عندما يلغي”لسان الدفاع” حق الدفاع


2016-05-24    |   

عندما يلغي”لسان الدفاع” حق الدفاع

شهد ربيع تونس هذه السنة سلسلة من الجرائم التي شغلت الرأي العام وأعادت إلى ساحة الجدل عقوبة الإعدام.
 
سلسلة من الجرائم
أثارت وفاة الطفل ياسين البالغ من العمر أربع سنوات صباح الاثنين  16- 05 -2016في جريمة قتل هزت الرأي العام في البلاد موجة تعاطف واسعة. فقد عمد جندي برتبة رقيب وهو على دراجة نارية إلى اختطاف ياسين عنوة بينما كان برفقة أخته الكبرى 11 عاما في منطقة شعبية فقيرة غرب العاصمة، حيث قام خاطفه بافتكاكه من يد شقيقته وهو في طريقه إلى روضته وحمله بالقوة إلى غابة قريبة وقام بقتله. وبعد نحو ساعتين عثر على الطفل مذبوحا، وقالت تقارير إعلاميّة إنّ الطفل تعرض للاغتصاب قبل أن يعمد المتهم إلى الإجهاز عليه في حين صرّح الطبيب الشرعي المنصف حمدون أنه لم يتم إلى حد الآن إثبات عملية اغتصاب الطفل ياسين، مشيرا إلى أن التحاليل مازالت متواصلة ويمكن أن تثبت عكس ذلك وفق ما تناقلته مصادر إعلامية.
جريمة ثانيةاهتزت لها محافظة سيدي بوزيد في الوسط الغربي والتي تم فيها العثور على جثة فتاة مشوهة، وقد كانت الفتاة تستعد لاجتياز امتحان الباكالوريا هذه السنة حيث تم قتلها والتنكيل بجثتها ورميها بالقرب من منزل أسرتها التي أعلنت في البداية عن اختطافها قبل أن يتم العثور علي جثتها.فانحصرت الشبهة في بداية الأبحاث في احد أصدقائها قبل أن تتضح براءته لتوجه التهمة لاحقا إلى شقيقها الذي يشتبه أنه هو الذي عمد إلى قتلها وهو طفل شاب لا يتجاوز عمره 14 عاما.
كما شهد شهر ماي أيضا جريمتي قتل راح ضحيتها عونا أمن بجهة الزهروني الأولى جدت يوم 6 من الشهر الخامس وكان ضحيتها ملازما بالسجون عمره 47 سنة اعتدى عليه جاره بالة حادة أدت إلى وفاته، والثانية راح ضحيتها عون أمن متقاعد حيث عمد أجوارهإلى طعنه بسكين كما اهتزت يوم 10 من نفس الشهر مدينة دار شعبان بنابل على وقع جريمة عائلية اذ أقدم كهل على قتل زوجته الشابة ببندقية صيد ثم محاولة الانتحار.
وقد بدأت هذه السلسلة منذ الشهر الثالثمن سنة2016  اذ تسبّب خلاف على 10 دنانير (5 دولارات) بين شخصين، في قتلطفل راعي أغنام في منطقة "نبش" من معتمدية أولاد الشامخ بمحافظة "المهديّة"، بعد أن تم تقييده من رقبته بواسطة حبل وقام قاتله البالغ من العمر 15 سنة، بالاعتداء عليه جنسيا قبل أن يوجّه له عديد الطعنات التي أودت بحياته ثمّ قام بذبحه.
 
عودة الجدل حول عقوبة الإعدام
ولا تزال هذه الجرائم حديث الشارع التونسي ووسائل الإعلام بينما تنتشر بقوة دعوات مؤيدة لعقوبة الإعدام بحق المتهمين على مواقع التواصل الإجتماعي، للثار والانتقام.
وتشرع القوانين في تونس عقوبة الإعدام بما في ذلك الدستور الجديد الصادر بعد الثورة في 2014 حيث ينص الفصل 22 منه على أن "الحق في الحياة مقدس لا يجوز المساس به إلا في حالات قصوى يضبطها القانون. وتشمل عقوبة الإعدام في القانون التونسي عدة جرائم من بينها الجرائم الإرهابية والإغتصاب والقتل العمد.
غير انه من المفارقات أن آخر حكم بالإعدام في تونس تم تنفيذه يعود إلى عام 1994 وكان في حق مواطن اتهم  بقتل 14 طفلا بعد الاعتداء عليهم جنسيا من بينهم ابن خطيبته السابقة الذي نكل بجثته انتقاما من والدته.
وأعدمت السلطات التونسيّة سنة 1994 الناصر الدامرجي الملقب بسفاح نابل تنفيذا لحكم الإعدام الصادر في شأنه يوم 17 من الشهر الحادي عشر من سنة 1991.
لكن الأحكام الصادرة في مثل هذه العقوبات لم يتم تفعيلها منذ أكثر من عشرين عاما بسبب ضغوط المنظمات الدولية المدافعة عن حقوق الإنسان.
ورغم امتناع السلطات عن تنفيذ عقوبة الإعدام وخاصة منذ قيام الثورة وجراءالضعف الذي عرفته أجهزة الدولة ومع تنامي ظاهرة الإرهاب عاد الحديث بقوة عن ضرورة تنفيذ الأحكام الصادرة بالإعدام ضد متهمين سواء في قضايا الإرهابأو في قضايا الحق العام العادية.
 
 
حقوقيون معادون لحقوق الإنسان
قد نتفهم ما تؤدي إليه هذه الجرائم المذكورة من هيجان صادر عن عامة الناس ومن صيحات ونداءات بتطبيق الإعدام على المتهمين في هذه الجرائم، خاصة إذا كانت ضد أطفال مع شبهة اعتداء جنسي.غير انه من الغريب أن نستمع إلى حقوقيين ومحامين وحتى قبل ثبوت التهمة على المشبوه فيهم يسلطون الحكم بالقتل على المتهم لا ينقصهم في ذلك إلا ربط حبل المشنقة حول رقبته وشنقه حتى الموت.
فقد ذكرموقع الجمهورية أن المحامي منير بن صالحة سينوب عائلة الضحية الطفل ياسين في القضية المشار اليها، وانه بادر بالاتصال بالموقع ليؤكد له أن عائلة الطفل اتصلت به مساء 17 من الشهر الخامس لتطلب منهأن يكون منوبهم"ليساعدهم في القصاص من المجرم عبر معاقبته قانونيا بأقصى عقوبة وهي الحكم عليه بالإعدام" بحسب تصريحاته.
 هذا وشدّد المحامي منير بن صالحة في مداخلته التي خصّ بها"الجمهورية"على أنه يطالب بصفته محاميا عن العائلة بتطبيق وتنفيذ حكم الإعدام. وفي تعليقه عن بعض الأخبار التي تفيد أنّ القاتل يعاني من اضطرابات نفسية تخول له التمتع بالتخفيف في الحكم عليه، قال بن صالحة حرفيا "إنّ الكلاب المسعورة والمريضة التي تمثل خطرا على الناس تقتلها الشرطة في الشوارع، وهو ما ينطبق على هذا المجرم الذي يمثل خطرا على الأطفال التونسيين ومن هنا وجب قتله إعداما" (هكذا).
وقالت ناشطة في المجلس الوطني للحريات زهور كراكشي لوكالة الأنباء الألمانية (د ب أ) إنّ " المجلس من حيث المبدأ ضد عقوبة الإعدام لكن بعض الجرائم التي يتجرد مرتكبها من المشاعر الإنسانية مثلما حصل مع الطفل ياسين ، تستدعي تطبيق هذه العقوبة".
وفي تعليق له على هذه الدعوات المتصاعدة بإعدامالمتهمين في هذه الجرائم قال وزير العلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان كمال الجندوبي لموقع الصدى يوم 20 من ذات الشهر إن عدم تنفيذ السلطة لأحكام الإعدام التي تصدرها المحاكم التونسية لا يعد تبريرا للجريمة أو تناقضا من قبل السلطة التنفيذية.وأضاف الجندوبي حول موقف الحكومة حيال مطالبات الرأي العام بتنفيذ عقوبات الإعدام سواء إثر مقتل الطفل ياسين أو عقب مقتل مدنيين وعسكريين وأمنيين في أحداث إرهابية أنه لا يوجد في الواقع تناقض حيال الموضوع ولكن توجد حالة معقدة يجب معالجتها برصانة ومسؤولية، حسب تعبيره.
 
 
سلوك مخل بشرف المهنة
 من الغريب أن ينسى محام أننا عندما نتحدث عن القانون لابد من الحديث عن حق كل مواطن مهما كان الجرم الذي ارتكبه في محاكمة عادلة تُكفل له فيها جميع الضمانات القانونية ويتمتع فيها بحقه في الدفاع.
من الغريب أن يتناسى محام أيضاأنالجاني في جريمة قتل الطفل "ياسين" يمكن أن يكون غير مسؤول جزائيا طبقا لمقتضيات الفصل 38 من المجلة الجزائية الذي ينص على أنه "لا يُعاقب من لم يتجاوز سنّه ثلاثة عشر عاما كاملة عند ارتكابه الجريمة أو كان فاقد العقل".وبالتالي، فإن إمكانية أن يكون الجاني مسؤولا جزائيا ممكنة ولكن يمكن أيضا أن يكون فاقدا لعقله أثناء ارتكابه للجرم المنسوب إليه وبالتالي يصبح غير مسؤول جزائيا ولا يمكن تسليط أي عقاب جزائي في شأنه.
 
كما انه من الغريب أن يتناسى ما ينص عليه القانون عدد 93 لسنة 2005 المؤرخ في 3 أكتوبر 2005 ويتعلق بإتمام بعض أحكام مجلةالإجراءات الجزائية منأنه يمكن لحاكمالتحقيق أن يجري بنفسه أو بواسطة مأموري الضابطة العدلية المبينين بالعددين 3 و4 من الفصل10 بحثا عن شخصية المظنون فيهم، وعن حالتهم المادية والعائلية والاجتماعية. كما يمكن له أن يأذن بإجراء فحص طبي نفساني على المتهم.
"ويكون العرض على الفحص الطبي النفساني وجوبيا إذا ارتكب المتهم جريمة قبل أن تمضي عشرةأعوام على قضاء العقاب الأول أو على إسقاطه أو سقوطه بمرور الزمن وكانت الجريمتان مستوجبتينللعقاب بالسجن لمدّة تساوي أو تزيد عن عشرة أعوام".
وقد تعزز هذا الإجراء بجعله ممكنا منذ فترة الاحتفاظ من خلال القانون الأخير عدد 5 مؤرخ في 5 – 02 – 2016 ويتعلق بإتمام أحكام المجلة الإجراءات الجزائية والذي ينص في فصله 13 مكرر على انه " يمكن للمحتفظ به أو لمحاميه أو لأحد الأشخاص المذكورين بالفقرة السابعة من هذا القانون أن يطلب من وكيل الجمهورية أو من مأموري الضابطة العدلية خلال مدة الاحتفاظ أو عند انقضائها إجراء فحص طبي على المحتفظ به ويتعين في هذه الحالة تسخير طبيب للغرض لإجراء الفحص المطلوب حالا "
 
ومسألة فقدان عقل الجاني من عدمه لا يمكن إثباته أو نفيه إلا بعرضه على الفحص الطبي النفسي الذي يقرر في شأنه بصفة ثابتة مسؤوليته الجزائية أو عدم مسؤوليته وليس المحامي هو الذي يفعل ذلك وفي تصريحات صحفية غريبة. وفي حالة ثبت فقدانه لعقله فتتعهد بهالسلط الإداريةلإيوائه في إحدى المستشفيات مراعاة لمصلحة الأمن العام كما نص عليه الفصل 38 من المجلة الجزائية المذكور.
بل من الغريب ألا تحرك الهيئة الوطنية للمحامين ساكنا أمام تصريحات المحامي فلا أحد يجهل ما يمكن أن يختفي وراءها من رغبة في استدرار عطف العامة ومغازلة عواطفها واستغلال اندفاعها من أجل غايات ربحية تسيئ بلا شك إلى المهنة. فالمحاماةهي أولا وقبل أي اعتبار آخردفاع عن الحق والقانون أما بخلاف ذلك فإنها تتحول إلى ضرب من المتاجرة بأحزان الناسالتي لا يقبلها أي محام شريف. غير ما هو أخطر بكثير من ذلك هو عدم وعي المحامي بأن خطابه هو إلغاء ونسف لحق الدفاع نفسه الذي يفترض فيه أنه يمثله وهو حق ناضلت من أجله الإنسانية لقرون للقطع مع حقبة مظلمة من محاكمات الثأر والعدالة الانتقامية في غياب المحاكمة العادلة وهي من الحقوق اللصيقة بالذات البشرية لا تعرف استثناءات مهما كانت الظروف وأيا كانت ملابسات الجريمة على عكس بعض الحقوق التي يمكن أن تقيد بمقتضيات النظام العام أوالصحة العامة.
إن هذا الخطاب دلالة ومقياس على انعدام احترام النفس والذات الإنسانية، وهو دلالة وشاهد على مدى تدني مكانة واحترام وقدسية "الإنسانية" و"الإنسان".
 
في الأخير لم يكن قصدنا في هذا المقال السريع مناقشة عقوبة الإعدام وهي مسألة مجتمعية معقدة ليس هنا مجال الخوض في تفاصيلها بل قصدنا هو التنبيهإلى خطورة ما صدر عن المحامي. فالعدالة ليس من أغراضها منطق العين بالعين والسن بالسن والذوات البشرية ليست كلابا سائبة أو مصابة بداء الكلب نطلق عليها الرصاص في جنح الظلام. إن مهمة العدالة هيإعادة التوازن داخل المجتمع وحمايته من الجريمة التي يعالج جانب منها فقط بالعقوبة السالبة للحرية أما الجانب الأخر فمرده إلىالإصلاحوالتأهيل. فسلسلة الجرائم التي عرفتها تونس في المدةالأخيرة هي فشل لنا جميعا: هي أولا فشل للمؤسسة العسكرية. ففي البلدان المتطورة يمتلك الجهاز العسكري خلايا رعاية صحية ومساعدة طبية نفسانية للجنود. إن الاختبار النفسي بحسب كل الخبراء مستوجب من خلال حصص حوارات مع الجنود وقياسات موضوعية لوضعهم الصحي وهي كلها إجراءات ضرورية للتثبت من مدىأهلية المنتدبين الجددأو الجنود الذين هم تحت السلاحلممارسة عملهم. وتكون هذه الفحوصات دورية نظراً لأن هؤلاء حاملون للسلاح ومهيئون بفعل طبيعة مهنتهم القاسية إلى هزات نفسية خطيرة وهي أيضا فشل في حماية أطفالنا من النزاعات العدوانية وفي ضمان الحد الأدنى من الانسجام العائلي الذي بدونه يمكن أن نرى ما رأيناه من جرائم  بشعة داخل الأسرة الواحدة في هذا الربيع القاسي.
انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكمة عادلة وتعذيب ، مقالات ، تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني