العنف ضد النساء وواجبات الدولة اللبنانية


2012-08-09    |   

العنف ضد النساء وواجبات الدولة اللبنانية

“في لبنان يسود واقع أن الدولة – الحكومة والمؤسسات الرسمية والقضائية والتشريعية- تهتدي بمسار المجتمع المدني، السبّاق دائماً إلى رصد اهتمامات الناس وحاجاتهم والمبادرة إلى التعامل معها. وموضوعالعنف ضدّ المرأة من بين هذه الاهتمامات؛ ففي حين تشكّلت “الهيئة اللبنانية لمناهضة العنف ضد المرأة” في العام 1997من جمعيات ومنظمات وشخصيات غير حكومية، فإن الوحدة الحكومية الأولى (من وزارة الشؤون الاجتماعية) التي تعاملت مع الموضوع لم تتحرّك قبل العام 2003، أي بعد 6 سنوات من طرح الموضوع .
وما يمتاز به لبنان أيضاً، هوالتعاون بين الدولة ومؤسّساتها وبين المنظمات غير الحكومية. هذه المنظمات، وإن كانت هي المبادِرة إلى معالجة مسألة مجتمعية بعينها، فهي لا تدّعي حصرية أهليتها لتلك المعالجة؛ بل على العكس من ذلك، هي تدعو الدولة إلى العمل على التشارك معها في المهمّة وتعميم تجربتها وتوسيع مجالات تطبيقها بما يتناسب مع ثقل مسؤولية الدولة وحجم مواردها واتساع دائرة تأثيرها.
من جهتها، فإن الدولة اللبنانية لا تحاول السيطرة على فضاء هذه المنظمات بل هي تعمل على عقد شراكات معها وتدعوها من أجل الاستفادة من إمكاناتها المتاحة. فلا نجد تنافراً في الصلاحيات ولا “اتهامات” بالتعدّي على المجالات بين الفئتين أسوة ببعض البلدان التي تشهد صراعاً بينهما.
تمشي الدولة في لبنان بخطى ثابتة، وإن متمهّلة، على طريق تبني مؤسساتها لمناهضة العنف ضدّ النساء، وذلك في أكثر من مجالمدفوعة، أساساً، بواجباتها تجاه الاتفاقات المعقودة مع المجتمع الدولي، لكن أيضاً تلبية لضغوط المجتمع المدني ومنظماته العاملة إلى إحقاق المساواة الجندرية.

أولاً: في الوقاية
1-    الاستراتيجيات
على امتداد التسعينات، ومع توقف الأعمال الحربية التي عصفت في البلاد لمدة خمس عشرة سنة ( 1975- 1990)، ومع إطلاق ورشة الإنماء والإعمار، شكّلت الدولة اللبنانية، ممثّلة بحكومات متعاقبة، هيئات نسائية مستقلّة أهمها “الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية”، ووحدات مندمجة في إطار وزارات مثل “دائرة شؤون المرأة” في وزارة الشؤون الاجتماعية، إضافة إلى إطلاق كثير من البرامج في الوزارات المختلفة التي جعلت المرأة من بعض محاور اهتمامها. ومنذ العام (2005) برزت قضايا المرأة واحدة من العناوين التي يتناولها البيان الوزاري في الحكومات المتعاقبة؛ بل إن  البيان الوزاري ما قبل الأخير (وكان ذلك في أواخر العام 2009) تعهد  بأن الحكومة  «ستعمل على اعتماد خطة عمل لمكافحة ظاهرة العنف ضد المرأة، بما في ذلك الانتهاء من مناقشة مشروع قانون حماية النساء من العنف الأسري، وعلى وضع سياسات وتشريعات لمكافحة الاتّجار بالنساء والأطفال بهدف الاستغلال الجنسي والعمل القسري» (الفقرة 22 من البيان الوزاري).
تشير هذه المظاهر مجتمعة إلى أن قضايا المرأة ،وموضوع “العنف ضد النساء” ضمناً، باتت من مفردات الخطاب الرسمي العام . واشتمال ذلك العنف في الخطاب الأعم بدأ يأخذ طريقه، تباعاً، إلى استراتيجيات الوزارات والوحدات الحكومية والتشريعية . ومن هذه، مثلاً:
•     الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية: ففيما كانت مناهضة العنف ضد النساء هدفاً فرعياً من الأهداف الموضوعة في المجالات الاجتماعية والقانونية في الاستراتيجية الوطنية للمرأة اللبنانية ( 1998)، أصبحت تلك المناهضة واحدة من اثني عشر هدفاً استراتيجياً رئيسياً ومجالاً مستهدفاً للتدخّل، رئيسياً هو الآخر، في الاستراتيجية الوطنية الأخيرة التي أطلقتها “الهيئة”  للعشرية ( 2011- 2021).
•    كذلك، وفي الاستراتيجية الانمائية الوطنية التي أطلقتها وزارة الشؤون الاجتماعية في العام 2011،أفرد تحت عنوان “الحماية الاجتماعية” بما هو واحد من خمسة أهداف رئيسية في الاستراتيجية المذكورة،  وتحت عنوان فرعي  ” حماية النساء والأطفال  من العنف”… نقرأ مايلي: “إيجاد آليات قانونية ومؤسساتية لحماية النساء من الإساءة في الأوضاع المنزلية والمهنية بدءاً بقوانين الأحوال الشخصية المدنية ..إلخ”.
•    وقد شارك لبنان، في إطار منظمة المرأة العربية، في صوغ الاستراتيجية العربية لمناهضة العنف ضد المرأة 2011 – 2020، بصفيته الرسمية والمدنية. وهذه تهتدي بالمواثيق الدولية والعربية والإسلامية الضامنة للمساواة الجندرية والهادفة إلى العمل على كل ما من شأنه وقاية النساء العربيات من العنف الممارس ضدهن بجميع أشكاله، كما حمايتهن منه ومعالجة تداعياته عليهن بمشاركة الهيئات الصحية والقانونية والأمنية والرعائية الاجتماعية والتربوية والإعلامية- أي بمعالجة شمولية.

2-    القوانين
أ‌-    قانون حماية المرأة من العنف الأسري
يرى المعنيون بموضوع العنف ضد النساء أن قانوناً خاصاً يعاقب معنّفي النساء داخل الأسرة ذو مفعول وقائي؛ وأن تخصيص المرأة بقانون خاص لا يقوم بالردع فحسب (شأنه في ذلك شأن القوانين كافّة)، بل إن ضرورته ناجمة عن  خصوصية وضع المرأة في المنظومة الجندرية الذي يجعل اشتمال العنف ضدها في قانون العقوبات، أو حتى في قانون عام للأسرة، غافلاً عن تلك الخصوصية ويخفض، تالياً، من فعاليته الوقائية. ويقابل هذا الرأي رأي مخالف يحمل لواءه جهات إسلامية، خاصّة، ترى أن  قانون يحمي النساء من العنف الأسري عاملاً مخرّباً على قاعدة العلاقات بين افرادها كما صاغها الدين الإسلامي، وبأن تدخّل الدولة المدنية وأجهزتها بشؤون الأسرة بمثابة تعدّ على صلاحيات المحاكم الشرعية، ومخالفٌ إذاً لأحكام الدستور الذي يمنح الطوائف اللبنانية صلاحية إدارة شؤون الأشخاص الذين ولدوا فيها.
وقد أقرّ مجلس الوزراء بتاريخ 6/4/2010 مشروع قانون تقدّم به “التحالف الوطني من أجل إقرار قانون لحماية المرأة من العنف الأسري” وأحاله على مجلس النواب من أجل إقراره النهائي بتاريخ 28/5/2010. وذلك بعد أن أضيف إليه مادة 26 تقضي بأن ” ….في حال  تعارض الأحكام الواردة في هذا القانون مع أحكام قوانين الأحوال الشخصية وقواعد اختصاص المحاكم الشرعية والروحية والمذهبية تطبق أحكام هذه الأخيرة بكل موضوع”. مجلس النواب أحاله، بدوره، إلى لجنة خاصّة منبثقة عنه كلّفت دراسة المشروع. إن اللجنة المذكورة لم تتوصّل  – وحتى كتابة هذه السطور-  إلى صيغة مقبولة من قبل كل أعضاء اللجنة نفسها لعرضها على الجمعية العمومية لمجلس النواب .هذا، وتدعم الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية ، كما دائرة شؤون المرأة في وزارة الشؤون الاجتماعية مشروع القانون الذي تقدم به التحالف المذكور، كلياً.
هذا، وقد انسحبت من اللجنة المكلّفة دراسة مشروع القانون القوات اللبنانية  احتجاجاً على تعديله وإعلاناً عن التمسك بالمشروع بصيغته الأصلية، وتعبيراً عن الإصرار على تجريم كل أنواع العنف لا سيما اغتصاب الزوجة الذي لا يجرّمه قانون العقوبات اللبناني؛ وايضاً بسبب عدم تجريم العنف الاقتصادي الذي تتعرّض له المرأة بمصادرة أموالها، سواء تلك الآيلة لها بالإرث، أو الأجر الذي تتقضاه في وظيفتها.
ب‌-    قانون مكافحة الاتجار بالبشر
في العام 2011،أبرم في لبنان القانون الرقم 164/ 2011  الذي عرف بقانون مكافحة الاتجار بالأشخاص، واعتبره المهتمون بأنه خطوة إلى الأمام لكن غير كافية لكونه عقابياً للمعتدي أكثر من كونه حامياً للضحية، بل هو يلقي على الضحية  مسؤولية إثبات تعرّضها للاستغلال. ولا تزال الآليات الإجرائية لتطبيقه قيد التحضير .
3-    حملات الترويج والتوعية
تنشط المنظمات غير الحكومية من أجل نشر ثقافة مناهضة العنف ضد المرأة على ملأ الفضاءات العامّة. وإضافة إلى المظاهرات والاعتصامات والمهرجانات والاجتماعات العامة، فهي تنظّم حملات إعلانية مستخدمةً اللوحات الإعلانية في الطرقات وفي الساحات والمفارق.  وقد أسهمت وسائل الإعلام باشكالها التقليدية ( المرئية والمسموعة والمكتوبة)  كما الحديثة (شبكات التواصل الاجتماعية) في الحملات ذات المواضيع المختلفة التي تناولتها الحركة النسائية ومنظماتها. وكان الترويج  لمشروع القانون الذي تقدمت به “الحملة الوطنية من أجل إقرار قانون حماية المرأة من العنف الأسري” من أهمها.
وأسهم إعلاميون وإعلاميات ومنتجو مسلسلات ومسرحيات إلخ. بإنتاج  أفلام وثائقية وعروض مسرحية ومسلسلات تلفزيزنية إلخ.. تناولت العنف ضد النساء. صحيح أن الدولة لم تبادر إلى تنظيم هذه الحملات، ولم تسهم في المنتجات الفنية المذكورة، لكن هيئاتها النسائية شاركت فيها، ولم تتدخل أجهزتها الرقابية أو الأمنية ولم تطلب إلى المنظمة تغيير مضمون رسائلها ولا شكلها .
وتستهدف المنظمات غير الحكومية بالتعاون مع دائرة المرأة فئات من المجتمع أهمّها الشباب والمراهقين في مدارسهم، من أجل بث ثقافة رفض العنف ضد النساء وطوّرت برامج للتعامل مع الرجال.من الفئات المهمّشة تعمل هذه المنظمات مع السجينات ومع المهاجرات؛ لكن تبقى فئات مهمّشة أخرى كالنساء المتقدمات في العمر والمريضات المزمنات جسدياً أو نفسياً وذوات الإعاقة والمثليات والعاملات في الجنس إلخ، من اهتمام الجمعيات الأهلية والمدنية حصراً.
من جهتها، فإن الدولة إذ صاغتتدابير وقائية محددةلفئات معيّنة كـ”المهاجرات العاملات في الخدمة المنزلية”، مثلاً، فإن هذه التدابير لم ترتقِ إلى كونها أحكاماً قانونية مركزية. هناك أحكام مبعثرة ضمن قوانين أخرى تعنى بالنساء ( مثل قانون العمل مثلاً)  لكنها لا تندرج ضمن باب”الوقاية” إنما ضمن تنظيم شروط المهنة .
4-    برامج التدريب
تستهدف البرامج التدريبية التي تنفذها وزارة الشؤون الاجتماعية جماعات متنوعة من الناس، يسع بعضهم أن يرصدوا عنفاً ضد النساء، ويحتمل أن يكون البعض الآخر موضع شكوى النساء. من هؤلاء، مثلاً، المرشدات الاجتماعيات، الشرطة، مقدمو الخدمات الصحية والطبية، أشخاص/ قيادات/ مرشدين دينيين من المجتمع المحلي، المدرسات والمدرسون، القضاة والمحامون إلخ. وهي تنفّذ هذه البرامج بالشراكة مع منظمات المجتمع المدني المعنية بالموضوع. وتهدف هذه البرامج إلى تحسيس هذه الفئات من الناس رفع مستوى مهاراتهم كي يستطيعوا رصد العنف والتعامل مع ضحاياه أو الإحالة إلى الجهات التي يسعها التعامل معه.
وتقوم دائرة المرأة في وزارة الشؤون الاجتماعية بتنفيذ برنامج  يهدف إلى توحيد المقاربة الطبية الإرشادية للنساء في المراكز التي تستقبل النساء، إن في المراكزالحكومية التابعة لوزارتي الصحة والشؤون الاجتماعية أو تلك التابعة للمنظمات غير الحكومية. وذلك في لقاءات تشاركية / تفاعلية بين ممثلين عن منظمات حكومية وغير حكومية، أطباء، مستشارين في القضايا الاجتماعية  والصحية ، باحثات، إلخ. إلى ذلك، فإن الدراسات تشير إلى أن العنف لا يوفّر النساء ذوات الحظوة الاجتماعية أو الاقتصادية، لكن انتشاره بين الفئات المهمّشة والفقيرة أكثر منظورية. من هنا، فإن البرامج المختصة بهذه الفئات من النساء تشكل بعضاً من وقاية ضد العنف. وقد باشرت وزارة الشؤون الاجتماعية، مثلاً، برصد  هذه الفئات في المناطق الأكثر فقراً من أجل العمل على توفير مدخول ثابت وعناية صحية وتربوية لها.

ثانياً: الحماية

لا يتعامل القضاء اللبناني مع النساء بتمييز إيجابي يقتضيه كون العنف الأسري الذي يتعرّضن له، خاصة، يختلف نوعاً عن العنف الذي يتعرّض له الرجل. فيتعيّن على الإثنين تقديم شكوى شخصية والتقاضي شخصياً لدى تعرّض أي منهما للعنف، ولا يمكن أن ينوب عن أي منهما أحد (باستثناء المحامي طبعاً). فلا يمكن، لجمعية تعنى بمناهضة العنف ضد المرأة ولا لمرشدة اجتماعية أو طبيب  إلخ ممن عاينوا العنف ضد امرأة، مثلاً، تقديم هذه الشكوى، ناهيك بإقامة دعوى قضائية بتلك الخصوص.
وتتصف آلية الشكوى من العنف بما يلي: في حال توجهت المرأة إلى المخفر في غضون 24 ساعة للشكوى فإن شكواها تقع في إطار “الجرم المشهود”، والمخفر ملزم، في هذه الحالة، بتنظيم محضر وتبليغ المدعي العام في غضون 24 ساعة وجلب الجاني وأخذ  تعهد خطي منه بألا يتعرض للشاكية مستقبلاً. ويبلّغ المخفر المدّعي العام الذي يطلب من الطبيب الشرعي أن يفحص الحالة. فإذا أخذت المرأة تقريراً طبياً بالتعطيل يتجاوز الـ 10 ايام، يُحال المعنِّف إلى المحكمة، حتى لو لم  تقدّم المرأة المتضررة دعوى شخصية، ذلك أن ادعاء النيابة العامة في هذه الحالة يحرك الدعوى العامة.
أما إذا لم تقم المرأة بالتبليغ خلال 24 ساعة، فإنه يتوجّب عليها التوجّة إلى النيابة العامّة ومعها تقرير من الطبيب الشرعي. إذ ذاك تحيل النيابة العامة المرأة إلى المخفر حيث يتم التحقيق في الموضوع.
إلى ذلك، فإن لأي شخص، امرأة كان أم رجلاً، الحق بالمعونة القضائية إذا ما أقام دعوى أمام القضاء المدني. ويحكم للشخص بالمعونة القضائية إذا أثبت فقر حاله؛  هذا الإثبات رهن معاملات مكلفة نسبياً، وعلى درجة غير قليلة من التعقيد. وفي حال استجابة القاضي المدني لطلب السيّدة، مثلاً، فإذ يكلّف خبيراً لمعاينة الضرر الذي تدّعيه. على أنالبدل المالي لخدمات الخبير هو، غالباً، ليس بمتناول من يطلب معمونة قضائية- أي فقير الحال نسبياً.
ولا يتعدّى التنسيق بين النيابة العامة والوكالات الأخرى ما ذُكر(أطباء شرعيين، شرطة،  إلخ). الجدير ذكره أن الشرطة لا تملك سلطة تستطيع بموجبها منع الرجل من الاقتراب من سكن الزوجة. وذلك لأن المنزل- السكن المشترك للزوجين، أو لرب العائلة، مسجل باسم الرجل، أي ملكه، ويحق له البقاء فيه حتى لو كان وجوده فيه يشكل خطراً على واحد أو أكثر من  أفراد الأسرة.
إلى ذلك، فإن القضاء لا تتوافر لديه أوامر منع التعرض/ الحماية، ولا يمكن للمحكمة أن تطرد الجاني من مسكنه، ولا تملك أن تأمر للضحية الاستخدام الحصري لأصول العائلة، ولا إصدار الأمر بالحضانة الموقتة للأطفال ولا الأمر بخضوع الجاني للتأهيل النفسي. لكن يمكنها سجنه في حال ارتكابه جريمة موصوفة.
وإذا رفضت المرأة متابعة قضيتها، تحفظ القضية وتسقط الملاحقة / الحق العام باستثناء حالة الجرائم الكبرى. ولا يوجد تدبير يفرض سياسة إجبارية يحظر بمقتضاها إسقاط الملاحقة في حال العنف ضد المرأة في إطار الأسرة. وتشير الدراسات إلى أن القضاة لا يميلون إلى التسامح مع قضايا العنف ضد النساء، ولا إلى دفع المرأة إلى القبول بتسوية الأمر مع مرتكبي العنف بشكل واضح. لكنهم يصدرون أحياناً أحكاماً تتسم بتخفيف العقابعن قاتل المرأة.
نشير إلى أن الإحصاءات الأخيرة تبيّن إلى أن 40% من الجسم القضائي من النساء، وبأن مجلس القضاء الأعلى يضمّ ثلاث نساء. كما أن الدفعة الأخيرة من التعيينات في قوى الأمن قد اشتملت 610 عضواً من النساء.

ثالثاً: العقاب

في غياب قانون يتناول العنف ضد النساء تحديداً، فإن عقاب الجاني المعنّف يقع في إطار قانون العقوبات العام الذي لا يأخذ بعين الاعتبار بعض الجرائم التي تمارس على النساء بشكل شبه حصري.
فلو أخذنا الاغتصاب مثلاًالمادة  503 من هذا القانون التي تنصّ على ما يلي: “من أكره غير زوجه ( التشديد هنا)  بالعنف والتهديد على الجماع عوقب بالأشغال الشاقة خمس سنوات على الأقلّ…”، فلا يعتبر اغتصاب الزوجة جرماً. كما أن المادة 522 تنص على أنه ” إذا عقد زواج صحيح ( كذا!) بين مرتكب إحدى الجرائمالمتعلقة بالاعتداء على العرض المنصوص عليها في المواد 503 إلى 521″( الاغتصاب، مثلاً)، “وبين المعتدى عليها، أوقفت الملاحقة وإذا سبق وصدر حكم بالقضية عُلّق تنفيذ حكم العقاب الذي فرض عليه”. ولا يُجرّم الاغتصاب في أوقات الحروب والنزاعات بشكل متخصص. وفي موضوع جريمة الضرب والإيذاء التي عالجتها المواد 554 وما يليها تمييز مضمر ضد النساء وفي جرائم الزنى التي تعالجها المادة 487 وما يليها تمييز صريح. ولم تُلغ المادة 562 من قانون العقوبات التي تخفف عن قاتل قريبته أو زوجته الحكم القضائي،  إلا منذ أقل من سنة.
ولا توجد مواد قانونية تحدد بالاسم كل من الجرائم التالية: الاعتداء والتحرّش الجنسيين، العنف الأسري، الزواج القسري ( لا يعتبر تزويج القاصر من قبل أبيها- أي، وكيلها – زواجاً قسرياً).  ولما كان سن الزواج محدد في قوانين الأحوال الشخصية المختلفة عندنا، فإن زواج الأطفال غير مجرّم في بعض المذاهب.
وفي الإجمال، فإن المواد المدرجة في قانون العقوبات قد صيغت بمفردات وتعابير عامّة، أو متقادمة، فلا نجد وصفاً دقيقاً أو تسمية محددة لبعض الجرائم، كأن يدرج التحرّش الجنسي، مثلاً، تحت عنوان “الجرائم المخلة بالأخلاق والآداب العامة”؛ كُما تقتصر العقوبات على السجن والأشغال الشاقة والغرامات المالية، فلا تستدعي التأهيل أو العلاجين السلوكي والنفسي؛ اي أن هذا العقاب لا يترافق مع تدابير يسعها التخفيف من احتمال “العودة”/ الانتكاس إلى ممارسة الجرم. وهي لا تختلف عن عقوبات لجرائم مشابهة حيادية جندرياً، جناة أو ضحايا، فلا تؤسس لإمكانية الردع بشكل خاص.
ويجد الحقوقيون  المعنيون أن “قانون العقوبات الذي وضع في زمن غبر، كان قد أفرز آليات وإجراءات وأجهزة لتخدم خيارات ذلك الزمن من هنا افتقاره اليوم إلى الفعالية والحاجة الماسة إلى تعديله” فهو يقف على اعتاب المنازل  بسبب حرمتها… وكأن للظلم من حرمة.

رابعاً:الخدمات

لا تزال الدولة اللبنانية تتلكّأ في إنشاء ملاجئ لضحايا العنف تخصيصاً تتولّى هي إدارتها. لكنها تعاقدت مع أربعة ملاجئ تملك ثلاثة منها جمعيات خيرية دينيةتؤوي نساء، لا يملكن مكاناً ولا موارد تسمح لهن بتوفير مسكن بديل، وإن موقتاً، ريثما يزول عنهن خطر العنف الداهم. هذه الملاجئ، وإن كانت ترغب بتقديم خدمات شاملة وقائية وحمائية، فإن مواردها المحدودة تمنع عنها ذلك.
وتوفّر مراكز الخدمات الإنمائية التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية، والتي يتجاوز عددها المائة والمنتشرة مقراتها في محافظات لبنان الست، خدمات طبية ونفسية وقانونية وثقافية للنساء عامّة ولضحايا العنف، ضمناً. على أن هذه المراكز متفاوتة التجهيز ويفتقد بعضها الموارد البشرية والمالية الضرورية. هذه المراكز تتعاون مع المنظمات غير الحكومية والبلديات والشخصيات القيادية، من الأوساط المحلية أو دينية وغير ذلك.

خامساً: التعويض

باستثناء التعويضات  النقدية التي يحق للمعتدى عليها المطالبة به، أمام الجهة القضائية نفسها التي تنظر بالجرم، فإن نظام العقوبات لا يعيّن تعويضات للضحية؛ وهذه يسعها أن تكون تعويضاً عن كل أنماط الضرر: المادي والجسدي والعقلي والمعنوي، ضياع الفرص، التكاليف التي ترتبت عن المساعدة والقانونية والعلاجات الجسدية والنفسية إلخ. فنحن لا نعرف المحاكمات الرمزية، ولا يسع القاضي الطلب إلى الجاني، مثلاً، تقديم اعتذار للضحية، ولا إفشاء “حقيقة ما” في حال طلبت الضحية ذلك  إلخ. من تعويضات معنوية  ذات أهمية رمزية محتملة. وتشير الدراسات القليلة التي تناولت الموضوع، بأن مَن مِن النساء قد أوكلت محامياً، فقد طالبت بتعويضات من كل الأصناف؛ العكس بالعكس. ما يشير إلى قصور في معرفة النساء لحقوقهن بذلك التعويض.

أخيراً:استنتاجات

في محاولتنا لاستكشاف أوجه التزام الدولة اللبنانية- مؤسساتها وأجهزتها- بمعايير “العناية الواجبة” بما يطول إلى مناهضتها للعنف ضد النساء في بلادنا نخلص إلى  ما يلي:
تبدو الدولة اللبنانية منخرطة في مناهضة العنف ضد المرأة في مجالات وعلى أصعدة معيّنة، لكنها مترددة في مجالات أخرى. هي تنحو لتبنّي خطاب حقوق الإنسان كما يتجلّى في إبرام الاتفاقيات الدولية، وفي صوغ استراتيجيات وخطط وزاراتها ووحداتها الرسمية المعنية بشؤون المرأة وقضاياها، وفي عقدها  لشراكات فاعلة مع المنظمات العربية والأهلية وغير الحكومية اللبنانية في مجالات مختلفة ذات صفة وقائية أو حمائية ، إن بتوفير خدمات  أو في نشر الوعي تربوياً وإعلامياً حول الموضوع.
لكن الدولة تبدي تردداً في معالجة الموضوع بشكل شامل. ومن مظاهر ذلك التلكؤ في اتخاذ سياسة واضحة تجاه الرصد المنهجي لظاهرة ممارسة العنف ضد النساء. ففي حين صدرت توصيات من جهات متنوعة دولية ومحلية تحث الدولة على إدماج موضوع رصد العنف الأسري في إحصائياتها العامة، فإن المسؤولين في مديرية الإحصاء المركزي لا يزالون يتجاهلون الطلب بحجج ذات صلة بخصوصية ثقافتنا الاجتماعية. فنفتقد، في غياب القاعدة الإحصائية الصلبة، ركناً من أركان مسوّغات التدخل الاجتماعي وحجّة أساسية لضرورته.
وفي المجال القانوني، يُبدي المشرّع تلكؤاً في إقرار ضمانات دستورية صريحة للمساواة الجندرية مكتفياً، ربما، بتضمينها المُضمر في المادة 7 في الدستور وبكون المساواة المذكورة من المترتبات المنطقية لإدراج ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان جزءاً لا يتجزّأ من الدستور اللبناني. كما أن اللجنة المكلّفة من قبل مجلس النواب لدراسة مشروع قانون لحماية المرأة من العنف الأسري  تبدي ممانعة صريحة في إقرار القانون الذي اقترحته الجمعيات ذات الصلة بل هي خضعت، في مسار  العملية التشريعية للقانون، لمتطلبات الفئة الأكثر أبوية في مجتمعنا هي المحاكم المذهبية القابضة على أحوال الناس الشخصية.
إن التلكؤ في تنفيذ الإحصاء الضروري لرصد انتشار العنف ضد النساء في مجتمعنا، إضافة إلى الممانعة في إقرار القانون الشامل المقترح من الهيئات غير الحكومية لحماية النساء من العنف الأسري ينطويان باتجاهات سياسية واجتماعية ترى إلى العنف الذي يمارس على النساء في إطار أسرهن، إما شأناً من شؤون الأسرة الخاصة، أو كونه حالات منفردة يقوم به أشخاص غير اسوياء ليستدعي، بذلك، مواجهات ترميمية مبعثرة، لا مواجهة مجتمعية شاملة. فيما الرقيّ بمقاربة الموضوع إلى المستوى الدستوري أو القانوني الشامل بمثابة إقرار بأن العنف الممارس على النساء في إطار اسرهن ليس شأناً خاصاً بالأسرة، ولا موضوعاً استثنائياً ولا عرضياً، بل هو ذو صلة بطبيعة النظام الاجتماعي الأبوي وفي بنية هيكله. ولما كان قانون حماية النساء من العنف الأسري المقترح قد صيغ وفق نموذج دولي،فقد اشتملت بنوده على حماية الضحية والتعويض عليها، كما تضمّن أوجه معاقبة الجاني وسبل تأهيله، أي ما يسمح لمؤسسات الدولة القضائية والأمنية والاجتماعية بالاستجابة لمتطلبات “واجب العناية” على نحو فاعل.

إن التحدّي الذي يواجه الدولة اللبنانية يتمثّل، أساساً، بـ”ازدهار” الطوائف الدينية المضطرد في بلادنا وتبلورها كقوى سياسية عظيمة التأثير. هذه الطوائف دأبت على تقويض سلطة الدولة في مجالات،لا تزال تتكاثر، عاملة على تحويل الناس إلى رعايا خاضعة لنظمها في المجال الأسري، خاصّة، وتجد في تدخّل الدولة في ذلك المجال تعدّياً على صلاحياتها التي “فوّضها” إياها الدين والدستور اللبناني. هكذا، فإن قانوناً يحمي المرأة من العنف الأسري، مثلاً،ينتقص، وفق نظرة هذه الطوائف، من صلاحية  المحاكم المذهبية- السلطة الأعلى فيها-  المؤتمنة على أحوال العباد الأسرية، وينال، على نحو غير مباشر،من الصيغة الطائفية لنظامنا الاجتماعي – السياسي.
إن العناية الواجبة على الدولة اللبنانية في مواجهة العنف ضد النساء تصطدم في لبنان ،محكومة دولتهفي ايامنا الحاضرة وبدرجة غير قليلة، بالبنى الطائفية ومؤسساتها التي تعمل على تقويض إمكانية هذه الدولة الالتزام بمعايير هذه العناية. لذا، فإن المساءلة التي تُخضعها الأمم المتحدة للدولة اللبنانية حول تلبيتها العناية الواجبة ينبغي أن تتوسّع لتشتمل على  الطوائف ومؤسساتها. لعله من “واجب” الأمم المتحدة ومؤسساتها العمل على مؤازرة الدولة اللبنانية- وغيرها من الدول التي تتقاسم مؤسسات الدولة فيها “مواطنية” الناس فيها مع بنى اجتماعية سابقة على الدولة- لمواجهة استبداد الطوائف الدينية ومؤسساتها على الناس؛ وذلك عبر تجاوزها مسألة “الخصوصية الثقافية”، وابتكار آلية تجعل هؤلاء الطوائف- تماماً كما تجعل الدولة-  موضع محاسبة/ مساءلة لخروقهم للشرعة العالمية لحقوق الإنسان وللمواثيق الدولية المرتبطة بها.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني