تعيين وكيل للجمهورية بالمحكمة الإبتدائية في تونس: صراع الاستقلالية في مواجهة محاولات السياسي الهيمنة


2016-07-26    |   

تعيين وكيل للجمهورية بالمحكمة الإبتدائية في تونس: صراع الاستقلالية في مواجهة محاولات السياسي الهيمنة

أرست الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي خلال فترة عملها ممارسة تمثلت في تمييز التعيينات في المناصب القضائية العليا بإجراءات تكرس الحق في الترشح وتضمن الى حد بعيد توفير فرص الاختيار الموضوعي للمترشح الأكثر أهلية لشغل المنصب. تمثل التقليد في إعلان الهيئة عن شغور تلك المناصب مع فتحها لتقبل ترشحات من يرغبون في تقلدها في مرحلة أولى تتبعها مرحلة ثانية تتمثل في جلسات استماع للمترشحين من قبل أعضاء الهيئة لينتهي الأمر إلى اختيار الهيئة المرشح الذي يحوز على العدد الأكبر من أصوات أعضائها تبعا لتصويت سري. وتولت الهيئة عملا بذات التقليد بتاريخ 20-07-2016 سد شغور منصب وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بتونس بتسمية قاضي التحقيق بشير العكرمي. حظي هذا القرار باهتمام واسع في الوسط السياسي والإعلامي التونسي لاعتبارات تتعلق بالتاريخ المهني لوكيل الجمهورية الجديد. وتتناول عضو الهيئة الوقتية للاشراف على القضاء العدلي القاضية ليلى الزين هذا القرار وما سبقه من محاولات ضغط وتأثير. وهذا المقال هام جدا لأنه يوثق لتجربة الهيئة في التعيينات القضائية ويكشف عن موقف السياسي منها (المحرر).

أدى تعيين الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي "قاضي التحقيق بالمكتب 13" وكيلا للجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بتونس بتاريخ 20-7-2016 لتعرضها لأول مرة منذ إحداثها وتوليها الإشراف على الشأن القضائي إلى انتقادات عنيفة من أوساط سياسية وإعلامية وحزبية. سبق الانتقادات حملات إعلامية وسياسية موجهة للهيئة هدفها تحذيرها من اتخاذ القرار ويكون من المهم النظر في طبيعة تدخل السياسي في عمل الهيئة قبل التعيين وبعده توصلا لتبين خطر هذا التدخل.

من التحذير إلى الانتقاد: من محاولة فرض القرار إلى محاولة اسقاطه
أعلنت بتاريخ 12-05-2016 الهيئة الوقتية للاشراف على القضاء العدلي عن فتح باب الترشحات لمن تتوفر فيهم شروط الأقدمية القانونية لخطة وكيل للجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بتونس. وتسرّب في إثر ذلك للإعلام أن من بين من ترشحوا لشغل الخطة القاضي بشير العكري الذي يباشر قضاء التحقيق بالمكتب 13 بالقطب القضائي لمكافحة الارهاب والذي تعهد بالتحقيق في قضية اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي. كما أنه ذات القاضي الذي كشفت تحقيقاته عن شبهة تورط إطارات وأعوان فرقة مكافحة الارهاب للأمن الوطني في قضايا تعذيب.
أثار إعلان الترشح ردة فعل سلبية في أوساط محامي القائمين بالحق الشخصي في قضيتي الاغتيال ولدى النقابات الامنية. وفور ذلك، بدأت حملة إعلامية منظمة للتشهير بقاضي التحقيق 13 ولاتهامه بالتقصير في عمله في التحقيق في عمليتي الإغتيال، لكونه لم يكشف الجانب السياسي منهما.  
كما تم إيداع شكاية جزائية ضد قاضي التحقيق بالمكتب 13 تقدم بها حزب الوطنيين الديموقراطيين الموحد تضمنت اتهامه بالتواطؤ في عمليتي الإغتيال من خلال تقصيره  وطمسه للحقائق التي تكشف جوانبهما السياسية.
وفي موازاة ذلك، عُقدت جلسة استماع بمجلس نواب الشعب لوزير العدل في خصوص قضيتي الاغتيال بتاريخ 21-06-2016 رغم أن القضيتين ما تزالان محل نظر قضائي.
ركزت الحملة الإعلامية والسياسية على إدعاءات تقصير قاضي التحقيق 13 في عمله بشكل يكشف عن تواطؤ جنائي من جانبه. لم يلتفت منظمو الحملة إلى أنه سبق لهم أن تشكوا من ذات قاضي التحقيق لأجل ذات التهم سنة 2015 وأنه تم إجراء بحث في الموضوع من قبل مصالح التفقد القضائي انتهى إلى إعلان أن قاضي التحقيق 13 لم يرتكب أيّ تقصير في أدائه المهني. كما أغفلت الحملة السياسية والإعلامية أن قاضي التحقيق سبق له أن أتمّ أبحاثه في الجانب الأكبر من ملف القضية وأن الدائرة الجنائية تعهدت بنظر الملف.
وكشف موعد الحملة السياسية والإعلامية وغياب مبرراته الواقعية أن الهدف من تلك الحملة المنظممة كان في الأساس توجيه رسالة للهيئة الوقتية للقضاء العدلي تحذرها من اختيار قاضي التحقيق 13 لخطة وكيل للجمهورية.

من جهته، اختار وزير العدل عمر منصور بتاريخ 04-07-2016 أن يعلن مساندة ضمنيّة للحملة ضد قاضي التحقيق 13 حين أصدر بيانا ذكر فيه أنه في إثر تقدم حزب الوطنيين الديموقراطيين الموحد شكاية ضد قاضي الحقيق 13 لدى وكالة الجمهورية بتونس فقد قرر "إحالة الموضوع على المتفقد العام لوزارة العدل لسماع ممثل العارضين بدقة وإجراء التحريات اللازمة على ضوء أوراق القضية وإنهاء النتائج في أسرع الأوقات وإعلام رئيس الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي". ناقض قرار الوزير الموقف الذي تمسك به ذات الوزير بجلسة الاستماع التي تمت له بتاريخ 21-06-2016 في مجلس نواب الشعب والتي تمسك خلالها بأنه سبق للتفقدية العامة للقضاء بأن أكدت تبعا لبحث سابق أن قاضي التحقيق لم يقصر. ويؤشر هذا التناقض على أهمية أثر الضغط الذي وجه لإحباط فرضية تعيين قاضي التحقيق 13 وكيلا للجمهورية بمحكمة العاصمة.
أجهض تصويت أعضاء الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي بتاريخ 20-07-2016 مجمل هذه المحاولات للضغط عليها سياسياً وإعلامياً وأمنياً. فقد انتهى لاختيار قاضي التحقيق 13 وكيلا للجمهورية. أعقب هذا القرار هجوم إعلامي على الهيئة ينتظر أن يتطور مع بداية العودة القضائية، على نحو يؤكد أن لمحاولة التدخل في قرارات الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي أهداف تتجاوز تصفية الحسابات مع شخص قاضي التحقيق 13 لرفضه التدخل في عمله لتتصل بتصور السياسي لعلاقته بالتعيينات القضائية.
 
سعي السياسي للتدخل في التعيينات: رفضا للديموقراطية بحثا عن الحق في التدخل
تصدي السياسيين لقرارات الهيئة بتعيين وكيل الجمهورية في تونس يطرح أسئلة مشروعة عما كان يرومه هؤلاء من هيئة القضاء العدلي. فهل كان يقتضي استبعاد قاضي التحقيق من قائمة المترشحين تغليبا لمبدأ الملاءمة بين التعيين والظرف الذي تعيشه البلاد؟ أم أنه يقتضي اختيار الشخص الذي يستجيب للمعايير التي وضعتها الهيئة مسبقا، فتأخذ الهيئة قرارها بمعزل عن أي ضغوطات خارجية مهما كان مصدرها؟
لم تكن تسمية وكيل للجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بتونس أول تسميات الهيئة للخطط القضائية الهامة والحساسة في البلاد. فقد أحدثت الهيئة إجراءات جديدة وجريئة في التسميات الكبرى لم يعهدها النظام القضائي في السابق، ولا تعرفها حتى أعرق الأنظمة القضائية. ففي إيطاليا مثلا، يتدخل رئيس الجمهورية في التسميات الأولى باعتباره رئيس المجلس الأعلى للقضاء ويعتبر القضاة الايطاليون ذلك تقليدا لم يسع أحد إلى تغييره أو الاحتجاج عليه. وفي فرنسا، تتم التسميات الأولى من قبل وزارة العدل. ويجدر التذكير أن هذه التسميات كانت تتم في تونس وقبل 2013 (تاريخ احداث الهيئة) بواسطة السلطة التنفيذية ممثلة بوزارة العدل بعد ضمان تذكية ورضاء السلطة العليا في البلاد وربما حواشيها أيضا.
ومنذ تعهدت الهيئة بالشان القضائي، أصبحت هذه التعيينات تمرّ بعدة مراحل، أهمها الآتية:

–       يتم فتح باب الترشح للخطط الشاغرة، ويدعى القضاة أصحاب الرتب والدرجات المعنية إلى تقديم ترشيحاتهم في أجل محدد، ويشمل هذا الاجراء جميع الخطط الهامة من دون استثناء.
–       بعد استبعاد من لا تتوفر فيه الشروط الشكلية المتعلقة خاصة بالأقدمية في الرتبة يدعى المترشحون لجلسة استماع أمام أعضاء الهيئة، حيث يتولى كل مترشح عرض مسيرته المهنية ورؤيته الاصلاحية للخطة التي ترشح لها.
–       تتم المداولة بجلسة عامة بعد اجراء تناظر بين المترشحين وفق معايير تضبطها الهيئة مسبقا وتتعلق خاصة بالكفاءة الصناعية والنزاهة والقدرة على الإدارة والاستقلالية في أخذ القرارات.
–       وأخيرا، يتم التصويت السري تمهيداً لاختيار المترشح الذي يتحصل على أعلى نسبة من الأصوات.

وقد تعاملت الهيئة مع التسمية الأخيرة لوكيل الجمهورية لدى المحكمة الإبتدائية بتونس بصورة مجردة ومستقلة عن جميع الضغوطات والتدخلات كغيرها من التسميات التي أجرتها منذ إحداثها، واختارت قاضيا رأت غالبية أعضائها أنه الأكثر استجابة للمعايير التي وضعتها مسبقا.
ويلحظ أن الهيئة أحدثت من خلال عملها المشار إليه أعلاه تقليدا جديدا في التعيينات في الخطط الهامة، ومنها أهم وأعلى خطة قضائية وهي رئاسة محكمة التعقيب. ويعتبر إحداث هذا التقليد من اهم مكاسب النظام القضائي في تونس وإن لم يحظ بالاهتمام اللازم من قبل المتتبعين للشأن القضائي. وفيما نجحت الهيئة في الاستحقاق الأخير في المحافظة على نهجها الاستقلالي، اتجه الامر بعد التعيين نحو الاعتراض المعلن على هذه التسمية والسعي إلى إكسائها طابعا سياسيا قد يسقط في المستقبل في منطق تصفية الحسابات الضيقة على حساب تجاهل مخيف للمنطق المؤسساتي للبلاد.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، استقلال القضاء ، تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني