تكوين القضاة بين الإهمال و الإمهال


2016-03-31    |   

تكوين القضاة بين الإهمال و الإمهال

ما هو المقصود من عبارة تكوين القضاة الذي اتخذته العديد من المعاهد العليا للقضاء على عاتقها كنبراس يضيء طريق المبتدئين من القضاة نحو المهمة الشاقة والخطيرة  الدقيقة التي سيتواصلون معها لبضع السنوات المقبلة في حياتهم المهنية؟ وما هو المغزى الحيني والبعيد من هذا التكوين؟ السؤال المطروح غالبا هو هل يجب فعلا إخضاع القاضي وجوبا لتكوين معين حال أنه درس ثلاث أو أربع سنوات في كليات الحقوق واطلع على العديد  من محاور القانون؟ في الحقيقة لا توجد إجابات جاهزة. ولكن المنطق يقول إن الضرورة في إخضاع القضاة لتكوين تكمن في أن التدريب المحكم  للقضاة من شأنه أن يلمس وجدان القاضي فيتشبع  بالمبادئ المعرفية القانونية وتقنيات الحكم وفصل النزاعات بأنواعها. أما الهدف الثاني، فانه يتعلق بتدريب القاضي على ممارسة استقلاليته عند اتخاذ القرارات القضائية التي يصدرها وتشبعه بعقلية معينة متجهة نحو الاقتناع القطعي بأن استقلال القضاء هو الآلية المحورية التي تمكّن القاضي من نشر العدالة بخلايا المجتمع عموما وإيصال الحقوق لأصحابها على وجه الخصوص دون الاستسلام أو الخضوع لأي تأثير كان ودون سيادة أو سلطان عليه. فلا سلطان عليه إلا للقانون: وعليه تالياً الإلمام به وفهمه وملاءمته بحثا وتحقيقا وتمحيصا، مع الوضعيات التي يتعرض إليها بمناسبة القضايا المعروضة عليه. وعلى خلفية هذه الإعتبارات، أحدثت تونس على غرار العديد من البلدان الأخرى معهدا أعلى للقضاء يتكفل بهذا التكوين، وأطلقت عليه تسمية “المعهد الأعلى للقضاء” وذلك بموجب القانون عدد80 لسنة  1985 المؤرخ في  11 أوت 1985.

إحداث المعهد الأعلى للقضاء: تكوين للقضاة أم تأطير لهم؟

أحدثت مؤسسة المعهد الأعلى للقضاء لتستقطب الناجحين في مناظرة الالتحاق بالقضاء. وكانت تحدد عددهم إمكانيات وزارة المالية بخمسين قاضياً، ثم بدأت أعداد هؤلاء تتزايد ارتفاعا حسب الظروف المالية المذكورة آنفاً. ولسائل أن يسأل إن كانت الغاية من إحداث المعهد الأعلى للقضاء سنة 1985 فعلا تقويم العود الطري ومساعدة الشبان من القضاة على فهم النزاعات وتعليمهم أنجع الطرق لفض الخصومات وحسمها بين المتقاضين بكل استقلالية وبعيدا عن النمطية الشكلية العتيقة؟ في حقيقة الأمر، إن الغاية من إحداث المعهد كانت في ظاهرها كذلك. أما إذا تمعنّا في توقيت صدور ذلك القانون، فإننا نلاحظ أنه برز مباشرة في إثر التململ الشعبي التونسي في ذلك الوقت بعد ثورة الخبز في أبريل 1984. ثم بعد ذلك، خرج القضاة في سنة 1985 في مظاهرة حاشدة بشارع باب بنات محتجين ضد عديد المسائل، تمّ على إثرها ضرب بعض القضاة بيد حديدية مرت بين العزل والحرمان من المرتبات لمدة طويلة والتوبيخ إلى غير ذلك. وعليه، تمّ إحداث المعهد من طرف الحكومة ظنا منها أن ذلك المعهد سيكون القيد الأوحد على قضاة المستقبل والعين الرقيبة مرورا بالتكوين الذي تراه الحكومة ناجعا لمصلحة استقرارها وديمومتها وحلا ليصير مصير القاضي بيد السياسي وذلك طوال عامين كاملين. في حقيقة الأمر، تراوحت فكرة التكوين للقضاة عن طريق المعهد الأعلى للقضاء بين مشجعين ورافضين. وعلى كل حال، تخرّج العديد من القضاة طوال السنوات المنصرمة وإن بقي المعهد محلّ انتقادات واسعة.

إهمال التكوين بالمعهد الأعلى للقضاء

يعاني المعهد الأعلى للقضاء من عدة مشاكل مردها النواقص التي تعتري هذا الصرح العلمي والقضائي بموجب القانون. ومنها نواقص هيكلية وتنظيمية ومنها نواقص تتعلق بمحتوى التكوين في حد ذاته. وهما عنصران سنتناولهما بالذكر على التوالي.

إهمال الجانب التنظيمي و الهيكلي للمعهد الأعلى للقضاء

لئن تسعى بعض الإدارات المتتالية والمتعاقبة على المعهد الأعلى للقضاء في بذل الجهود لتطوير ماهية التكوين بالمعهد، إلا أنها كانت مقيدة بالقانون. فغالبا ما تذهب هذه الجهود هباء أمام النصوص التي ترجع في معظمها إلى التسعينيات مهملة في جانب كبير متطلبات القضاء من جهة وتاركة التطور البشري والاجتماعي والاقتصادي في بلادنا لهامش الصدف وعرضة للنقد. ومن الملاحظ أن المعهد الأعلى هو مؤسسة عمومية ذات صبغة إدارية وهو يخضع لسلطة إشراف وزارة العدل.[1] ولقد حدد القانون المحدث للمعهد مهام هذا الأخير والمتمثلة بتكوين الملحقين القضائيين لتدريبهم وتأهيلهم لمهنة القضاء ولاستكمال الخبرة بالنسبة للقضاة المباشرين.[2] ويتطلب تكوين القضاة إطارا إداريا متمتعا بالاستقلالية وذات تجربة في القضاء على أن يكون متفرغا تمام التفرغ لهذه المهمة وملما بالاخلالات والهنات التي تعترض القاضي أثناء قيامه بعمله. كما انه يجب أن يكون لهذا الإطار الإداري جلّ الوسائل المادية والبشرية التي تمكنه من إدارة المعهد في كنف أحسن الظروف. ولكن من المؤسف أن نلاحظ إهمالا واضحا لهذه المؤسسة. فقد عهد على تسييرها منذ إحداثها مدير عام لوحده، يكون عليه أن يشرف على كل نظم المتعلمين بالمعهد من ملحقين قضائيين ومساعدي قضاء وكتبة محاكم وقضاة مباشرين إلى غير ذلك، مع ما يستتبع ذلك من إثقال وإرهاق. ومن جهة أخرى، فان نص القانون الصادر سنة 1999 مكّن المدير العام من مديرين لمساعدته. ولكن النص الذي ينظم هذه الإدارة ورد مبهماً ولم يبين مهام مدير الدراسات ومدير التكوين المستمر بصفة مدققة.

وعلى مرّ السنين، ازداد حجم المتعلمين بالمعهد الأعلى للقضاء، وتم إمضاء اتفاقية ثنائية بين المعهد الأعلى للقضاء بتونس ومعهدي القضاء في فرنسا وإيطاليا[3] وازداد حجم اهتمامات مدير الدراسات والتكوين الأساسي ومدير التكوين المستمر الذين أثقلا بمهام وبأشغال لم يعد بإمكانهما القيام بها لوحدهما[4] ، كل ذلك في إطار الإهمال التشريعي.

أما من ناحية تكوين القضاة في حد ذاته  فانه يشمل عديد المآخذ من القضاة المتدربين أنفسهم ومن غيرهم من القضاة.

اهمال من حيث التكوين الفعلي للقضاة

يخضع تكوين القضاة إلى حدّ هذا  اليوم، للنصوص التي تم سنها سنة  1989[5]. وقد تضمنت هذه النصوص  أن تكوين الملحقين القضائيين يكون على نوعين: تكوين نظري بالسنة الأولى وتكوين تطبيقي بالمحاكم بالسنة الثانية على أساس أن التدريب بالمعهد يتم على مدى سنتين كاملتين.[6] ولكن  نادرا ما تم التكوين بالنسبة للقضاة لمدة سنتين. فوزارة العدل هي التي تتولى الإشراف على مناظرة الدخول إلى القضاء وتشرف على النتائج وتكون بداية السنة القضائية دائما عند حلول شهر ديسمبر أو جانفي. وهذا من شانه أن ينقص من مدة التدريب.

وبخصوص مواد التدريس، فان هذه المواد لا تزال على شاكلتها القديمة ولم تتغير منذ القرار الوزاري الصادر في 1989. فالتوسع الواجب ذكره يتعلق فقط بإقحام تدريس مادة الإعلامية[7]، وحقوق الإنسان[8]. وما يتذمر منه الملحقون الفضائيون هو كثرة المواد والطريقة الكلاسيكية التي يلقي بها المدرسون الدروس عند تكوينهم. ولقد حان الوقت لتغييرها، وخصوصا بما يتصل بالمواد القانونية التي برزت طوال العقود الأخيرة و للمسائل الشائكة التي طرأت بعد الثورة، مثل مسائل الإرهاب والبيئة وحماية الأملاك الثقافية والنزاعات الالكترونية وإلى ما هنالك من مسائل.
ولئن يوجد العديد من المدرسين من هم متمكنون من المواد التي يلقونها على مسامع المتدربين، إلا أن اختيار هذا الإطار العلمي يبقى غير منظم بصورة موضوعية وعلمية. وعليه، لا يتضمن المعهد حتى اليوم إطارا علميا قارا ومتفرغا لتدريب القضاة.

إن تعصير آليات ومواد التدريس أصبح من الضروريات خاصة فيما يتعلق بتكوين القضاة في بعض اللغات وفي المعاهد العليا للقضاء بالخارج. ولا ننسى أن القرار الوزاري لسنة 1989 السالف الذكر لا يوزع طرق التكوين بين السنتين توزيعا عادلا يمكن المتعلمين من الاستفادة ويفسح للملحقين القضائيين المجال في التعمق بما يباشرونه من أعمال وأشغال. ومن شأن سوء التوزيع هذا أن يهدر مجهود كثيرين، وخصوصا الملحقين الفضائيين والقضاة الذين يباشرون التربص التطبيقي والميداني معهم بالمحاكم. فعليهم أن يتدربوا بالدوائر القضائية التي تعينها إدارة المعهد وأن يعدوا رسائل تخرّج يقدمونها وجوبا للمعهد قبل شهر ماي، وعليهم  في ذات الوقت تحرير تقريري تربص عن نشاطهم التـأهيلي، أولهما يقدم لإدارة المعهد قبل شهر مارس والثاني قبل شهر جويلية. ونتيجة ذلك، يصبح الملحق القضائي أشبه بآلة تركض من مؤسسة لأخرى ومن مكتب قاض لآخر، لا يركزون في أمر ولا يتقنون تربصهم.

ويبدو أن التكوين المستمر المتعلق باستكمال خبرة القضاة المباشرين لا يتمتع بحظ أوفر. فهو يتواصل بنفس النسق العتيق الذي يواصل القضاة التذمر منه في أثر كل ملتقى علمي يحملون على حضوره. اذ و لئن تكون المواضيع المختارة دسمة، إلا أن النصوص البالية لا تقترح تحسين هذا الاستكمال للخبرة. وغالبا ما يضطر العديد من القضاة المباشرين لسماع ثلاثة أو أربعة متداخلين  في اليوم الواحد، يلقون مداخلاتهم بصورة كلاسيكية الشيء الذي يبعث الفتور والملل في أنفس الحضور.

ولئن تعاقب أشخاص عدة بعد الثورة على وزارة العدل، إلا أن الواقع لا يستشف منه إلا إمهالاً طال الوعد به. فترتيب قانون التكوين الأساسي والمستمر للقضاة من ضمن أولويات الوزارة المتعلقة بمراجعة القوانين ما يزال محكوماً بالإنتظار.

نشر في العدد 4 من مجلة المفكرة القانونية تونس


[1]الفصل 2 من القانون عدد 80 لسنة 1985 المؤرخ في 11اوت 1985 و المتعلق باحدااث المعهد الاعلى للقضاء.
[2]الفصل 3 من ذات القانون.
[3]عقد التوأمة الممضى في 28 سبتمبر 2015 تحت إشراف برنامج مساندة وتعصير القضاء.
[4] اصبح المعهد يستقبل كل سنة فوجا من العدول  المنفذين و عدول الاشهاد بموجب القانون عدد 70 لسنة 1992 الصادر في 27 جويلية 1992 و الذي وسع مهام  المعهد الاعلى للقضاء .
كما ان المعهد الاعلى للقضاء يتولى تكوين المترجمين المحلفين و الخبراء العدليين  القضاة القادمين من البلدان الشقيقة و الصديقة كموريتانيا و الكويت و الكونقو وقطر.
[5] قرار وزير العدل المؤرخ في 18 جانفي1989 .الرائد الرسمي  عدد6 الصادر في 27 جانفي 1989.
[6]2 من القانون المذكور  الفصل
[7]-قرار وزير العد المؤرخ في 4ماي 1995
[8]قرار وزير العدل المؤرخ في  26 جوان 1993.
انشر المقال

متوفر من خلال:

استقلال القضاء ، مقالات ، تونس ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني