي والوحيد باسم العمال، فأقام رئيس الاتحاد العام لنقابات عمال مصر دعوى أمام محكمة القضاء الاداري ضد رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس الوزراء ووزير القوى العاملة لسحب وإلغاء النقابات والاتحادات المستقلة ورفض تأسيسها.

وهنا تجدر الاشارة أنه من بعد الثورة، تم اعداد وعرض مشروع قانون الحرية النقابيةليكون بديلًا عن قانون النقابات العمالية الصادر عام 1976 والذي يقيد الحق في إنشاء النقابات بإنشاء نقابة واحدة لكل فئة من العمال[2]. ولكن هذا القانون لم يأخذ حقه في المناقشة ولم يتم اقراره حتى اللحظة رغم مطالبة القوى العمالية باقراره ورغم اقرار دستور جديد هو دستور عام 2014 الذي ينص على الحرية النقابية في المادة 76 منه[3]. وقد تولد عن ذلك وضع قانوني استثنائي حيث تنشأ نقابات لا ينظمها القانون الحالي، ولكن يكفل حق انشائها الدستور، مما يجعل القانون مشوبا بشبهة عدم دستورية. وهو ما دفع المتدخلين في الدعوى (رئيس النقابة العامة للعاملين بالضرائب العقارية، والممثل الثانوني للنقابة العامة المستقلة للعاملين بهيئة النقل العام، ورئيس النقابة العامة الحرة للعاملين بالنقل البري) بالدفع بعدم دستورية المواد 4، 7، 13، 63 من قانون النقابات العمالية. وهو ما استجابت له المحكمة وحكمت بتاريخ 26-6-2016 بإحالة المواد المذكورة للمحكمة الدستورية العليا للفصل في مدى دستوريتها للأسباب التي سنوضحها في هذا المقال.

1-    الثورة كعامل مؤثر في مجال الحقوق والحريات العامة
في هذا الحكم، اعتبرت المحكمة بصورة واضحة وصريحة ثورتي الخامس والعشرين من يناير والثلاثين من يونيو حقيقة دستورية أثرت في النظام القانوني المصري ولاسيما في مجال الحقوق والحريات العامة. واعتبر الحكم أن التوجيه الدستوري الصادر من الشعب بناء على هذه الثورة المتمثل في الدستور الصادر عام 2014 هو تعبير عن ارادة هذا الشعب التي لابد وأن تحترم. وبالتالي فان كل أمر يخالف أحكامه يعتبر اعتداءاً على إرادة الشعب. وبالتالي، فان على السلطات التنفيذية والتشريعية أن تلتزم بأحكام هذا الدستور عند اقتراح واصدار التشريعات، وعلى السلطة القضائية أن تراعي المبادئ والأوامر الدستورية وتحسس “أي مخالفة دستورية او اعتداء على مبدأ دستوي سواء من تلقاء نفسه او بناء على طلب من الخصوم” واحالتها الى المحكمة الدستورية لحماية الدستور من أي تشريع يخرج عن أحكامه، وفق ما تنص عليه المادة 29 من قانون المحكمة الدستورية العليا[4]. وقد اعتبرت المحكمة أن امتناع القاضي عن هذا الفعل يجعله معطلاً لأحكام الدستور ومنكراً للعدالة الدستورية الواجبة وذلك لأنه أحد وسائل “ولوج الطريق السليم إليها”. وهو الأمر الذي يرفع مستوى المسؤولية على المحاكم لحماية الدستور من أي انتهاك. كما أنه يعتبر حثاً للمحاكم بأن تمارس دورها المنصوص عليه في قانون المحكمة الدستورية، خاصة وأن معظم قرارات إحالة مواد أو نصوص إلى المحكمة الدستورية للفصل في مدى دستوريتها تتم بناء على دفع أحد الخصوم وليس بناء على مبادرة من هيئة المحكمة.
وقد اعتبرت المحكمة أن الثورة قامت على أكتاف الطبقة العاملة كجزء أساسي من التكوين الشعبي. وبالتالي، على الدولة أن “تعلي داخل هذه الطبقة روح الفهم الديمقراطي الدافع إلى تحسين الأداء خدمة للاقتصاد القومي ونبذ النظرة الاستعلائية التي قد تأتي من داخل التنظيم الحكومي ذاته”.
وتكون المحكمة بذلك قد أخذت الثورة كعامل مضاعف لاحترام الإرادة الشعبية المتمثلة في الدستور الساري، ولمزيد من كفالة حقوق وحريات العمال المشاركين في الثورة، وعدّت كفالة الحرية النقابية كمثال عن احترام هذه الحقوق.

2-    الحرية النقابية وفقاً للدستور المصري والاتفاقيات الدولية
بعد بيان أهمية توافق أحكام التشريعات مع الدستور، شرعت المحكمة في مراجعة أحكام الدستور المصري والاتفاقيات الدولية في ما يخص الحرية النقابية، موضوع الدعوى. وقد ذهبت المحكمة إلى مراجعة الفقه الدولي في ما يتعلق بالعلاقة بين القانون الدولي والقانون الداخلي، كما تناولت المحكمة الوضع الخاص لاتفاقيات حقوق الانسان في علاقتها بالقانون الداخلي.

أ‌-       احكام الدستور المصري
قبل مراجعة أحكام الدستور المصري في ما يخص الحرية النقابية، شرعت المحكمة في التفرقة بين النقابات العمالية ونقابات العمال والنقابات المهنية. واعتبرت المحكمة أن النقابات العمالية مصطلح أعم حيث تشمل تنظيمات أصحاب العمل أاو العمال الذين يعملون في مهنة أو مجال عمل معين. وقد رأت المحكمة أن النقابات تهدف الى “الدفاع عن حقوقهم (حقوق أعضائها) وتمثيل مهنتهم والنهوض بأحوالهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية والمهنية وحماية مصالحهم”، كما تعمل على “تحسين ظروف وشروط أعمالهم، وتعبر عن وحدة المصالح الاقتصادية المشتركة لأعضائها”. وللنقابات العمالية الحق في تمثيل أعضائها في مواجهة الآخرين ويكون لها الشخصية الاعتبارية الكاملة بدون حاجة الى توكيل أو تفويض.

أما نقابات العمال، فعرفتها المحكمة بانها “منظمات تُشكل من أجل تحسين شروط وظروف العمل ورعاية مصالح أعضائها الاقتصادية والاجتماعية عن طريق المفاوضة الجماعية والضغط على أصحاب العمل والحكومات والهيئات التشريعية، ومن خلال العمل الجماعي الاحتجاجي والسياسي في بعض الحالات”.
وفسر الحكم أن احكام الدستور المصري تكفل فكرة استقلال النقابات العمالية وتعددها داخل إطار المهنة الواحدة أو المهن المماثلة، ويختلف مع المسلك الذي نصت عليه بخصوص النقابات المهنية التي قصر تنظيمها على نقابة واحدة لكل مهنة، وهو بذلك يتفق مع أحكام الاتفاقيات الدولية. كما أكدت المحكمة أنه وفقا للتجربة المصرية، فإن الحركة النقابية العمالية أسفرت عن تنظيم حكومي لم يعبر عن “هموم وآمال الطبقة العاملة سواء في مواجهة الدولة أو أرباب الأعمال”.
وبناء على ذلك، رأت المحكمة أن وضع قيود على إجراءات تنظيم وإنشاء النقابات، أو حصرها في تنظيم حكومي واحد يكون على رأسه الاتحاد العام للعمال مع منع قيام تنظيمات نقابية تعبر عن الارادة الحقيقية للطبقة العاملة يقوم به شبهة عدم دستورية وينال من حقوق التنظيم النقابي الذي يعتبر في الأصل تعبيراً عن إرادة شعبية لطبقة أو لمهنة.

ب‌-   هل تعلو الاتفاقيات الدولية على الدستور؟ وهل لاتفاقيات حقوق الانسان موضع متميز؟
وأخذت المحكمة بعد ذلك في بيان وضع القانون الدولي بالنسبة للقانون الداخلي المصري، وذلك للفصل في امكانية أن تراجع المحكمة مدى احترام مواد القانون المطعون فيه للاتفاقيات الدولية.
فأوضح الحكم الفرق بين المدرسة الثنائية ومدرسة الوحدة في فقه القانون الدولي، مع الميل الى المدرسة الثانية التي تذهب إلى أن “القانون الدولي والداخي هما شقان لقانون واحد متكامل”، مع توضيح أن رأي المحكمة يميل أن “علاقة القانون الدولي بالقانون الداخلي هي علاقة ارتباط لا تتنافى مع التمييز، والتبعية بينهما لا تقوم على تبعية الأقدم والأحدث صدوراً وانما تبعية فنية بحتة محلها التدرج في قواعد الاختصاص واستناد الأدنى فيها إلى الأعلى وإن كان أحدث منه من حيث النشأة الزمنية”. وهو ما يدلل على اقتناع المحكمة بأهمية القانون الدولي وضرورة احترام نصوص القانون الداخلي لمبادئه مهما قدمت. ومن منطلق هذا المبدأ، ذهبت المحكمة إلى تفسير المادة 93 من الدستور المصري التي تنص على التزام مصر باتفاقيات حقوق الانسان التي تصبح لها قوة القانون بعد نشرها[5]، وتوضيح ما إذا كان هذا النص يرفع اتفاقيات حقوق الانسان إلى مكانة أعلى من القوانين الداخلية. بالنسبة للمحكمة، فإن علو اتفاقيات حقوق الإنسان ليس علواً “في الدرجة داخل الترتيب الهرمي لصور التشريع المصري وإنما في درجة الإلتزام التشريعي”. وهو ما يعني أن درجة التزام المشرع باتفاقيات حقوق الانسان ترقى الى درجة وجوب إدماجها في اطار التشريعات في حين يرخص له إدماج الاتفاقيات الدولية أخرى، وذلك لأهميتها وتأثيرها على حياة المواطنين بشكل مباشر. ويترتب على ذلك التزام الدولة بأن تقوم بالتعديلات اللازمة على التشريعات السارية حتى تتوافق مع الاتفاقيات المشار اليها وإلا تشوب هذه النصوص شبهة عدم دستورية. وبإعلاء مكانة اتفاقيّات حقوق الإنسان إلى هذه المرتبة، تكون المحكمة قد عززت حماية الحقوق والحريات، من خلال حثّ المشرع على مراجعة نصوص القانون الداخلي لتحترم المبادئ الدولية لحقوق الانسان. كذلك تكون المحكمة ضمنت للمدافعين عن حقوق الانسان أداة جديدة لاستخدامها بهدف إرغات الدولة على احترام مبادئ القانون الدولي الحامية لهذه الحقوق، خاصة وأن المحكمة ربطت التزام الدولة بنص المادة 93 من الدستور، وبالتالي التزامها باتفاقيات حقوق الانسان، بتأسيس “نظام ديمقراطي يعلي من شأن الفرد وكرامته وحقوقه”.
وعلى أساس ذلك، رأت المحكمة أن المواد 4، 7، 13، 63 من قانون  النقابات العمالية تخالف الاتفاقيات الدولية التي تنص على الحرية في تكوين وإنشاء النقابات، وبالتالي تشوبها شبهة عدم دستورية تستدعي إحالتها للمحكمة الدستورية العليا للفصل في الأمر.

وبإحالة المواد المذكورة إلى المحكمة الدستورية العليا، لشبهة مخالفتها لمواد الدستور والاتفاقيات الدولية، تكون المحكمة قد حمت النقابات المستقلة من حلها أو المساس بوجودها، بل وأسست لفقه قانوني يحترم الحرية والتعددية النقابية. كما أن المحكمة حثت بهذا الحكم المشرع الى مراجعة القوانين السارية وتعديل تلك التي تخالف الدستور الحالي والاتفاقيات الدولية خاصة تلك التي تنص على حقوق الانسان، وهو الأمر الذي لم يقم به المشرع المصري منذ صور دستور 2014 وحتى اللحظة.

لتحميل نص حكم النقابات المستقلة، الضغط على العنوان أدناه. 


[1] راجع صابر بركات، “كيف تُأسس نقابة عمالية”، صادر عن المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، الاتحاد المصري للنقابات المستقلة، النقابة العامة لأصحاب المعاشات، النقابة العامة للعلوم الصحية، نقابة المعلمين المستقلة، النقابة العامة للعاملين بالضرائب العقارية، النقابة العامة لموظفي القوى العاملة، اللجنة المصرية لحماية حقوق العمل، حملة معاً من أجل اطلاق الحريات النقابية، الحركة الشعبية الديمقراطية (حشد)، ومجموعة تضامن- ابريل 2011
[2] راجع المادة 7 من قانون النقابات العمالية والتي تنص على: “يقوم البنيان النقابي على شكل هرمي وعلى اساس وحدة الحركة النقابية، وتتكون مستوياته من المنظمات النقابية التالية: -اللجنة النقابية بالمنشأة أو اللجنة النقابية المهنية، -النقابة العامة، -الاتحاد العام لنقابات العمال، ويصدر الاتحاد العام لنقابات العمال قرارا بقواعد واجراءات تشكيل هذه المنظمات النقابية المشار اليها بالفقرة السابقة وفروعها”.
تنص المادة 13 من قانون النقابات العمالية على:” للعمال والعمال المتدرجين المشتغلين في مجموعات مهنية او صناعات متماثلة او مرتبطة ببعضها او مشتركة في انتاج واحد، الحق في تكوين نقابة عامة واحدة على مستوى الجمهورية طبقاً للائحة التي يعدها التنظيم النقابي”.
[3] تنص المادة 76 من الدستور المصري على: “إنشاء النقابات والاتحادات على أساس ديمقراطي حق يكفله القانون. وتكون لها الشخصية الاعتبارية، وتمارس نشاطها بحرية، وتسهم في رفع مستوى الكفاءة بين أعضائها والدفاع عن حقوقهم، وحماية مصالحهم. وتكفل الدولة استقلال النقابات والاتحادات، ولا يجوز حل مجلس ادارتها الا بحكم قضائي، ولا يجوز انشاء أي منها بالهيئات النظامية.”
[4] تنص المادة 29 من قانون المحكمة الدستورية العليا على:” تتولى المحكمة الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح على النحو التالي: (ا) اذا تراىء لاحدى المحاكم أو الهيئات ذات الاختصاص القضائي اثناء نظر احدى الدعاوى عدم دستورية نص في قانون أو لائحة لازم للفصل في النزاع، اوقفت الدعوى واحالت الاوراق بغير رسوم الى المحكمة الدستورية العليا للفصل في المسألة الدستورية. (ب) إذا دفع أحد الخصوم أثناء نظر دعوى أمام إحدى المحاكم أو الهيئات ذات الاختصاص القضائي بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة ورأت المحكمة أو الهيئة أن الدفع جدي أجلت نظر الدعوى وحددت لمن أثار الدفع ميعاداً لا يجاوز ثلاثة أشهر لرفع الدعوى بذلك أمام المحكمة الدستورية العليا، فإن لم ترفع الدعوى في الميعاد اعتبر الدفع كأن لم يكن”.
[5] تنص المادة 93 من الدستور المصري على:” تلتزم الدولة بالاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية لحقوق الانسان التي تصدق عليها مصر، وتصبح لها قوة القانون بعد نشرها وفقاً للأوضاع المقررة”.
انشر المقال



متوفر من خلال:

مقالات ، حقوق العمال والنقابات ، مصر



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني